سعيد الحاج - الجزيرة

أثار قرار تركيا وجمهورية شمال قبرص التركية فتح جزء جديد من منطقة "ماراش" أو "فاروشا" في الجزيرة ردود فعل غاضبة من قبرص واليونان وأطراف دولية، مما ينذر باحتمال نشوب أزمة جديدة بينها وبين أنقرة، كما يشير إلى تبني تركيا لرؤية جديدة لحل القضية القبرصية.

قضية مجمدة

كان التدخل التركي في قبرص عام 1974 تحت اسم "عملية سلام قبرص" استثناءً لسياسة تركيا الخارجية وكسرًا لقاعدة "سلام في الوطن، سلام في العالم" التي بقيت شعارًا للسياسة الخارجية التركية المنكفئة على نفسها لعقود. وقد نفذت تركيا العملية -رغم اعتراضات حلفائها الغربيين- وتحملت في سبيل ذلك عقوبات أميركية استمرت سنينًا لأنها نظرت للأزمة من منظور قومي، باعتبارها تهديدًا لأمنها القومي مما قد يكسر المعادلات القائمة مع اليونان منذ نهاية الحرب العالمية الأولى.

رأت تركيا أن تدخلها في الجزيرة حمى أبناء عرقها القبارصة الأتراك من التصفية على يد انقلاب قبرصي، متأثرٍ بالانقلاب في اليونان وراغبٍ في نقض التوازنات السياسية القائمة في الجزيرة منذ تأسيس الدولة بين العرقين اليوناني والتركي. ومنذ ذلك الحين، ما زالت القضية بدون حل جذري يعيد للجزيرة وحدتها السياسية ولحمتها المجتمعية.

إحدى المحطات الرئيسة الساعية لحل الأزمة القبرصية كانت خطة الأمم المتحدة عام 2004، التي حملت اسم أمينها العام الأسبق كوفي أنان، ودعت الخطة إلى توحيد الجزيرة في دولة ذات نظام فدرالي واشتملت على استفتاء شعبي لسكان الجزيرة في جزأيها الشمالي التركي والجنوبي الرومي/اليوناني. وعلى عكس التوجهات المعروفة عنهما تقليديًا، صوَّتَ معظم القبارصة الأتراك (قرابة %65) لصالح الخطة والوحدة، في حين صوت معظم القبارصة اليونانيين (أكثر من %75) ضدهما.

قبولُ الاتحاد الأوروبي عضوية قبرص رغم فشل الاستفتاء/الخطة ساهم في استعصاء الحل حتى اليوم، بتغييب أحد أهم عناصر الضغط على الطرف الرومي. ولذلك، لم يصل الطرفان ومعهما الضامنون الثلاثة (بريطانيا واليونان وتركيا) لحل نهائي أو حتى اقتربوا منه حتى اليوم، رغم عدد من المبادرات وجولات الحوار، بعد قرابة نصف قرن من الأزمة.

خطوات جديدة

بعد التدخل التركي ومع تأخر حل نهائي للأزمة القبرصية، أعلنت في 1983 جمهورية شمال قبرص التركية، وانفردت تركيا وحدها بالاعتراف بها، عادَّةً إياها "الوطن الابن" أو "الوطن الأصغر" في حين يعترف باقي العالم وفي مقدمته الاتحاد الأوروبي بقبرص ممثلة بقيادتها القبرصية اليونانية.

الجمود السياسي كسرته الجمهورية الشمالية مدعومة من تركيا مؤخرا بشكل ملحوظ وبخطوات متدرجة، والعنوان منطقة ماراش (بالتركية) أو فاروشا (باليونانية) في الجزيرة. وهي منطقة سياحية مشهورة تقع في المنطقة العازلة بين قبرص الشمالية والجنوبية، وأغلقت بعد التدخل التركي ثم تحولت إلى منطقة عسكرية مغلقة، وبقيت كذلك حتى العام الفائت.

ففي أكتوبر/تشرين الأول 2020 -خلال زيارة للرئيس التركي إليها- أعلنت جمهورية شمال قبرص التركية عن افتتاح جزء (زهاء 2 كلم) من الشريط الساحلي لمنطقة ماراش وجادّة خلفية قريبة من الساحل لاستخدام المدنيين. استحثت الخطوة التركية القبرصية ردود فعل منددة من عدة أطراف، في مقدمتها الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة واليونان وقبرص، لكن ذلك لم يؤثر في القرار والمسار.

الخطوة الثانية أتت في نهاية يوليو/تموز الفائت، في ذكرى العملية العسكرية التركية في الجزيرة وأيضا خلال زيارة أردوغان على رأس وفد تركي رفيع للجزيرة، بل كان أردوغان نفسه أول من أعلن عن هذه الخطوة الثانية. فقد قال إن عملية افتتاح ماراش مستمرة، وإن السلطات القبرصية التركية سوف تعلن قريبا عن افتتاح جزء إضافي من المنطقة (قرابة %3.5) للعامة، مؤكدا أن عملية فتح المنطقة سوف تستمر بشكل مدروس ومتدرج.

الخلفية والآفاق

خلاصة الأمر، يبدو الأمر وكأن كلاً من تركيا وقبرص التركية تعملان على خطوات رمزية متدرجة في الجزيرة، وتحديدا في ماراش/فاروشا، رغم الاعتراضات التي تكررت هذه المرة أيضا من مختلف الأطراف. أما في الخلفية، فإن الخطاب الرسمي التركي يحيل إلى قناعة ترسخت لدى أنقرة بأن الحل الفدرالي لم يعد ممكنا في الجزيرة المقسّمة منذ عقود، وأن الحل ينبغي أن يكون على أساس دولتين واحدة للقبارصة الأتراك وأخرى للقبارصة اليونانيين.

هذا التغيُّر الجذري في موقف تركيا، ومعها قيادة قبرص التركية، مدفوع -فيما يبدو- بعاملين رئيسين، الأول جمود الحل بخصوص القضية ومراوحتها بدون أفق مستقبلي واضح، والثاني اكتشافات الغاز في شرق المتوسط.

تقول أنقرة إن الحل الفدرالي فقد فرصه بعد رفض القبارصة اليونانيين له في استفتاء عام 2004، وعدم تقديمهم أي مؤشرات حقيقية على تغيير رأيهم، وتتهمُ اليونان والقيادة القبرصية بعدم الرغبة في الحل الفدرالي وإضاعة الوقت من دون إمكانية التوصل لحل قريب، وهو ما يدفعها للبحث عن حلول أخرى قد تكون عملية أكثر مثل حل الدولتين.

وأما العامل الثاني فهو البحث التركي الحثيث عن الغاز الطبيعي في شرق المتوسط، وهو الأمر الخلافي مع اليونان التي تريد أن تستأثر بأغلب المساحات -وبالتالي ثروات المنطقة- وفق رؤيتها لترسيم المناطق الاقتصادية الخالصة بالتنصيف بين تركيا والجزر اليونانية الصغيرة، في حين تدعو تركيا لمنطق الإنصاف وليس التنصيف، أي مراعاة الفروق الهائلة بينها بكونها دولة كبيرة على البر وبين الجزر اليونانية الصغيرة المتشظية في البحر.

وقد سعت أنقرة لمواجهة المطالب اليونانية عن طريق الاتفاقية التي أبرمتها مع حكومة الوفاق الوطني الليبية في نهاية 2019، وما زالت تسعى لأمر مشابه مع مصر. وفي حال أصبحت قبرص الشمالية دولة مستقلة، فإن ذلك سيمكنها من ترسيم الحدود البحرية معها بشكل مباشر وبما يحيّد اليونان وقبرص اليونانية إلى حد كبير، وبما يمنحها أفضلية كبيرة عليهما في المنطقة.

ولعل ما يعطي لطرح تركيا جرأة واندفاعا إضافيين كون الرئيس الجديد لجمهورية شمال قبرص التركية أرسين تاتار مقربا منها ومتفقا معها في المسار السياسي، على عكس الرئيس السابق مصطفى أكينجي الذي عُرف ببعض التصريحات الناقدة لتركيا وبالسياسات المختلفة معها.

في التقييم، يمكن القول إن الخطوة الأخيرة رمزية إلى حد كبير وتسعى إلى تحريك الملف وليس إلى الإطاحة به. ذلك أن رد تركيا على الانتقادات الأممية والأميركية والأوروبية على الخطوة ركز على أنها خطوة إدارية تنفيذية بسيطة تهدف إلى الانتفاع بالمنطقة المغلقة منذ عقود، ولكن من دون تغيير وضعها القانوني أو تنفيذ أي إحلال سكاني أو حرمان القبارصة اليونانيين من ممتلكاتهم.

ولذلك تركز سردية الدبلوماسية التركية بأن قرار مجلس الأمن رقم 550 لعام 1984 لم يُنتهك في الخطوة الأخيرة والتي سبقتها، وهو القرار الذي رفض أي تغيير ديمغرافي أو إحلال سكاني ودعا لنقل المنطقة إلى إدارة أممية. كما أن جمهورية شمال قبرص التركية تؤكد على استمرار عمل "لجنة العقارات" المختصة بقبول طلبات القبارصة اليونانيين لاستعادة أملاكهم وعقاراتهم أو مبادلتها أو قبول التعويض عنها.

ختاماً، تبدو الخطوة التركية تحريكا لملف القضية القبرصية بورقة ضغط أقوى من السابق، ورميا للكرة في الملعب اليوناني الأوروبي، بحيث تقول ضمنا إن رفضهما لحل الدولتين -الذي تدعو له أنقرة- ينبغي أن يدفعهما لتفعيل وتسريع حقيقيين لمسار الحل الفدرالي.

أي أن الخطوة التركية القبرصية المذكورة لم ولن تغير كثيرا في الوقائع المتعلقة بالأزمة القبرصية، لكنها تشير إلى عزم تركي بعدم قبول تجميد الملف وإبقاء القضية تنتظر عقودا أخرى إضافية بدون أي تقدم ملموس.

من جهة أخرى، ثمة احتمال كبير بأن تكون رغبة تركيا في إحداث تغيير جذري في "بارادايم" حل القضية القبرصية حقيقية، وأن تكون دعوتها لحل الدولتين نابعة من قناعة تبلورت لديها مؤخرا بفعل الجمود السياسي والثروات المحتملة. لكن هذا سيفتح مسارا جديدا لا يحظى بقبول الأطراف الأخرى، ولا تملك أنقرة فيه إلا أوراق القوة الميدانية ودعم قيادة قبرص التركية الحالية، في حين تتسلح قبرص اليونانية بدعم أممي وأوروبي وأميركي سيجعل فكرة التحول نحو رؤية مختلفة للحل أمرا بالغ الصعوبة، إلا إذا غيّرت قبرص كذلك رأيها.

وبالتالي، فقد نجحت أنقرة حتى اللحظة في جذب الأنظار مجددا نحو القضية القبرصية وتعنت اليونان إزاء حلها، لكن مآلات هذا المسار الجديد لا تبدو واضحة أو مرجَّحَةً باتجاه ما تريده أنقرة، مما يعني أنه ملف جديد يضاف للملفات الخلافية بين تركيا والاتحاد الأوروبي وورقة تفاوض تركية جديدة معه.

 

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس