د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا

كان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أكثر صراحة وعلانية هذه المرة في الحديث عن التنسيق العسكري الأميركي اليوناني القائم على مقربة من الحدود مع تركيا. "هناك العديد من القواعد الأميركية في اليونان. عندما نجمعهم معًا، خصوصا بعد بناء قاعدة دادا أغاش (القريبة من منطقة أديرنة) تظهر صورة مفادها أن اليونان تحولت إلى قاعدة عسكرية أميركية". يتابع أردوغان "عندما نسألهم عما يفعلونه على الحدود التركية اليونانية يردون بأجوبة تهرب".

أطنان السلاح التي تواصل الإدارة الأميركية نقلها إلى شرق الفرات السوري معروفة الأهداف والمهام. الخطة قديمة تعود إلى عهد دونالد ترامب عبر تفعيل دور عناصر داعش في سوريا والعراق لتفتح الطريق أمام التمدد والانتشار الأميركي "المشروع" في المكانين. التقطها جو بايدن وأدخل عليها تعديلات جديدة لتتحول إلى خطة متعددة الجوانب ومنفتحة على أكثر من سيناريو ضد تركيا. بين ما تسعى إليه الخطة هو تضييق الخناق على تركيا "المشاغبة" إقليميا ودوليا والتي تنسق مع خصوم وأعداء واشنطن وتتحرك على حسابها دون استئذان.

ما فشلت واشنطن في تحقيقه حتى الآن عبر مجموعات "قسد" وما يسمى بوحدات الحماية التي تحاول بناء كيان سياسي وقانوني مستقل فوق جزء من الأراضي السورية المجاورة لتركيا من الجنوب، تريد تحقيقه بشكل سريع عبر دعم وتجهيز دولة رسمية معترف بها هي اليونان الجار التركي الآخر لتقوم بهذه المهمة من الغرب والشمال الغربي.

فرنسا كانت هي من يقف وراء سياسة تحريض أميركا وعملية الاصطفاف الإقليمي ضد تركيا في سوريا وشرق المتوسط وإيجه وشمال إفريقيا بعدما تضررت مصالحها وتراجعت حساباتها هناك. لكن واشنطن وجدت أنه من الأفضل صناعة استراتيجية تحرك إقليمي جديد تشمل منطقة البحر الأسود أيضا وتقودها هي بنفسها.

أميركا تستثمر عسكريا في اليونان لأنها وصلت إلى طريق مسدود مع حكومة العدالة والتنمية. كل هذا الحشد والتعبئة ليس حتما بهدف دعم دولة أطلسية شريكة. تركيا أيضا دولة أطلسية وحليفه لواشنطن لكنها لم تحصل على صواريخ الباتريوت من العواصم الغربية وأغضبت واشنطن عندما اشترتها من موسكو وأعلنت أنها ستواصل شراء المزيد من السلاح الروسي إذا لم يعطها الشريك والحليف ما تحتاجه في منظومتها الدفاعية.

تذكر تركيا بين الحين والآخر بقدراتها العسكرية وحجم الفوارق في العتاد والسلاح والجنود مع الجار اليوناني الذي يبحث باستمرار عن خيارات وبدائل جديدة لمواجهة "التهديد" التركي ويسعى لتحقيق أهدافه في إيجه وتراقيا وشرق المتوسط. المستفيد الأول من هذا التوتر التركي الأميركي هو اليونان طبعا، لذلك كانت رسائل الرئيس التركي واضحة ومباشرة.

أثينا فرحة لأنها ستتحول إلى تل أبيب أخرى في المنطقة. ستكون محصنة ومحمية أميركيا وأوروبيا ولها علاقات إقليمية مع الكثير من اللاعبين الذين لهم خلافات مع تركيا في شرق المتوسط والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. وهي ستلعب دور من يتصدر المشهد الأميركي الأوروبي في خارطة إعادة رسم النفوذ المواجه لروسيا وإيران في العلن لكنها رسائل تهدد الأمن القومي والإقليمي التركي في المنطقة قبل ذلك.

دولة لا يتجاوز عدد سكانها 10 ملايين نسمة ومساحة لا تصل إلى ربع مساحة الأراضي التركية تدخل في عملية سباق تسلح وحرب نفوذ مع أنقرة. لماذا تفعل ذلك ومن الذي يقف إلى جانبها ويشجعها؟

عشرات المليارات من القروض والعروض المالية الجديدة تقدم إلى اليونان لتبتاع السلاح الغربي الحديث من مقاتلات وغواصات ومنظومات صواريخ وتفتح مقابل ذلك أبوابها وأراضيها لإنشاء قواعد عسكرية حديثة أميركية وأوروبية وإسرائيلية على مقربة من الأراضي والمياه التركية. المشكلة بالنسبة لأنقرة هي وقوف بعض العواصم العربية وتحديدا الخليجية إلى جانب أثينا وقبرص اليونانية في الدفاع عن حقوقهما "المشروعة" في المتوسط وإيجه وملف الأزمة القبرصية. مناورات عسكرية يتزايد عددها وحجم الدول الإقليمية المشاركة فيها من غربية إلى عربية وإقليمية تصطف كلها في الجانب الآخر من الحدود المواجهة لتركيا. مناكفة سياسية ربما لكن خطورتها وارتداداتها ستكون أكبر وأهم من ذلك.

تواصل العلاقات التركية الأميركية سيرها فوق حبال من الأشواك والزجاج والمسامير المسنونة رغم كل الأحاديث عن تفاهمات ثنائية جديدة في أعقاب القمة الأخيرة بين الرئيسين التركي والأميركي في روما قبل أسبوعين، وعن قرار تشكيل لجان عمل وتنسيق ثنائي يفتح الطريق أمام بحث الملفات الخلافية التي لا تعد ولا تحصى. واشنطن متمسكة بخطط التمركز العسكري في اليونان في محاولة لتحويلها إلى قاعدة أميركية كبيرة وأنقرة تحذر أثينا أن أميركا غير باقية إلى الأبد في المنطقة إلا إذا قررت اليونان تسليمها مفاتيح أراضيها وتركها تقود المواجهة مع تركيا. يبدو أن هناك من يرى أن أثينا لم تسوَّ الحسابات مع أنقرة بعد هزيمة حرب التحرير التي خاضتها القوات التركية ضد الجيش اليوناني وأدت إلى تطهير مدينة إزمير التركية.

تريد واشنطن بناء اصطفاف إقليمي جديد تحت رعايتها وإشرافها في المتوسط وإيجه والبحر الأسود. الهدف قد يكون روسيا لكن الرسالة هي تركية أيضا. تعرف واشنطن استحالة الإمساك بورقة المضائق التركية وعدم قدرتها على عرقلة مشروع قناة إسطنبول الاستراتيجي الجديد مع حكومة العدالة والتنمية لذلك توجهت نحو اليونان لمواجهة النفوذين التركي والروسي في المتوسط والبحر الأسود. وإلا فما معنى تنفيذ العشرات من المناورات مع أثينا في العامين الأخيرين في هذه المناطق ونشر مئات القطع الحربية والمروحيات والمصفحات في قواعد عسكرية بنتها وأنفقت عليها ملايين الدولارات؟

حتى ولو قبلت تركيا بما تفعله واشنطن وهي لن تقبل، فإن موسكو لن تتغاضى عما يجري وواشنطن ستكون بذلك فتحت الطريق أمامها أكثر فأكثر للتفاهم والتعاون مع تركيا. الخاسر الوحيد هنا هو اليونان لأنها ستتحول إلى كبش محرقة في أي تصعيد عسكري حقيقي.

"الجربوع" هو من القوارض الصحراوية التي تشبه الفأر لكنه أطول منه في إقدامه وذيله وشاربه الذي يساعده على استشعار الخطر. يجرى بطريقة أقرب للوثب وقد تصل قفزته إلى المتر ارتفاعا وثلاثة أمتار عرضا نظرا لمرونة رجليه. يغادر ليلا جحره ليقتات وبين ما يفعله الدخول إلى بساتين النباتات ومنها إلى حقول القرع حيث يظل يقضم القرعة ليخترقها وهو يصدر أصوات الخشخشة المسموعة بوضوح وهو يبحث عن طعامه. فأخذها بعض سكان مدينة ماردين التركية كمثل شعبي يتوارثونه "جربوع يخشخش في القرعة" والمقصود هنا أن ما يجري هو مجرد إصدار أصوات لا تشكل خطرا ولا قيمة لها فقط بعض الضجيج لا يقدم أو يؤخر. يبدو أن المسألة أبعد من ذلك هذه المرة.

 

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس