د. سمير صالحة - أساس ميديا

تواصل أنقرة منذ أشهر تثبيت أسس سياستها الإقليمية الجديدة بعدما اكتشفت القيادة السياسية التركية أن لا فرص كثيرة أمامها سوى مراجعة المواقف والأساليب المعتمدة في نهج العلاقات مع الخارج بأسرع ما يكون، إذا ما أرادت فعلاً الخروج من أزماتها السياسية والاقتصادية ومواجهة الاصطفافات التي تشكّلت ضدّها.

1- فرنسا: هناك الحرب التي أعلنها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على تركيا في شرق المتوسّط وإفريقيا وداخل المجموعة الأوروبية بعدما تضاربت المصالح.

2- أميركا: هناك التصعيد الأميركي الذي بدأ مع إدارة دونالد ترامب واستمرّ وتفاقم مع فريق عمل جو بايدن على جبهات ثنائية وإقليمية عديدة، وسببه التقارب والتنسيق التركي الروسي.

3- اليونان: وهناك ما تحاول اليونان جنيه من ثمار إقليمياً على حساب تركيا ومصالحها من خلال استغلال فرص محاصرة تركيا في الإقليم.

4- إسرائيل: وهناك ارتدادات السياسة التركية المرتبكة والمتقلّبة حيال إسرائيل، والتي كبّلت يدها. ففي حين كانت بين أوائل الذين اعترفوا بالكيان قبل 7 عقود، ها هي تضحّي في الوقت نفسه بعلاقاتها مع تل أبيب، فيما تسير لعبة التوازنات الإقليمية في اتّجاه آخر.

دخلت العلاقات التركية الإسرائيلية في مسار التسخين بشكل حذر، لكن بخطوات ثابتة عبر سلسلة اتصالات علنيّة وسريّة وتصريحات إيجابية متبادلة بين قيادات البلدين. القناعة التركية الإسرائيلية بالهرولة نحو منتصف الطريق وتحسين العلاقات مجدّداً سببها تراجع مصالح الطرفين المشتركة على حساب صعود لاعبين إقليميين آخرين يستغلّون توتّر علاقاتهما والفرص الاستراتيجية السانحة نتيجة خلافاتهما في الإقليم.

المؤكّد أنّ كلا الطرفين لم يعُد يريد إبقاء التوتّر والشحن على ما هو عليه اليوم، ويفضّل اعتماد لغة مغايرة فيها الكثير من الهدوء لإنجاح الجهود التي تُبذل بعيداً عن الأضواء باتجاه إعادة السفراء ودفع الأمور إلى ما كانت عليه قبل أعوام.

لكن ما الذي يدفع تركيا وإسرائيل إلى التخلّي عن عنادهما السياسي وشروطهما المسبقة من أجل تحسين العلاقات وإعادتها إلى سابق عهدها؟

هناك الكثير من الاحتمالات، يمكن تعدادها وتفنيدها:

1- لن يكون مقنعاً إرجاع السبب إلى رحيل حكومة بنيامين نتانياهو، في غياب أيّ تحوّل حقيقي في سياسة إسرائيل الفلسطينية، وعدم تطبيق الشروط التي كانت أنقرة تردّد أنّها تشترطها لتحسين العلاقات.

2- ليس كافياً تواصل الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ مع نظيره التركي رجب طيب إردوغان في منتصف شهر تشرين الثاني المنصرم لشكره على الجهود المبذولة من أجل الإفراج عن المواطنين الإسرائيليين المتّهمين بالتجسّس على منزل إردوغان في إسطنبول. لأنّ أنقرة ما زالت تتمسّك بملفّ اعتقال ومحاكمة 15 أجنبيّاً بتهمة التجسّس على الجاليات العربية في تركيا لمصلحة الاستخبارات الإسرائيلية.

3- لن يقدّم ولن يؤخّر كثيراً اتصال الرئيس التركي بنظيره الإسرائيلي هذه المرّة لتقديم العزاء عن وفاة والدته، واستغلاله هذه المناسبة لدعوته إلى زيارة أنقرة. لأنّ الإعلام الإسرائيلي يردّد أنّ تل أبيب ستتريّث في قبول الدعوة إلى حين التأكّد من أنّ القيادة التركية لن تعاود التصعيد وتفجير العلاقات مع إسرائيل عند أوّل هبّة توتّر في ملفّات الخلاف والتباعد.

4- لن يطمئن الطرفين التعويلُ على زيارة وفد من "تحالف الحاخامات" تركيا، حيث استقبلهم إردوغان في أنقرة، وأعلن أمامهم أنّه يولي اهتماماً للحوار الذي تمّ إحياؤه مجدّداً، سواء مع الرئيس الإسرائيلي أو رئيس الوزراء نفتالي بينيت. لأنّ الكنيست الإسرائيلي لم يتخلَّ تماماً عن التلويح بالانضمام إلى ركب الدول التي تصنّف أحداث عام 1915 في الأناضول التركي على أنّها "إبادة أرمنيّة".

5- هي باختصار أسباب تقاربٍ أبعد وأهمّ من الاتصال الذي أجراه وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو بنظيره الإسرائيلي يائير لبيد ليَطمئن على صحّته بعد إعلان إصابته بـوباء كورونا. في مكالمة هي الأولى من نوعها بعد أكثر من عقد. وأهمّ أيضاً ممّا ذكرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" العبرية من أنّ إردوغان اتّخذ لنفسه مستشاراً طبياً جديداً، هو الاختصاصي بأمراض القلب البروفسور يتسحاق شابيرا، نائب رئيس مستشفى "إيخيلوف" في تل أبيب.

المصالح والغاز

كان لإسرائيل حتماً حصّتها الكبيرة في سياسة إعادة التموضع التي أطلقها إردوغان قبل أشهر باتجاه دول المنطقة لأنّ المصالح المشتركة تحتّم ذلك. استفادت أنقرة وتل أبيب كثيراً من أخطاء ودروس الماضي بعدما توتّرت علاقاتهما السياسية لعقد كامل بسبب حادثة الاعتداء على أسطول الحرية في عرض المتوسطـ والتي أدّت إلى قطيعة دبلوماسية ما زالت ارتداداتها قائمة حتى اليوم على الرغم من الإعلان عن تسوية قانونية وسياسية تطمئن الطرفين. المؤكّد أيضاً هو بروز قناعة مشتركة تتقدّم وتنتشر في صفوف قيادات البلدين تقول إنّ تراجع علاقاتهما كان دائماً لمصلحة طرف ثالث متغيّر يستفيد بحسب ملفّات خلافاتهما السياسية والأمنية، وإنّ تباعدهما أضرّ بالكثير من مصالحهما في المنطقة.

مفتاح التقارب التركي الإسرائيلي هو إقليمي أكثر منه ثنائيّاً، وبوادره بانت مع حرب قره باغ في جنوب القوقاز والمواقف التركية الإسرائيلية المتقاربة هناك، والتي واكبتها وساطة أذرية بين الطرفين باتجاه تطبيع العلاقات.

وقد تُوِّج مركز الثقل في تحرّك الرئيس الأذريّ إلهام علييف، كما يبدو، بعروض تركية إسرائيلية متبادلة لعقد اتفاقية تُرسِّم الحدود البحرية بين البلدين وتمنح إسرائيل مساحة مائية أكبر من تلك التي تعرضها اليونان وقبرص اليونانية، فيما ستحصل تركيا بالمقابل على آلاف الكيلومترات المائية التي ستجعلها شريكاً في الغاز، وعلى خرائط تفصيلية لأماكن وجوده.

يردّد مكتب الرئيس الإسرائيلي أنّ تل أبيب لن تتعاون مع تركيا على حساب علاقاتها باليونان وقبرص اليونانية في محاولة لطمأنة أثينا ونيقوسيا. لكنّ إردوغان ذهب أبعد من ذلك في الاتجاه المعاكس، عندما أعلن أنّ بلاده تتلقّى بين فترة وأخرى رسائل من الجانب الإسرائيلي تتحدّث عن كيفيّة نقل الغاز الطبيعي المستخرَج من شرق المتوسط إلى أوروبا، وأنّ وزير الطاقة التركي الأسبق برات ألبيراق كان قد تحدّث مع نظيره الإسرائيلي في الموضوع، وأنّ الجانب الإسرائيلي، على مستوى الرئيس ورئيس الوزراء، يبعث رسائل متكرّرة في هذا الشأن إلى تركيا. وقد دفع ذلك إردوغان إلى القول إنّنا "سنبذل ما بوسعنا للتعاون مع إسرائيل في شرق المتوسط، ولإحراز تقدّم عبر مقاربات إيجابية قائمة على أساس الربح المتبادل".

هديّة بايدن والترسيم

وكان من بين الأمور التي دفعت أنقرة إلى مراجعة علاقاتها مع تل أبيب حاجتها إلى حماية اتفاقية ترسيم الحدود البحرية التي وقّعتها مع ليبيا قبل عامين، والاستعداد لتوقيع اتفاقية مماثلة مع إسرائيل، وللاتفاق معها على مشروع لنقل غازها إلى أوروبا عبر المياه التركية.

هديّة الرئيس الأميركي جو بايدن لحماية مسار الغزل التركي الإسرائيلي قدّمها قبل أيام من خلال إعلان تخلّي واشنطن عن دعم مشروع "إيست ميد" لنقل الطاقة الإسرائيلية إلى أوروبا عبر قبرص اليونانية وكريت، وبشراكة أثينا، فاتحاً الأبواب أمام تنسيق تركي إسرائيلي إقليمي أوسع في هذا المجال.

لا يهمّ كثيراً مَن بدأ العزف حتّى يشرع الآخر في الرقص. المهمّ هو الانسجام الحاصل وتبادل الرسائل المشجّعة فوق أطلال القمم الإقليمية على ضفاف شرق المتوسط. تتطلّع أنقرة من خلال علاقاتها الجديدة مع تل أبيب إلى عقد اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين البلدين في شرق المتوسط، وبناء تفاهم ثلاثي تركي إسرائيلي مصري يشمل خطط نقل الطاقة من شرق المتوسط عبر تركيا إلى أوروبا بدلاً من مشروع "إيست ميد" الذي أعلنت واشنطن وفاته، مع استعداد تركي لإشراك القبارصة اليونان في المشروع في إطار ضمانات وتحرّك إقليمي دولي جديد لإنهاء ملفّ الأزمة القبرصية بوساطة مصرية إسرائيلية هذه المرّة بعد التعقيدات الأوروبية للتسوية في الجزيرة.

يرتبط التقارب التركي الإسرائيلي أيضاً بسياسات إقليمية مشتركة بدأت في القوقاز، وانتقلت إلى المواقف السياسية الداعمة لحكومة إثيوبيا في مواجهاتها مع حركة العصيان في إقليم تيغراي، وضرورات التعامل بجدّية مع السياسات الإيرانية الإقليمية المقلقة للجانبين، وربّما متطلّبات التنسيق والاستعداد لأزمة إقليمية كبيرة في القرم، حيث تتقاطع مصالحهما في أوكرانيا.

تركيا قبل اليونان وقبرص

ختاماً: أعلنت مصادر أمنيّة إسرائيلية أنّ التحالف مع نيقوسيا وأثينا مهمّ بالنسبة إلى تل أبيب، لكنّ التفاهمات التركية الإسرائيلية أهمّ وأكبر من ذلك بكثير. لم يأخذ الجانب الإسرائيلي بالمعادلة التي حذّر منها مستشار الأمن القومي اليوناني ألكسندروس دياكوبولوس: "إذا استسلمت اليونان، وتمكّن الأتراك من إخراجها من الصورة، فستعاني إسرائيل في وقت ما، وتصبح تركيا تهديداً لإسرائيل أكبر من إيران".

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس