توران قشلاقجي - القدس العربي

تعرضت القيم الدينية في تركيا لانتهاكات جسيمة قبل سنوات تحت مسمى «الثورة». واستمرت الضغوط فترة طويلة لكنها لم تتمكن من الصمود أمام مقاومة المجتمع لأنها كانت تفرض من قبل الطبقة العليا على الطبقة السفلى. وتظهر لنا التحليلات النفسية – السياسية أن العديد من الأمور التي تفرضها الحكومات من الأعلى بغية تغيير المجتمعات، لم تتكلل بالنجاح على الإطلاق، ولا سيما الضغوط والمضايقات المتعلقة بمكافحة القيم الدينية، حيث نجحت في إسكات الشعب لبعض الوقت إلا أن القيم الدينية ظهرت من جديد وبقوة أكبر في المجتمع.

نرى أن هذا الوضع قد تجسد خلال فترة معينة من عهد الجمهورية التركية. فقد تعرضت القيم الدينية للاستهداف خلال الفترة التي ساد فيها نظام الحزب الواحد في الحكم. وتمثل ذلك في إغلاق العديد من المساجد، وتتريك الأذان، وإلزام تلاوة القرآن الكريم من الترجمات المفسرة باللغة التركية، وحظر جميع الكتب العربية بما في ذلك القرآن، ومنع ارتداء الملابس ذات الرموز الدينية، وغيرها من القضايا المندرجة في هذا الإطار. لكن هذه الممارسات لم تفرض إلا من خلال قمع الشعب طيلة 20 عاما. وعندما دخلت تركيا فعليا في المسار الديمقراطي عادت كل الأمور المحظورة إلى ما كانت عليه وبقوة أكبر.

كانت فريضة الحج أيضا من بين المحظورات في فترة من الزمن خلال فترة الحزب الواحد في الحكم. أثناء تلك الفترة كانت السلطات تأمر بتجنب «التعليقات الخاطئة والسلبية» في وسائل الإعلام، و«الدعاية السلبية» المحتملة التي يمكن أن تخلقها مثل هذه التعليقات. وحتى لا تثير رد فعل كبيرة من المجتمع، كانت تبرر قرارها على النحو التالي: تم اتخاذ هذا القرار بسبب المشاكل الصحية المحتملة والضائقة المالية السائدة. وأي تعليق عدا ذلك حول إمكانية أن يكون للحظر سبب خاص، يعتبر صادرا عن نية سيئة.

لكن على الرغم من كل هذه الدعاية، تم السماح بأداء فريضة الحج عندما انتقلت تركيا من حقبة نظام الحزب الواحد إلى حقبة التعددية الحزبية في عام 1946. حينها ودّع الشعب التركي أولى قوافل الحجاج إلى مكة وهو يذرف دموع الفرح. كما استقبلت شريحة كبيرة من الشعب القافلة الأولى العائدة من الحج بسعادة عارمة. وفي السنوات اللاحقة، بدأ الناس يقفون في الطوابير الطويلة للتقدم بطلب الذهاب إلى الحج.

لم يقتصر الحظر خلال فترة نظام الحزب الواحد على الشعارات الدينية فقط بل طال الأسماء والألقاب أيضا. ففي 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1934 صدر قانون يقضي بإلغاء «الألقاب مثل الأغا، والحاج، والحافظ، والشيخ، والملا، والسيد، والأفندي، والباشا، والسيدة، والحضرة». واعتبارا من ذلك التاريخ، كان يتعين نداء المواطنين والمواطنات أمام القانون وفي الوثائق الرسمية بالأسماء فقط.

ووفقا للقانون المذكور، يمنع استخدام الأزواج الألقاب مثل «السيدة» أو «السيد» أو «الأفندي» أثناء الحديث فيما بينهم، على غرار منع استخدام كلمة «الحاج» لنداء الأشخاص الذين ذهبوا إلى الحج! وربما تكون معارضة قوانين الجمهورية هي السبب وراء استمرارنا حتى اليوم في استخدام لقب «الباشا» في وصف الجنرالات والأميرالات! ولعل العبارات مثل حضرة المناضل مصطفى كمال باشا، أو حضرة رئيس الوزراء عصمت باشا، كانت تقابل بنوع من الغرابة في إطار هذا القانون! وفي السنوات اللاحقة، عاد الشعب لاستخدام الألقاب من جديد.

الخلاصة، كل ضغط يفرض من المستويات العليا، سواء أكان باسم العلمانية أو الدين، يقابل برد فعل كبير من قبل المجتمعات. فعندما ننظر إلى تاريخ العالم نرى أن جميع الحكومات القمعية، أيا كانت نظرتها الدينية والأيديولوجية، كانت تضطر إلى التراجع عن خطواتها بعد سنوات بسبب المقاومات الشعبية. لأن تاريخ البشرية علمنا أن الفلاسفة أو الأنبياء هم فقط من يستطيعون تغيير المجتمعات.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس