سعيد الحاج - الجزيرة نت

دون مواقف رسمية أو إعلان صريح، يبدو أن حالة التنافس بين تركيا وإيران قد انتقلت مؤخرا إلى مرحلة من التوتر بين البلدين، على خلفية الاختلاف بل التناقض في الرؤى والمواقف تجاه عدد من القضايا الإقليمية، وفي مقدمتها سوريا والعراق.

تنافس إقليمي

ورغم حالة التنافس الشديد في المنطقة بين تركيا وإيران، والتي تغذيها أسباب تاريخية وقومية وجيوسياسية ومنظومة مصالح متشعبة ومركبة، فإن البلدين يفخران بأنهما يملكان الحدود الأكثر استقرارا في المنطقة على مدى القرون الأخيرة.

تمتلك كل من الدولتين -ولا سيما في التاريخ المعاصر القريب- مشروعاً مختلفاً عن الآخر ومنافساً له في المنطقة، وتحديداً فيما يتعلق بجوارهما القريب، وعلى وجه التحديد سوريا والعراق، وتساهم في ذلك سياقات تاريخية وهوياتية وثقافية عديدة، فضلاً عن شكل النظام وبنيته في كل منهما.

وقد تمثل الخلاف الأبرز بين الجانبين في العقد الأخير في سوريا، حيث وقف كل منهما على طرفي نقيض في الثورة السورية وحتى اليوم. وقد وصل الخلاف ذروته بين الجانبين في 2015، حيث اتهمت تركيا إيران بانتهاج "سياسات مذهبية" في سوريا والمنطقة، وردت الأخيرة بتهديدها على لسان بعض مسؤوليها. لكن ذلك لم يصل إلى مرحلة الصدام المباشر، وإنما عاد الجانبان إلى سياسة المواجهة غير المباشرة والحرب بالوكالة أحيانا.

وقد ساهم مسار أستانا منذ 2017 في تخفيض التوتر بين القوتين الإقليميتين، حيث شكل إطاراً للحوار وتجاوز الأزمات وتجنب الصدام، وأحياناً التفاهم والتنسيق في بعض الجزئيات ولا سيما مع وجود روسيا كفاعل رئيسي في الإطار الثلاثي الضامن في سوريا.

وباستثناء محطات قليلة حصلت فيها مواجهة بين القوات التركية في سوريا ومجموعات محسوبة على إيران أو مقربة منها، فقد أدار البلدان خلافاتهما بدون تصعيد ملحوظ إلا من بعض التصريحات هنا وهناك، ولكن أمكَنَ دائماً العودة للحالة السابقة، كما حصل على هامش حرب إقليم ناغورني قره باغ الأخيرة.

توتر غير معلن

لكن الشهور الأخيرة حملت مستجدات وتطورات دفعت العلاقات بين البلدين نحو التوتر مجدداً، وإن كان بشكل غير معلن.

لعل العنوان الأبرز بين الجانبين مؤخراً هو العملية التي تلوّح بها تركيا في شمال سوريا في مواجهة قوات سوريا الديمقراطية، والتي تعدها امتداداً لحزب العمال الكردستاني وتصنفها منظمة إرهابية وانفصالية. تعلن أنقرة أن هدفها الرئيس من العملية منع الهجمات على مناطق تواجد قواتها -وفصائل المعارضة السورية- واستكمال إنشاء منطقة آمنة لعودة السوريين المقيمين على أراضيها إليها، ولا سيما أنها تعلن نيتها إعادة مليون منهم لتلك المنطقة قريباً.

وليس سراً أن إيران تعارض هذه العملية من باب أنها توسع نفوذ تركيا -ومعها فصائل المعارضة- في سوريا، فضلاً عن مخاوف تتعلق بمدى العملية ومناطق تنفيذها وأهدافها البعيدة المدى، ومدى قدرة أنقرة على ضبط أداء فصائل المعارضة السورية، وغير ذلك.

ولذا، فقد جاءت التصريحات الإيرانية منذ البداية رافضة "للحلول العسكرية" وداعية لمسار سياسي، فضلاً عن تأكيدها على فكرة سيادة سوريا واستقلالها، بما يعني رفض العملية التركية المحتملة بشكل غير مباشر.

استضافت طهران قمة ثلاثية للدول الضامنة الشهر الفائت، وكانت العملية التركية القضية الأبرز على جدول أعمالها. لكن الدول الثلاث لم تنجح في التوصل لاتفاق ما، فلا روسيا وإيران أيدتا العملية رسمياً، ولا تركيا تراجعت عنها علناً، بل كانت القمة تكراراً للمواقف السابقة مع بيان ختامي فضفاض يصلح للفهم بأكثر من سياق.

لكن لعل أكثر ما رسخ من القمة كان تصريح المرشد الأعلى للثورة علي خامنئي بأن العملية التركية "ستضر بسوريا وتركيا والمنطقة"، وخصوصاً أنه جاء خلال لقائه بالرئيس التركي، وهو ما فهم على أنه تحذير وتهديد. ويبدو أن التطورات في العراق بعد القمة مباشرة أكدت هذا المعنى.

فبعد القمة بأيام، اتهمت السلطات العراقية أنقرة بالمسؤولية عن استهداف قرية سياحية في زاخو بمحافظة دهوك، وقع خلاله عدة قتلى وجرحى بين المدنيين. ورغم نفي تركيا أي دور لها في الهجوم واتهامها حزب العمال الكردستاني بالوقوف خلفه للتشويش على عمليات مكافحتها له في العراق ومحاولة إعاقتها، ورغم إعلانها استعدادها للتعاون الكامل مع السلطات العراقية للكشف عن ملابسات الهجوم ومن يقف خلفه، فإن بغداد فضّلت التصعيد ورفعت الأمر لمجلس الأمن.

التطورات اللاحقة كانت أكثر أهمية ودلالة، وتحديداً استهداف القوات التركية في العراق وكذلك قنصليتها في الموصل، مع بيانات تبنٍّ من مجموعات رفعت شعار "مقاومة الاحتلال التركي"، مما صنفها كمجموعات تدور في فلك طهران، ووضع حالة الاشتباك في قالب الضغط على تركيا قبيل إطلاق عمليتها في سوريا لمحاولة منعها.

قرئ ذلك من قبل الكثيرين على أنه رفع لمستوى التنافس بين إيران وتركيا، ووضعه في إطار المواجهة غير المباشرة والضغط لثني الأخيرة عن عمليتها في سوريا، فضلاً عن وضع العمليات التركية ضد العمال الكردستاني في العراق موضع الشك والضغط، مع مطالبات عراقية رسمية وشعبية بوقفها وسحب القوات التركية من الأراضي العراقية.

يتقاطع ذلك مع بعض التقارير التي تتحدث عن تعاون بين مجموعات وفصائل عراقية تدور في الفلك الإيراني وبين العمال الكردستاني في مواجهة أنقرة مؤخراً، وهو أمر بالغ الحساسية بالنسبة للأخيرة، إذ يتعلق بشكل مباشر بأمنها القومي وإستراتيجية المكافحة الاستباقية التي تتبناها ضد الكردستاني في السنوات الأخيرة والتي بدأت تؤتي أكلها.

يضاف كل ما سبق للمواجهة غير المباشرة مؤخراً بين إيران و"إسرائيل"، والتي دارت بعض فصولها على الأراضي التركية بما أزعج أنقرة. ذلك لأنه رداً على اغتيال عدد من الشخصيات الإيرانية المرتبطة بالمشروعين النووي والصاروخي لطهران، حاولت الأخيرة استهداف شخصيات "إسرائيلية" بعضها مقيم على الأراضي التركية، وفي مقدمتهم رجل أعمال تركي "إسرائيلي" ذو علاقة بالصناعات الدفاعية.

أعلنت السلطات التركية أنها أحبطت عملية استهدافه في عملية شملت إخبار الموساد عنها والتعاون معه إزاءها، فضلاً عن توقيف أنقرة شبكات استخباراتية إيرانية خلال الشهور الفائتة. ورغم أن طهران أنكرت أن تكون لها خطط لاستهداف "إسرائيليين" في تركيا، فإن أنقرة دعت علناً ورسمياً على لسان وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو إلى "عدم تحويل أراضيها لساحة تصفية حسابات بين الدول"، بما يضرّ بسمعتها وأمنها وموسم السياحة فيها.

كما أن زيارة وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لأنقرة أجلت في تلك الفترة، قبل أن يجريها الوزير بعد التصريحات الإيرانية الملتزمة بأمن تركيا وتجنب التصعيد مع "إسرائيل" على أراضيها.

في الخلاصة، تواترت وتزامنت عدة ملفات خلافية بين تركيا وإيران مؤخراً رفعت حالة التنافس بينهما إلى مرحلة من التوتر غير المعلن، بل ربما المواجهة غير المباشرة على الأراضي العراقية. يحمل الأمر دلالات مهمة خصوصاً أنه متعلق بشكل مباشر بما تعدُّه أنقرة متطلبات لأمنها القومي في كل من سوريا والعراق، وتحديداً مواجهة منظمة العمال الكردستاني الهدف الأبرز لسياساتها الخارجية والأمنية والعسكرية على مدى العقود الأربعة الماضية.

وبالنظر إلى أن تركيا قد حققت خلال السنوات الماضية -ولا سيما بعد 2016- نجاحات ملموسة في مواجهة المنظمة الانفصالية في العراق من خلال عمليات متتابعة، إضافة للضربات التي وجهتها لمشروع الدويلة الكردية في الشمال السوري، فإن أي جهد يمكن أن يضر بهذه الإستراتيجية يثير غضبها بشكل ملحوظ.

ولذا، يبدو أن تركيا قد قررت الاستعاضة عن الإطار الثلاثي لأستانا بلقاء ثنائي في سوتشي، ستحاول خلاله التفاهم مع روسيا بخصوص عمليتها، ولا سيما أن الأخيرة ذات نفوذ ملحوظ على النظام، وتطالبها أنقرة بشكل متكرر بالوفاء بالتزاماتها التي وقّعتها معها خلال عملية نبع السلام في 2019، فضلاً عن سيطرتها على الأجواء السورية بما يمنحها تأثيراً مباشراً على شكل العملية التركية وأهدافها ومدتها وفرص نجاحها.

وفي حال استطاعت أنقرة إقناع موسكو بإطلاق العملية، وفق أي تفاهم معها، فإن ذلك قد يضع القوات التركية ومعها فصائل المعارضة السورية في مواجهة بعض المجموعات المحسوبة على إيران، مما يعني ارتفاع منسوب التوتر بين أنقرة وطهران، وهو احتمال لا يريده الطرفان لكن قد تفرضه التطورات في ظل التمترس خلف المواقف وعدم القدرة على التوصل لتفاهم بهذا الخصوص.

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس