ترك برس

تشهد المناطق الشمالية لسوريا خلال هذه الأيام ثلاثة أحداث هامة ومتوازية. فالحدث الأول هو التقدّم الملحوظ الذي حقّقه جيش الفتح في محافظة إدلب وجبهة الشام الناشطة في مدينة حلب وتكبيد هاتين الفرقتين خسائر كبيرة لقوات الأسد في هذه المناطق.

وقامت هاتان الفرقتان بتوحيد صفوفهما، من أجل السيطرة على مركز مدينة حلب وطرد قوات النظام الأسدي منها، قبل أنّ تتجها نحو المناطق الجنوبية للبلاد.

التطوّر الثاني الذي أعقب هذه الخطوة، هو قيام عناصر تنظيم الدّولة (داعش) بالهجوم على القرى المتواجدة في ريف حلب، وذلك استغلالا للفراغ الناجم عن تحّول هاتين الفرقتين باتجاه مركز مدينة حلب. ونتيجة للاشتباكات التي دارت بين عناصر التنظيم وقوات المعارضة السورية، تمكن التنظيم من السيطرة على مدينة أعزاز الواقعة قبالة مدينة "كيليس" التركية. وتنبع أهمية مدينة أعزاز من كونها تشرف على النقطة الحدودية (باب السلامة) الفاصلة بين تركيا سوريا والتي تُعدّ من المواقع الاستراتيجية بالنسبة للمعارضة السورية من حيث الاتصال بتركيا.

وإنّ سيطرة عناصر التنظيم على منطقة أعزاز، تعني قطع اتصال المعارضة السورية المسلحة مع العالم الخارجي، على اعتبار أنّ هذه القوات لم تعد بإمكانها السيطرة على النقطة الحدودية (باب السلامة) التي من خلالها كانت المساعدات تصل إلى المدنيّين في مدينة حلب وإلى عناصر المعارضة الموجودة هناك.

قام جيش الفتح والجيش الحر الذي يضّم في بنيته عددًا من الكتائب التركمانية وحتّى عناصر جبهة النصرة، بالتصدي لمحاولات تنظيم داعش في السيطرة على مدينة أعزاز وباب السلامة، غير أنّ هجمات التنظيم التي أتت من الخلف، أدّت إلى تأخير البدء بعملية تحرير مدينة حلب من يد قوات الأسد. واستناداً لهذا، فإنّنا نستطيع أن نقول بأنّ عناصر التنظيم قدّمت خدمةً كبيرة للنظام في حلب.

التطوّر الثالث، يتمثّل في انضمام عدد من كتائب المعارضة السورية تحت اسم بركان الفرات مع عناصر تنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) من أجل الزّحف إلى منطقة تل أبيض الواقعة قبالة منطقة أقجة قلعة التركية، وذلك لمحاربة عناصر تنظيم الدولة فيها.

ووصلت الاشتباكات بين عناصر تنظيم داعش وقوات تنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي بالاشتراك مع فرقة بركان الفرات على تخوم منطقة تل أبيض التي تعجّ بالسكان العرب. وتخلّل تقدم الأكراد وفرقة بركان الفرات في هذه المنطقة، قصف عنيف من قِبل طائرات التحالف الدّولي ضدّ مواقع تنظيم داعش، حيث قامت قوات التحالف بتمهيد الطريق لهذه العناصر للتقدم باتجاه مركز مدينة تل أبيض.

النتيجة الأولية لهذه التطورات الثلاثة التي حصلت في المناطق الشمالية لسوريا، هي بدء عملية النزوح المكثّف باتجاه الأراضي التركية. وقد شكّل العرب والتركمان النسبة الأكبر لعملية النزوح التي تمّت خلال هذه الفترة. وخلال تقدّم عناصر تنظيم الدولة باتجاه مدينة أعزاز، سقطت عدّة قرى تركمانية بيد التنظيم. لكن نتيجة الاشتباكات التي دارت على أطراف مدينة أعزاز، اضطرّ عناصر التنظيم للانسحاب من بعض القرى التي كانت قد أحكمت سيطرتها عليها. لكن وخلال هذه الفترة نزح العديد من العائلات التركمانية باتجاه مدينة كيليس التركية، حيث تمّ إيواء بعضهم في مخيمات اللجوء، وقام قسم منهم بالاحتماء عند أقاربهم في هذه المدينة.

كما حصلت موجة نزوح مماثلة في منطقة تل أبيض نتيجة الاشتباكات الحادّة بين عناصر تنظيم داعش وعناصر الأكراد. ففي المرحلة الأولى نزح ما يقارب ثلاثمئة وخمسون مواطناً من ذوي الأصول العربية باتجاه معبر أقجة قلعة التركي، حيث دخلوا إلى الأراضي التركية. ومن المتوقّع أن تزداد عدد النازحين بعد اشتداد المعارك في مناطق تل أبيض وأعزاز.

والتطور الآخر الملحوظ على الجبهة الشمالية لسورية، هو تغير موازين القوى في هذه المناطق. فقوات المعارضة السورية التي حقّقت تقدماً ملحوظاً ضدّ قوات النظام في كل من مدينتي حلب وإدلب وأطرافهما، اضطرّت للقتال في عدّة جبهات بعد الهجمات التي تعرّضت لها من قِبل عناصر تنظيم الدّولة (داعش). وفي هذا الصدد يمكننا أن نقول بأن النظام وتنظيم داعش يستفيدان من وجود بعضهما البعض. فعندما تحاول المعارضة السورية المسلحة مهاجمة قوات النظام، تلقى عناصر تنظيم داعش الفرصة لاستغلال انشغال عناصر المعارضة بالنظام كي تنقضّ على مناطقهم، وبذلك يكون التنظيم قد أراح قوات النظام.

المعارك التي دارت في منطقة تل أبيض، تدل على أنّ الأكراد الذين كانوا في موضع الدّفاع في كوباني، هم أنفسهم الذين يبادرون بالهجوم الآن. ولا ننسى أنّ هذه الهجمات مدعومة بغطاء جوي من قِبل طائرات التحالف الدولي، كتلك التي حصلت أثناء طرد عناصر التنظيم من بلدة كوباني.

إنّ قوات التحالف الدّولي وفي إطار مكافحة عناصر تنظيم الدولة في سوريا، تختار أهدافها بدقة متناهية ومدروسة مسبقاً. فهي تقوم بمساعدة الأكراد من أجل الزّحف باتجاه مدينة تل أبيض التابعة لمحافظة الرقة بحجة السعي للقضاء على عناصر التنظيم، بينما تمتنع عن توجيه ضربات ضد عناصر التنظيم الذين يحاربون المعارضة السورية في مدينة حلب وأطرافها.

ولعل السبب الرئيسي في امتناع قوات التحالف عن دعم المعارضة السورية، هو مشاركة جبهة النصرة في عمليات إدلب وحلب، على اعتبار أنّ جبهة النصرة تتبع لتنظيم القاعدة. ومن خلال ما تقوم به قوات التحالف، نستطيع أن نستنتج أنّ التحالف الدّولي اختار عناصر تنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي كشريك أساسي له على الأرض. أمّا عناصر تنظيم حزب الاتحاد الديمقراطي، فهم لا يخفون هدفهم الذي يسعون إلى تحقيقه، من خلال توحيد المناطق الكردية الثلاثة وإعلان الحكم الذاتي لهم فيها. وإنّ السيطرة على منطقة تل أبيض ذات الغالبية العربية والتركمانية، كانت ضرورية للأكراد من أجل ربط بلدة كوباني بمحافظة الحسكة. ومن أجل تحقيق هذا الهدف كثّفت قوات التحالف من ضرباتها على مواقع التنظيم في هذه المناطق.

الحقيقة التي يمكن أن نستخلصها من التطورات الأخيرة على الجبهة الشمالية لسوريا، هي أنّ من الضروري جداً إيجاد حل شامل للقضية السورية كي يتمكن العالم من التخلص من تنظيم داعش. والذي ساعد عناصر التنظيم في التقدم الذي أحرزوه خلال الأسابيع القليلة الماضية، هو الصّراع الدائر بين قوات المعارضة السورية المسلحة وجيش النظام السوري. ولهذا فإن الرابح في معركة النظام مع قوات المعارضة هو تنظيم داعش. بالإضافة إلى ذلك فإن عناصر التنظيم من خلال هجماتها ضدّ مواقع المعارضة السورية، تقدّم مساعدات مجانية لقوات النظام السوري.

ومن أجل إيجاد حل سياسي للأزمة السورية، لا بدّ من إعلان حالة وقف إطلاق النار بين قوات النظام السوري والمعارضة السورية المسلحة. ففي هذه الحالة فقط، يمكن أن تتمّ إراحة عناصر المعارضة وجعلهم يتفرّغون لمحاربة عناصر تنظيم داعش في الشمال. ففي الوضع الراهن، يظل الهدف الأساسي لعناصر المعارضة السورية، هو النظام وجيشه. فهم لا يريدون صرف طاقاتهم في محاربة عناصر تنظيم الدّولة. فالحل السياسي سيؤدّي إلى تهميش الاتفاق غير المعلن بين النظام السوري وتنظيم داعش. ولهذا السبب نستطيع أن نقول بأن الحل السياسي للأزمة السورية هو الضمان الوحيد للقضاء على تنظيم داعش.

وموضوع آخر يحمل نفس الأهمية، وهو مدى نجاح الاستراتيجية التي يعتمدها التحالف الدولي الذي يدعم التحالفات على الأرض من خلال توجيه ضربات لمواقع التنظيم. فقوات التحالف الدولي تريد تخليص منطقة تل أبيض من يد تنظيم الدولة عبر دعمها اللامحدود لعناصر حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي. والملاحظ أنّ قوات التحالف لا تقيم أي اعتبار للتوزع السكاني في هذه المنطقة ولم تأخذ بعين الاعتبار احتمال نشوب صراعات لا تحمد عقباها بين العرب والأكراد مستقبلاً في هذه المناطق. كما لا يدري التحالف الدولي أنّ امتداد الاكراد في مناطق العرب والتركمان سيؤدّي إلى زعزعة الاستقرار والثقة المتبادلة على المدى الطويل.

ولكي تتمكّن القوى الخارجية من بسط السيطرة وإحكام القبضة على منطقة معينة، فإنّ ذلك يتطلّب دعماً وقبولاً من قِبل سكان تلك المناطق. ففي منطقة تل أبيض يمكن لقوات التحالف الدّولي إخراج عناصر التنظيم منها عن طريق تكثيف غاراتها الجوية. لكن سكان تلك المنطقة من الصّعب أن يقبلوا بالبديل الغريب هذه المرّة. كما سيقوم سكان تلك المنطقة بطرح استفسارات عديدة منها، لماذا تمّ اختيار بعض المواقع وتجاهل البعض الآخر من قِبل طائرات التحالف؟، الأمر الذي سيدفع الأهالي إلى التشكيك بمصداقية هذا التحالف وسيدفعهم للبحث عن النوايا الخفية التي تكمن وراء هذه العمليات.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!