د. علي حسين باكير - عربي21

في أوّل زيارة رسمية خارجية له بعد تعيينه وزيراً للخزانة في حكومة الرئيس أردوغان الجديدة، توجّه محمد شمشك يوم الأربعاء الماضي برفقة نائب رئيس الجمهورية جودت يلماز إلى الإمارات العربية المتّحدة، وذلك قبل ساعات من اجتماع البنك المركزي التركي يوم الخميس برئاسة حفيظة غاية إركان التي تمّ تعيينها هي الأخرى في منصبها صحبة التعيينات الوزارية الجديدة في مرحلة ما بعد الانتخابات التي أجريت مؤخراً في تركيا.

تكتسب هذه الزيارة أهمّيتها من عدّة اعتبارات، أوّلها أنّها تأتي في سياق التوثيق المستمر للعلاقات التركية-الإماراتية في شكلها الجديد الذي تبلور شيئا فشيئا خلال العامين الماضيين، وهي في هذا المجال تبني على ما تمّ تحقيقه حتى الآن على مستوى العلاقات الشخصيّة بين المسؤولين في الدولتين أو على مستوى المؤسسات في الدولتين.

وثانياً، أنّها تأتي في سياق بلورة السياسة النقدية الجديدة التي يُشرف عليها محمد شمشك والتي من المفترض أن تؤدي في نهاية المطاف إلى كبح جماح التضخّم وتحقيق الاستقرار في سعر صرف العملة المحليّة.

وثالثاً، أنّها تأتي في سياق الاستعداد لجذب المستثمرين إلى السوق التركية وإعادة هيكلة الاقتصاد بما يسمح ياستغلال نقاط القوّة فيه وتجاوز نقاط الضعف.

إرسال نائب الرئيس أيضاً جودت يلماز برفقة شمشك لا يقتصر فقط على رفع التمثيل الدبلوماسي للزيارة ليتماشى مع اللقاءات التي تمّ التحضير لها في أبو ظبي، وإنما لإعطائها أيضاً الجدّية اللازمة في التعاطي مع الأمور المراد البحث بها، وعلى رأسها فرص التعاون الاقتصادي المتاحة بين البلدين في ضوء الخطوات التي تمّ اتّخاذها مؤخراً خلال عملية التطبيع بين البلدين.

صحيح أنّ تطبيع العلاقات جاء هو الآخر ضمن سياق إقليمي أوسع، لكنّ أسلوب التطبيع الاماراتي يختلف عن باقي الدول لدرجة أنّه شكّل مفاجأة لدى كثيرين داخل تركيا وخارجها. هناك اندفاع واضح من أبو ظبي سياسياً واقتصادياً وعسكرياً لإثبات مدى جدّية مسؤوليها وتوافر الإرادة اللازمة لديهم لدفع العلاقات الثنائية مع تركيا إلى مستوى غير مسبوق. وفي المقابل، هناك اندفاع تركي مماثل لتوظيف هذه الجدّية للارتقاء بالعلاقات الثنائية سريعاً.

الإمارات كانت من أوائل المهنئين بفوز الرئيس أردوغان في الانتخابات الأخيرة، وغرّد رئيسها محمد بن زايد حول نيّة بلاده تعزيز ما أسماها "الشراكة الاستراتيجية" بين البلدين. كما أصبح ابن زايد أول رئيس يقوم بزيارة رسمية للبلاد ليلتقي بأردوغان ويبحث معه العلاقات الثنائية بين البلدين ومستقبل التعاون بينهما.

حظيت هذه الزيارة باهتمام كبير من قبل وسائل الاعلام خاصةّ أنّها ترافقت مع عدد من الفعاليات حيث أهدى الرئيس التركي سيارة "توغ" الكهربائية محليّة الصنع إلى الرئيس الإماراتي محمد بن زايد للتعريف بها، وشارك الرئيسان في مأدبة عشاء قبل أن يتوجّها إلى الملعب لحضور المباراة الختامية لدوري أبطال أوروبا لكرة القدم بين بين مانشستر سيتي الإنكليزي ـ الذي يمتلكه شقيق الرئيس الإماراتي ـ وبين وإنتر ميلان الإيطالي.

خلال المرحلة الأولى من تطبيع العلاقات، وتحديداً في العام 2021 والفترة التي تلته، نشطت أبو ظبي في شراء مؤسسات تركية كثيرة في مجال الأعمال والتجارة والاقتصاد والاستثمار، تبع ذلك توقيع عدّة اتفاقات من بينها سلسلة من الاتفاقات الاقتصادية والاستثمارية، بالإضافة الى اتفاقات بين البنك المركزي التركي والإماراتي.

وبناءً على هذه الاتفاقات، فإنه تمّ إنشاء صندوق استثماري إماراتي بقيمة 10 مليارات دولار، كما أنه تمّ تنفيذ اتفاقية تبادل عملات بقيمة حوالي 5 مليارات دولار. والأهم من ذلك أنّ الطرفين توصلا إلى "الاتفاقية الاقتصادية الشاملة" وهي بمثابة اتفاقية للتبادل الاقتصادي الحر ومن شأنها أنّ ترفع من حجم التبادل التجاري بين البلدين من حوالي 18 مليار دولار إلى حوالي 40 مليار دولار في أعوام قليلة، وتعزّز التعاون بينهما في عدد كبير من القطاعات كالأمن الغذائي والطاقة النظيفة، بالإضافة إلى التعاون في مشاريع البناء والعقارات، وغيرها من القطاعات.

هناك انطباع خاطئ لدى كثيرين داخل تركيا وخارجها بأنّ دول الخليج تعمل كصرّاف آلي أو شركة خيرية، وهو انطباع غير صحيح بطبيعة الحال. هذه الدول توظّف أموالها بناءً على حسابات الربع والخسارة، ومنطق الربح والخسارة يقوده المعيار الاقتصادي والمالي والاستثماري بطبية الحال، وفي بعض الحالات يدخل فيه البعد السياسي أيضاً.

الاقتصاد التركي هو أكبر اقتصاد غير نفطي في المنطقة ومن الاقتصادت المتقدّمة في العالم. انهيار سعر صرف العملة في تركيا يتعلق غالباً بالسياسة النقدية وليس بالاقتصاد الكلي. الإمارات هي ثاني أكبر اقتصاد خليجي وتمتلك إمكانيات مالية هائلة وتسعى إلى زيادة التنويع في اقتصادها من بين أهداف أخرى. في الشق الاقتصادي، فإنّ الخطوات التي اتخذتها الإمارات هي بمثابة استثمار في المستقبل. ما أن يستعيد الاقتصاد التركي التوازن، حتى تدر المؤسسات التي اشترتها الإمارات بأسعار زهيدة (بسبب انخفاض العملة)، والاستثمارات التي أدخلتها أرباحاً طائلة.

الجانب التركي يريد كذلك الاستفادة من تعزيز حجم التجارة مع أبو ظبي، والتي تفوق بأضعاف حجم التجارة مع دولة مثل السعودية على سبيل المثال أو دولة حليفة مثل قطر مثلا، ويعزز وصوله من خلالها إلى أسواق أبعد، فضلاً عن جذب المزيد من الاستثمارات إلى الداخل التركي، وهذه هي النقطة الأهم الآن في المفاوضات الجارية مع الإمارات.

على المستوى السياسي، تضمن الخطوات التي اتخذتها الإمارات موقعاً متقدماً داخل دائرة التأثير والنفوذ في تركيا، كما تضعها في موقع متقدم مقارنة بغيرها من الدول التي تمّ تطبيع العلاقات معها مؤخراً. من الجدير بالذكر أنّ هذه الخطوات اتخذت في غالبها قبل الانتخابات التركية، وهو ما فهمه البعض على أنّه مراهنة على شخص أردوغان. ومع أنّ هذا الافتراض صحيح، إلاّ أنّه يمكن الإمارات أيضاً من إعادة تعريف علاقاتها مع تركيا وأي حكومة تركية جديدة حتى لو كان أردوغان قد خسر الانتخابات.

لعبة تقاطع المصالح تسير في الاتجاه الصحيح حتى هذه اللحظة، لكن سيكون من المهم بمكان أيضاً الاستمرار في مقارنة الأقوال بالأفعال لمعرفة ما إذا كان سيجري ترجمة الوعود والأرقام في نهاية المطاف إلى حقائق، ومتابعة مستوى العلاقات المنشود بين الطرفين في ظل الطفرة الحاصلة وعمّا إذا كان سيقف عند موضوع الاقتصاد والاستثمار أم إنه سيمتد لاحقاً إلى أمور غير تقليدية، في ظل التراجع الأمريكي في المنطقة ورغبة جميع الأطراف الإقليمية الفاعلة في تنويع شراكاتها وتحالفاتها في مواجهة حالة الغموض السائدة.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس