د. علي حسين باكير - عربي21

يعتزم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان القيام بجولة خليجية خلال الأيام القليلة القادمة تشمل كلا من السعودية والإمارات وقطر، وذلك سياق تعزيز العلاقات التركية-الخليجية والتركية-العربية في مرحلة ما بعد التطبيع الإقليمي بين عدد من الدول خلال العامين الماضيين. وكانت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية التي أجريت مؤخراً قد حفّزت بعض الجهات على الإبطاء في وتيرة تعزيز العلاقات في انتظار النتيجة التي ستفرزها هذه الانتخابات.

بعض القوى الدولية كانت تأمل أن تتم هزيمة أردوغان وذلك لفتح صفحة جديدة مع انقرة بناءً على أولويات ومصالح هذه الدول، خاصّة أن المعارضة كانت قد أرسلت مؤشرات واضحة على استعداداها للاستجابة لأولويات هذه الدول دون مقابل. وربما كان هذا الانطباع قد أثر أيضا على بعض الدول في المنطقة العربية وإن لم تبد هذه الدول مؤشرات علنية على هذا الأمر.

لكن فرض فوز أردوغان واقعاً جديداً، وسمح التجديد له بإعطاء زخم لسياسة التقارب والمصالحات الإقليمية وتعزيز العلاقات التركية-الخليجية على وجه الخصوص. وتركّز المرحلة الجديدة في العلاقات بين الطرفين على الاقتصاد بالدرجة الأولى. البعض ينظر إلى هذا الأمر بشكل حصري من زاوية حاجة تركيا إلى الاستثمارات الخليجية، لكن الحقيقة أعمق من هذا الانطباع السطحي.

فدولة مثل الإمارات على سبيل المثال، تبحث عن فرص استثمارية وهذا يعني أنّ شراء أصول مهمّة بسعر رخيص (في الحالة التركية) هو استثمار طويل الأمد من شأنه أن يدر الكثير من الأرباح فور صعود الاقتصاد التركي. ولأنّ المشكلة التركية ليست عضوية وإنما ترتبط بشكل أساسي بالسياسة النقدية وليس بالاقتصاد بحد ذاته، فهذا يعني أنّ التغيير سيأتي عاجلاً أم آجلاً وسيجر معه الأرباح المنتظرة.

وبالنسبة إلى دولة مثل السعودية، فقد أعلن ولي العهد محمد بن سلمان أكثر من مرّة عن مشاريع مستقبلية تنطوي على قطاعات متعددة من بينها الإعمار والتكنولوجيا والطاقة.. الخ، وهذه قطاعات من الممكن لتركيا أن تلعب دورا أساسيا فيها، فالشركات التركية في قطاع المقاولات والإنشاءات تأتي في المرتبة الثانية عالمياً بعد الصين. فضلاً عن ذلك، فان حجم التبادل التجاري بين السعودية وتركيا متواضع جداً بالنسبة إلى حجم أكبر اقتصادين في المنطقة ويساوي حوالي 6.5 مليار دولار فقط، وهذا يعني أنّ هناك مساحة كبيرة لزيادة التعاون الاقتصادي بما يفيد الطرفين.

الاتفاقات الـ 16 التي تمّ توقيعها على هامش منتدى الأعمال التركي السعودي، في مقر مجلس العلاقات الاقتصادية الخارجية التركي DEIK"، بمشاركة وزراء سعوديين وأتراك مؤشر على وجود هذه المساحة. التعاون المنشود بين الطرفين يتجاوز التبادل التجاري إلى التعاون المرتقب في العديد من القطاعات كالمقاولات، وإنشاء المدن الذكية، والسياحة، والتحول الرقمي والقطاع الغذائي، بحسب تأكيدات الطرفين.

أمّا قطر، فهي حليف تركيا الأوّل في الخليج، وعلى الرغم من أنّ سوقها محدود نسبياً مقارنة بالآخرين، إلاّ أنّ علاقاتها التجارية مع الدول الغربية أعلى بكثير من تركيا، ولذلك فهناك دوماً مساحة لزيادة التعاون الاقتصادي والاستثماري، وهناك بالتأكيد رغبة ثنائية في الحفاظ على التحالف القائم بين الطرفين وتمتينه تحسّباً لأي متغيّرات مستقبلية تتعارض مع سياسة خفض التصعيد والتطبيع الجارية في المنطقة.

ولا شك أنّ تعزيز العلاقات الاقتصادية والاستثمارية بين تركيا وهذه الأطراف الخليجية يعزز من المصالح الثنائية المشتركة، كما أنّه يوثّق العلاقات السياسية والدفاعية. فدول الخليج، لاسيما الدول التي تمّت الإشارة إليها، تركّز مؤخراً على تنويع وارداتها الدفاعية وعلى بناء صناعة دفاعية محلّية. والجانب التركي لديه ليونة كبيرة في موضوع التعاون الدفاعي والأمني، كما أنّه منفتح على مشاريع مكمّلة أو مشتركة في مجال الصناعات الدفاعية ولا يفرض كثير قيود على هذا التعاون كما على نقل التكنولوجيا، كما يفعل الغرب مع هذه الدول.

ويعد قطاع الصناعات الدفاعية واحداً من القطاعات الواعدة في مجال التعاون المشترك بين تركيا وهذه الأطراف، وهو من ناحية الأهمّية لا يقل عن العنصر الاقتصادي وإن كانت الأطراف متّفقة الآن على أولوية العنصر الاقتصادي والاستثماري في هذه المرحلة. علاوةً على ذلك، فإن هناك مجالات أخرى للتعاون لا تزال تحتاج إلى اهتمام من الطرفين لا سيما قطاعات مثل الصحة والسياحة والتعليم والثقافة.

هناك فرصة مهمّة هذه المرّة لبناء علاقات متشابكة أكثر استدامة تركّز على المصالح الفعليّة للطرفين بعيداً عن المبالغات أو المجاملات السياسية التي كانت تجري في مراحل مختلفة سابقاً. ولا شك أنّ نقل العلاقات الثنائية على أكثر من صعيد إلى مستوى جديد سيتم اختباره عاجلاً أم آجلاً بسلسة من التحدّيات، يأمل الجانب التركي على الأقل أن تصمد خلالها وتصبح أكثر نضجاً ومتانةً.

يبقى أن نشير إلى أنّ الإعلام يتداول عادة أرقاماً مبالغاً فيها عندما يتعلق الأمّر بنشاطات الخليج في تركيا أو الطموح المتعلق بزيادة النشاط الاقتصادي والاستثماري، ولذلك فإن من الهم دوماً متابعة هذه الأرقام والتأكد من تحقّقها أو عدم تحقّقها مستقبلاً.  

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس