ياسين أقطاي - الراية القطرية

يقول ابن خلدون: «إن التاريخَ في ظاهره لا يزيد عن الإخبار، لكن في باطنه نظر وتحقيق».

الذاكرة البشرية والذاكرة الجماعية حقًّا أمور مُثيرة للاهتمام. وليس من المُستبعد أن يتذكرَ الناس عامة شيئًا ما، وأن يؤسسوا على ذلك حبًّا شديدًا أو كراهيةً وغضبًا شديدين. وإذا لاحظتم فإني لم أقل شعورًا سهلًا أو صعبًا؛ لأن القيام بهذا النوع من العمليات التي تتعلق بنسيان أو تذكُّر شيء لم يحدث من قبل يبدو أنه ليس سهلًا على الإطلاق. ولكن في كثير من الأحيان يمكن للمُجتمع أن يتشاركَ ذكريات سخيفة أو يتشارك نسيان تلك الذكريات، ما يظهر احتمالية حدوث ذلك في كل الأوقات.

وفي بعض الأحيان وحتى في مُعظم الأوقات، لا يوجد شيء مُحدد يتم تذكُّره، وإنما يمكن أن يكون هناك شيء من المُفترض تذكُّره في الوعي. ربما كان هذا ما قصده فلاسفة التاريخ في عصر ما بعد الحداثة عندما اكتشفوا أن التاريخ يمكن إعادة بنائه في أي وقت. وبذلك يمكن أن يصبحَ التاريخ مجالًا لعمليات الإسقاط اليومية التي تجرى على الوعي.

فما يجب أن نتذكره وما يجب أن ننساه يمكن أن يُصبحَ بلا معنى من خلال الألعاب التي يتم لعبها على ذاكرتنا اليومية. تعمل مقاطع الفيديو التي نتعرض لها كل يوم من خلال أدوات التواصل الاجتماعي الحالية على تآكل ذاكرتنا حتى تصلَ إلى مستوى لا يمكنه تسجيل أي شيء أو استيعابه، وتتقلص أو تتلاشى مدة ذاكرتنا إلى مدة بقاء ما يكتب على سطح الماء.

وَفقًا لإحدى الدراسات، فإن مقاطع الفيديو القصيرة التي تتدفق على وسائل التواصل الاجتماعي قد زادت من فرص التقلبات المزاجية والتحوّلات في مشاعرنا من النقيض إلى النقيض وجعلتها تتغيّر لحظيًّا. وبعبارة أخرى، في دقيقة واحدة عندما يكون موقف الجانب الآخر من العالم مأساويًّا يستدعي الحزن والبكاء، فإننا في اللحظة ذاتها يمكننا مُتابعة أخبار أخرى كوميدية سخيفة تؤدّي بنا إلى الضحك في تناقض وسخرية غريبة.

من يكذبُ التاريخَ يكذب ربه – ويسيءُ للأمواتِ والأحياءِ

ومثل هذا الموقف الذي نعيشه الآن بصفة دائمة يُعقّد عواطفنا ويتسبب في تشويهها وتزييفها. حيث يُمكن أن يُصبحَ الاضطراب العاطفي الرهيب هو شخصيتنا الشائعة بشكل مُتزايد. وبالتالي يجعلنا غير قادرين على اتخاذ قرار يتعلق بعواطفنا، ما يجعل عواطفنا ضحلة وسطحية ومُصطنعة. ومن ناحية أخرى فإنه نتيجة لذلك تتشكل تدريجيًّا كتلة تتحرك بمشاعر لحظية وتضع العقل جانبًا.

وهذا لأن السطحية والضحالة هما السمة المُميزة لهذه البيئة الإعلامية. فرسالة وسائل الإعلام هي الرسالة نفسها. أي أن الرسائل الموجَّهة لاستهداف العواطف وردود الفعل قصيرة المدى تجد في هذه البيئة الوسيلة المثالية.

وبالفعل، هناك سياسيون مُتعطشون لاستغلال ذلك، فيُحاولون بناء السياسة بالاستفادة من هذا الوضع، ويسعون لجذب الجمهور وضمهم لبرامجهم وخططهم ليكونوا جزءًا من استراتيجياتهم. ولا يهم حقًّا من الذي يقول الحقيقة؟ أو ماذا يُقال؟ أو ماذا يعني ما يُقال؟ ولماذا يُقال؟ فليس هناك من يبحث عن الاتساق أو التماسك بين ما تُقدّمه وسائل التواصل الاجتماعي. كما أنه لا أحد يبحث عن معنى كل ذلك. فالجميع مشغولون فقط بكتابة التعليق الذي يستحق الرد؛ لتبدأ سلسلة من الردود والهجوم من الجيوش الإلكترونية في اللحظة نفسها. لأن الأهم لديهم هو استثارة هذه الردود واستخراج طاقة المُتابعين، ومن هذه الطاقة يصنعون انطباعًا ومن هذا الانطباع يُمررون رسالتهم المقصودة. والحقيقة أنه لا يمكن تحفيز رد الفعل المطلوب من خلال أفكار وعبارات ذات معنى. ولذلك يحتاجون إلى هذه الردود المُثارة وهذه الطاقة التي تنطلق منها الإساءة.

وفي هذه الأجواء، فإن تاريخ حِقبة الحزب الواحد يمكن أن يكونَ مُرهقًا للذاكرة بما فيه الكفاية، وربما يكون من الأفضل للجميع تجنب الانحراف بعيدًا. ومع ذلك، فإننا لا نزال نعيش في وضع يستفيد من الأحداث التي وقعت في تلك الحِقبة وأنها ما زالت تُشكِّل عقولنا. تعقيداتنا موجودة هناك وإعجابنا بالآخرين وفقداننا لأنفسنا وإضاعتنا للتاريخ ولأنفسنا، كلها أحداث كانت في تلك الفترة. ويعلم الجميع ذلك، لكن لا أحد يجرؤ على التحدث، ومن يُحاول الحديث سرعان ما يتوقف أو يتم منعه. وتكون هذه فرصة كبيرة لإظهار مهارات إخفاء الأسرار الكبيرة المُتعلقة بحِقبة شهدت كثيرًا من الصدمات الكبيرة. كما أنه من المعلوم أننا لن نتمكنَ من النمو أو التخلص من عُقَدِنا بدون مواجهة تلك الفترة، بدون مواجهة ذلك التاريخ، بدون مواجهة ما حدث وتحمل تبعاته.

واليوم تُظهر وسائل التواصل الاجتماعي بريقًا من بعض مشاهد كومة الذكريات والتجارب والصدمات، وتُعيد إحياءها من جديد فتأتي وتذهب، وتتوهج ثم تختفي، وكأنها تستمر في مُحاولة تحريك الماء الراكد.

من خلال ذلك كله نُدرك مرة أخرى أنه من الضروري العودة إلى هناك ومواجهة ما عشناه إذا كنا نرغب في النهضة والتطور والتخلص مما تُسببه من إزعاج واضطرابات.

في البداية، كانت هناك قوانين مُعلبة لمصلحة بعض الأشخاص، وكانت هناك سلطة مُتسلطة شديدة القسوة المُعلنة. واليوم تُحاول نفس السلطة القاسية الغابرة أن توظفَ وسائل التواصل الاجتماعي وتستخدم كامل إمكانات هذه الوسائل لتحقيق أقصى قدرٍ من الضغط.

وقد تعمل هذه الضغوط في بعض الأحيان بشكل إيجابي لكبت الأصوات، ولكنك تعلم أنه عند إخماد صوت شخص يُضطر الآخرون إلى التحدّث وربما التصفيق للسلطة وتأكيد أيديولوجيتها، بمعنى أن يكونَ الكلام فرضًا على الجميع وَفقًا لما تُمليه مصلحة السلطة، وكما تقول قاعدة الفاشية المعروفة: لا تعمل الفاشية في الغالب كقوة قمعية فحسب، بل تفرض رأيها وأفكارها وتُجبر الجميعَ على التحدث لصالح السلطة ونشر أيديولوجيتها. والويل لمن لا يتحدث، أو لا يُصفق، أو لا ينخرط، أو لا يوافق على أن يكون كالببغاء لأيديولوجية هذا الكلام السخيف، ولا يلومنَّ إلا نفسه وليكن واعيًا بمصيره المُنتظر.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس