د. سمير صالحة - العين الإخبارية

احتفل حزب العدالة والتنمية قبل أيام بمرور 22 عاما على "الرحلة" التي بدأها في أغسطس/آب 2001 بعبارة "لن يعود أي شيء في تركيا إلى ما كان عليه في الماضي".

تمكن الحزب الذي انشقت قياداته عن الأب الروحي نجم الدين أربكان بسبب خلافات في الرؤية والتقدير ورسم السياسات في الداخل والخارج، من الوصول إلى سدة الحكم بعد أول انتخابات يدخلها وفي فترة زمنية قياسية لا تتجاوز 15 شهراً. يذهب حزب العدالة 17 مرة إلى الصناديق بقيادة الرئيس رجب طيب أردوغان وينجح في البقاء بمفرده على رأس الحكم.

أعطى الشعار المرفوع عند التأسيس الحزب فرصة الاحتفاظ بالسلطة حتى اليوم، لكنه لم يسعفه باتجاه تحقيق الكثير من الوعود المعلنة في الداخل والخارج بعد مرور عقدين على الانطلاق.

الأهداف التي تحدث عنها أردوغان ومن كان معه وقتها من قيادات مثل عبد الله غول وبولنت أرينش وحسين شليك وعبد اللطيف شنار كانت مغرية وجذابة. الحديث يدور عن التغيير والإصلاح والتحولات الاستراتيجية في سياسات تركيا الداخلية والخارجية لإخراج البلاد من أزماتها الاقتصادية والسياسية والدستورية، وهذا كان كافيا لإقناع القواعد الإسلامية التي دعمت أربكان، بالتخلي عنه والذهاب وراء المسار الحزبي والفكري المغاير.

حصل الحزب على نسبة 34 في المئة من مجموع الأصوات مكنته من التفرد بالسلطة وتشكيل الحكومة التي يريد، بخصوصية تقليد الرئيس الأسبق والسياسي المخضرم تورغوت أوزال و"حزب الوطن الأم" الذي نجح في جمع التيارات السياسية والحزبية والفكرية الأربعة الأكبر في تركيا تحت سقف واحد وكان له ما أراد.

قاد أردوغان في العقد الأول من حكمه عملية الصعود الاقتصادي والإنمائي والإصلاحي في الداخل التركي، وحقق إنجازات كبيرة في سياسة الانفتاح التركي على دول الجوار وتحسين العلاقات مع الدوائر الجغرافية والسياسية والاقتصادية المحيطة.

انفجار الحراك الشعبي في العديد من دول المنطقة عام 2010، أغرى أنقرة ودفعها للرهان على فرص استراتيجية جديدة للتموضع الإقليمي الجديد فيما يجري بهدف الانتشار والتمدد. لكنها دفعت ثمناً باهظاً أدى إلى توتر علاقاتها مع الكثير من دول المنطقة وارتداد سياساتها الخارجية في أكثر من مكان على مصالحها بشكل سلبي.

المشهد الحالي يعكس حقيقة تراجع العديد من الأكاديميين والإعلاميين الأتراك عن فكرة تقديم حزب العدالة وطريقة حكمه كنموذج إقليمي يحتذى به. السبب الأول هو الخضات الاقتصادية والاجتماعية التي ما زالت تعصف بالداخل التركي. والسبب الثاني هو انشقاق العديد من الشخصيات والقيادات ومغادرتها السفينة باتجاه إنشاء أحزاب بديلة رغم فشلها في الوصول إلى ما كانت تريد، فحالات أحمد داود أوغلو وعلي باباجان وعبد اللطيف شنار تلخص الوضع ربما.

أما السبب الثالث فهو دخول الحزب في أكثر من مواجهة إقليمية مكلفة ما زالت ارتداداتها قائمة حتى اليوم.

عادت قيادات العدالة والتنمية إلى براغماتيتها المعهودة مستفيدة من الدروس والأخطاء وسارعت في الأعوام الثلاثة الأخيرة لمراجعة المواقف والسياسات التي قابلها الضوء الأخضر الذي أشعلته الكثير من العواصم مجدداً أمامها. الطرح الذي بات يرضي الكثيرين داخل تركيا وخارجها هو بدلا من الحديث عن الحزب – النموذج الإقليمي، الاكتفاء بتبني التجربة الناجحة لحزب العدالة التي سهلت له البقاء على رأس السلطة خُمس عمر الجمهورية التركية الحديثة.

رفع حزب العدالة والتنمية في الذكرى الــ22 لتأسيسه شعار "قرن تركيا" وهي المهمة الجديدة التي اختارها لنفسه بعد تربعه على مقعد الحكم. الترجمة العملية لهذه الاستراتيجية كما أعلن أردوغان وقيادات الحزب هي الذهاب وراء أهداف سياسية واقتصادية وإنمائية جديدة تضع تركيا بين الدول العشر الأولى في العالم.

هو الحلم الكبير بعينه الواجب تحقيقه خلال فترة زمنية قصيرة لا تزيد على 5 سنوات دستورية أخرى سيمضيها في السلطة فهل يكون له ما يريد؟

صحيح أن العوامل الداخلية بشقها السياسي والحزبي ما زالت لصالح أردوغان ورفاقه رغم مرور عقدين من الزمن على تفرد الحزب في السلطة. وأن قوى المعارضة في البلاد هي الداعم الأول لهما في ذلك نتيجة تفككها وتشرذمها وعدم ثقة الناخب التركي بها بعدما أهدرت الكثير من الفرص السانحة الممنوحة لها. وصحيح أن الانشقاقات والأصوات التي ارتفعت داخل الحزب منتقدة ومعارضة تم إخمادها وتحويلها إلى حركات هامشية صغيرة بلا وزن.

لكن خبرة أردوغان السياسية والتحامه السريع تحت غطاء "تحالف الجمهور" مع دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية الذي ابتعد عن المعارضة قبل 6 سنوات، مرفوداً بأحزاب وقوى سياسية وحزبية يمينية إسلامية صغيرة جاهزة لسد أي فراغ يحصل كما رأينا في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة قبل 4 أشهر. كل ذلك مكنه من مواصلة الإمساك بخيوط اللعبة والتحكم بإدارة المشهد كما يشاء.

يبرز أردوغان وحزبه الجوانب الإيجابية في الخطط والإنجازات التي تحققت في مجال التصنيع العسكري والتكنولوجيا المتطورة وإطلاق السيارة التركية الوطنية "فوغ"، وهو محق في ذلك فكلها ملفات تدغدغ شعور المواطن التركي وتبقي الناخب إلى جانب حزب العدالة. لكن ما يعوق وصول أردوغان إلى أهدافه ما زال قائماً مثل المشاكل الاقتصادية والمالية التي تعصف بالبلاد وفي مقدمتها أرقام التضخم والغلاء والبطالة وتراجع سعر صرف الليرة.

إلى جانب الكثير من الملفات الخلافية الخارجية مع دول الجوار والأزمات المحيطة في سوريا والعراق وبحر إيجه وشرق المتوسط، والتباعد القائم بين تركيا وأقرب حلفائها في الغرب وعلى رأسهم أمريكا نتيجة التقارب الاستراتيجي التركي الروسي كما تابعنا قبل أيام خلال قمة أردوغان – بوتين والمواقف المعلنة حول الرغبة في رفع مستوى التعاون والتنسيق بين البلدين.

امتحان الانتخابات المحلية المنتظر في مارس/آذار المقبل خصوصاً مسألة استرداد حزب العدالة لرئاسة بلديتي أنقرة وإسطنبول من تكتل المعارضة مقياس مهم في معرفة فرصه وثقله الشعبي والسياسي للسنوات الخمس المقبلة. لكن الطريق إلى ذلك لا بد أن يمر عبر التحضير الجيد لمؤتمر الحزب المرتقب بعد أسابيع واختيار فريق العمل الحزبي الجديد والأسماء التي ستبرز هذه المرة.

كل ذلك سيساعدنا على التعرف إلى شكل المرحلة المقبلة ولعبة التوازنات الحزبية الجديدة التي يعد لها أردوغان لتقود البلاد بعد سنوات. لكنه سيوصلنا أيضاً إلى الإجابة عن سؤال من سيكون الرجل الثاني في الحزب الذي سيواصل المسيرة بعد انتهاء الفترة الدستورية لرئاسة أردوغان.

وضع حزب العدالة والتنمية بصماته على الكثير من البرامج والخطط الإنمائية الاستراتيجية في البلاد، وخرج منتصراً في جميع المعارك الانتخابية التي خاضها. لم تتآكل شعبيته رغم السنين التي قضاها في الحكم.

لكن مشكلته تبقى في تحميله لقوى المعارضة التركية مسؤولية عرقلة الكثير من الملفات التي لم تعالج بعد، وبينها وعد تسريع العضوية الكاملة في الاتحاد الأوروبي، ونقل تركيا إلى مصاف الدول الاقتصادية العشر الأولى في العالم، وخفض رقم التضخم إلى خانة واحدة، ثم تصفيره خلال سنوات، هذا إلى جانب تحقيق الحلم الأكبر وهو إعداد دستور تركي عصري جديد.

ما زال المواطن التركي يميل للثقة في العدالة والتنمية على حساب الأحزاب والقوى الأخرى التي تطرح بدائل وخيارات لم تقنع الكثيرين. خصوصاً أن قيادات حزبية في العدالة بدأت تتحدث عن إعادة تعريف موقع ودور تركيا في السياسات الخارجية ومواصلة نهج التهدئة مع الإقليم الذي انطلقت عجلته في عام 2020.

عن الكاتب

د. سمير صالحة

البرفسور الدكتور سمير صالحة هو أكاديمي تركي والعميد المؤسس لكلية القانون في جامعة غازي عنتاب وأستاذ مادتي القانون الدولي العام والعلاقات الدولية في جامعة كوجالي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس