ياسين أقطاي - الجزيرة مباشر

لعل المتابع لأخبار التعليم العالي في تركيا يشهد بالتغيير الكبير في السياسات التعليمية التي طالما كانت مقاوِمة للتطوير والانفتاح، أما الآن فقد حدثت طفرة كبيرة في تلك السياسات واكتسبت زخمًا كبيرًا في تعزيز التعليم الجامعي، وأول مظهر من مظاهر ذلك هو التوسع في إنشاء الجامعات، حتى صار في كل محافظة تركية جامعة واحدة على الأقل.

وقد أثّر ذلك في الحياة العامة بكل المدن تقريبًا، فصارت الجامعة وما يتعلق بها جزءًا لا يتجزأ من الحياة اليومية، إذ أصبحت الجامعات أهم مؤسسة في جميع المدن وخاصة الصغيرة والمتوسطة المساحة والتعداد السكاني، ولهذا فإن كل شيء في تلك المدن ابتداءً من عادات الاستهلاك والخدمات الحضرية والتنظيم المكاني للمؤسسات المدينة صار تابعًا للنشاط الجامعي، حتى أصبح وجود الجامعة في المدينة أمرًا عاديًّا مترابطًا مع الحياة اليومية للأفراد.

ولهذا الوضع آثار جانبية على نظرة المجتمع إلى الجامعة ومكانتها ومنزلة العلم والعلماء، الأمر الذي يجعل حتى معاهد العلم وروادها أكثر اعتيادية بين فئات المجتمع المختلفة. وربما في الماضي، كان الأشخاص الذين يعيشون بعيدًا عن المدن الكبيرة يضعون الجامعة في منزلة عالية ويربطونها بالمثالية والرقي. كما أن لقلة عدد الجامعات، وبالتالي الأساتذة الأكاديميين، أثر كبير في زيادة الهيبة للبيئة الجامعية بشكل تام، ولذلك تمتع أعضاء هيئة التدريس في الجامعات في الماضي بسمعة ومكانة مرموقة في المجتمع.

وهناك العديد من الدلائل على أن السياسة في تركيا منذ نشأتها قد استخدمت الجامعة كمؤسسة وصاية على المجتمع منذ البداية، وقد صُممت المؤسسة بأكملها بأعضاء هيئة التدريس والطلاب مكانًا من شأنه أن يجعلهم يشعرون بالامتياز. وفي هذا الصدد لا يمكن تفسير مقاومة تركيا لتنمية البيئة الجامعية بعدم كفاية الوضع الاقتصادي في البلاد، فقد كان لا بد لأصحاب الرؤية الشاملة للتنمية أن يعُدّوا التعليم الجامعي مجالًا لا غنى عنه في محاولاتهم باتجاه التنمية والتطوير. لكن من الواضح أنه لم يتم تكوين رؤية أو إرادة جادة للتنمية الشاملة، فالواضح أن السلطة قد اكتفت بالمؤسسات الصغيرة القائمة، لأنها يمكن أن تكون تحت سيطرة السلطة التي كانت ترى ضرورة بقائها صغيرة ضيقة التأثير، من خلال أسوار ضخمة لكنها غير متناسبة مع حجم التطلعات، فعلى الرغم من وجود مبانٍ جامعية ضخمة ورصينة وأساتذة بمرتبة عالية على الساحة الوطنية، فإنهم غالبًا ما يكونون غير معروفين في الأوساط الدولية والعالمية وفي بيئات المعرفة الشاملة.

وهذا الوضع المتناقض كاد يكون قائمًا في الوعي مع الترتيب المكاني للجامعة، فالحرم الجامعي عبارة عن ترتيب مكاني تتركز فيه مناطق التعليم العالي في جميع أنحاء العالم على أنشطة التعلم التي يتم تنفيذها في الفصول الدراسية، فالنشاط التدريسي يقع في الفصل الدراسي الذي يأتي بين جميع إدارات الجامعة والمقاصف وسكن الطلاب والمناظر الطبيعية. ومع ذلك، فإن السؤال عن مكان الحرم الجامعي، أي هذا الهيكل الكبير الذي يضم الفصول الدراسية، وكذلك الحياة والمدينة والمجتمع، يجعل من الممكن رؤية اختلافات مهمة جدًّا بين فكرة الجامعة في تركيا والفكرة العامة للجامعة. هل من الضروري أن نكون بعيدين عن المجتمع إلى هذا الحد لطرح الأفكار أمام المجتمع أو لإنتاج معلومات محفزة تشجيعية؟

في الجامعات التي يتم الدخول إليها عبر بوابات مراقبة نظامية للتحقق من الهوية، وبالنظر إلى موقع الحرم الجامعي في الهيكل العام للمدينة، يبدو كما لو أن هناك انفصالًا بين عالم العلوم والتدفق العادي للحياة. وكما ذكرت من قبل، فإن الهندسة المعمارية للجامعات وخاصة تصميمات الحرم الجامعي تشبه مدينة في حد ذاتها، فهو مبني على هيكل معزول إلى حد ما بعيدًا عن المدينة، ومنفصل عن المدينة بأكملها، ويدعي أنه “مكتفٍ ذاتيًّا”، وخاصة إذا كان الأستاذ يعيش في مساكن داخل منطقة الحرم الجامعي، فيمكنه العيش لأسابيع دون تواصل مناسب مع المدينة التي يعيش فيها.

وهذا الأسلوب الهيكلي يعزل أماكن العلم عن مجالات الحياة الأخرى، لأنك إذا أردت الدخول إلى إحدى الجامعات، فعليك اتباع العديد من الإجراءات التي تفصلك عن بقية أجزاء المدينة. في البداية، عليك السير مسافة طويلة، وبعد ذلك عليك أن تخبر القوات الأمنية المتمركزة على باب الحرم الجامعي بما ستفعله داخله. وبالطبع، تجعلك هذه العملية المزدوجة تشعر وكأن عليك ترك عالم الحياة الطبيعي خلفك عند دخولك عالم العلم.

وهناك الكثير من الجدل بشأن هذا النمط من الجامعات في الغرب، ويتم التعبير في كثير من الأحيان عن مخاوف من أن مثل هذا التصميم المعزول للحرم الجامعي مع الناس والمدينة ومجالات الحياة الأخرى سيكون له انعكاس على العلم المنتج، كما أنه قد يفصل العلم عن الحياة.

ومع ذلك، فإنه في العديد من البلدان التي زرتُها حتى الآن، لا توجد مثل هذه البوابات “بوابة المراقبة” التي تطلب منك بطاقة هويتك عند مداخل الجامعة أو تسأل عما تفعله في الجامعة، وتطردك إذا لم يكن لديك أي نشاط فيها أو لم تقدّم سببًا مقنعا لوجودك هناك.

بينما نجد أن هناك عددًا كبيرًا من الجامعات ذات الجودة العالية في العالم هي بالفعل جزء من المدينة، فأثناء عبورك من شارع إلى آخر لا تدرك حتى أنك دخلت حرم الجامعة، ولا يُشترط أن تكون عضوًا جامعيًّا للاستفادة من الوحدات المختلفة بالجامعات وخاصة المكتبات، وربما تحتاج إلى أن تكون طالبًا أو عضوًا في الجامعة لتستعير كتابًا، لكن لا أحد يتدخل في الدخول والخروج.

فقد ترغب في متابعة دروس أستاذ ما، وفي هذه الحالة لا تحتاج إلى شيء سوى الحصول على إذن من مدرس تلك الدورة فقط وليس من إدارة الجامعة، وهذا الوضع يجعل الالتحاق بالجامعات والخروج منها أمرًا سهلًا للغاية بالنسبة للجمهور، لدرجة أنه من السخافة مجرد الحديث عن مشكلة إقامة علاقة بين الجامعة والقطاع العام.

فالجامعات تنتمي بالفعل إلى الجمهور، ويستطيع كل فرد أن يستفيد منها. وكلما زاد عدد الأشخاص الذين يمكنهم الحضور والاستفادة، أصبحت جودة الجامعة كجامعة أكثر واقعية. وبالطبع، فإن الحصول على معلومات من الجامعة، لا ينقص مجموع المعرفة فيها، بل على العكس من ذلك، فإنه يزيد أكثر بسبب كثرة فرص التلقي. ولا يؤخذ في الاعتبار ديانة الشخص الذي يريد الاستفادة من الجامعة أو هويته بأي شكل من الأشكال. ومما يدل على أن رسالة الجامعة تصل إلى الجميع، هو التنوع في هويات المستفيدين من الجامعة.

وعلينا باختصار أن نتناول بنية للحرم الجامعي الذي تحوّل إلى نوع من المعسكر الطلابي والأكاديمي الذي اضطر إلى الانغلاق عن بقية المدينة.

ومن الضروري من أجل تطوير فكرة الجامعة أن نتساءل عن البعد الذي يضيفه التنظيم المكاني للحرم الجامعي إلى التفكير العلمي الفلسفي والإنتاج العلمي، استجابة لمهمة تأثير الجامعة في العالم وتواصلها معه، الذي يتحقق بإنشاء جامعة في كل محافظة.

عن الكاتب

ياسين أقطاي

قيادي في حزب العدالة والتنمية التركي الحاكم


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس