محمود عثمان – خاص ترك برس

تقوم النظم الديمقراطية في الدولة الحديثة على فكرة المساواة وتكافؤ الفرص بين المواطنين، حيث يقوم المواطن باختيار من يشاء من الأحزاب السياسية التي تصوغ برامجها وتعرضها على الشعب، ثم تحاول إقناعه بجدوى ونجاعة تلك البرامج في صلاحه وسعادته والنهوض بالوطن إلى مراتب التقدم والازدهار، أدواتها في ذلك الكلمة والرأي والمشروع والخطة. بعد ذلك يقوم الشعب بانتخاب واحد من بين الأحزاب المتعددة يعطيه مهمة الحكم وصلاحية ممارسة السلطة لفترة محددة بنص القانون، بينما تقف بقية الأحزاب له بالمرصاد ترقب حركاته وسكناته وتحذر الناس من سلبيات برنامجه في محاولة لفرض نفسها بديلة عنه بالانتخابات التي تلي فترة انتهاء حكمه، أدواتها في ذلك الكلمة والرأي والمشروع المقابل والخطة البديلة. تلك هي أدوات العمل السياسي .

مقابل ذلك هناك قطاع عريض – وخصوصاً في عالمنا الاسلامي - لا تروق له هذه الطريق الطويلة الشاقة، ولا طاقة له بالصبرعلى تقلب أهواء الحكام وكثرة الآراء لدى الشعوب، فيذهب إلى فرض رأيه ومشروعه بقوة السلاح كوسيلة أكثر فعالية وأقصر طريقاً للوصول للحكم.

في عالمنا الإسلامي المعاصر حيث رسمت حدود الدول القطرية الحالية كنتيجة لاقتسام تركة الدولة العثمانية الرجل المريض وبحسب مسطرة سايكس وقلم بيكو عقب فترة الاستعمار الغربي، وتشكلت النظم السياسية مشابهة ومحاكية لنظم الدولة الحديثة في الظاهر والشكل، لكن ما لبثت أن تكرست دكتاتوريات حكمت شعوبها بالقوة والقهر والجبروت السياسي رافقه كنتيجة حتمية فشل ذريع في إدارة الاقتصاد وموارد الدولة.

وفي الوقت الذي حققت فيه معظم شعوب العالم تقدما وازدهاراً، تراجعت البلاد الاسلامية للوراء فأصبح الفقر والتخلف كأنه قدرها المحتوم رغم ما حباها الله به من مصادر طبيعية كثيرة ضخمة، الأمر الذي أدى إلى تراكم حالة من السلبية والتذمر والعصيان لدى الشعوب سرعان ما تحولت إلى ثورات شعبية عفوية فوضوية سميت بالربيع العربي .. لكن الأنظمة والقوى الحاكمة محليا ودوليا حرفتها عن مسارها بتوجيهها نحو السلاح لتدخلها في نفق حروب أهلية لا أحد من أطرافها يملك القدرة على إيقافها أو كبح جماحها، فانقلب الربيع خريفاً داميا.

في الجمهورية التركية التي أسست على أنقاض الدولة العثمانية ، استمر حكم الحزب الواحد حزب الشعب الجمهوري فيها ما يقارب الثلاثة عقود، ولم تتحول إلى التعددية الحزبية والحياة السياسية البرلمانية إلا بعد أن اشترط عليها حلف الناتو ذلك . لكن عقلية حكم الحزب الواحد لم تتبدل بين عشية وضحاها، بل ظلت طاغية مسيطرة على مقدرات الحكم إلى عهد ليس ببعيد، إذ كان العسكر ينقلبون على السلطة السياسية بين الفينة والأخرى، ولم يسلم من ضغط العسكر وجبروتهم تيار سياسي واحد، فقد تعرضت جميع الايدلوجيات والتيارات والأحزاب السياسية للقمع والاضطهاد على أيدي العسكر، بينما نال التياران الاسلامي واليساري حصة الأسد من ذلك القمع والاضطهاد، حيث قامت الجمهورية التركية على فكرة التصدي لخطرين اساسيين هما: الحكم بنظام الشريعة الاسلامية، والحكم بالنظام الشيوعية . وبناء على ذلك تم التعامل مع منتسبي هذين التيارين .

شهدت أواخر الستينات من القرن الماضي صعود البرفسور المهندس نجم الدين أربكان الذي أسس الحركة الإسلامية الحديثة وفق رؤية مختلفة عما كانت عليه في البلاد العربية، فقد اختار طريق العمل السياسي والمشاركة النشطة في الحياة العامة، متخذا العاصمة أنقرة مركز الدولة والسياسة منطلقا لنشاطه . فاستطاع خلال فترة قصيرة نسبيا استقطاب النخب الشبابية المتقدة حماسا من أبناء الطبقة الاجتماعية المتوسطة الذين أقصتهم طبقة النخبة التي كانت تهيمن على على مقدرات السياسة والدولة التركية.

نجح نجم الدين أربكان في استقطاب هذه الكفاءات المقصاة في مدرسة سياسية إصلاحية حركية اسلامية اتخذت من نبذ العنف والتصالح مع الدولة ونظام الحكم - مهما كانت الظروف - أساساً تنبني عليه بقية الفروع، فانفض عنه كثيرون من طبقة المتعجلين والمستعجلين، لكنه استمر في طريقه على نفس النهج، يغلق له حزب فيؤسس مكانه حزباً آخر لتستمر القافلة في المسير، حتى بلغ به الأمر إلى تأسيس حزب سياسي يبقى كاحتياطي يستخدم عند اللزوم اختصاراً للوقت، فلم تنقطع حركته عن السياسة يوما واحدا !.

عبد الله أوجلان اليساري الماركسي والثائر القومي الكردي تبنى طريق النضال المسلح، فأسس في أوائل الثمانينات حزب العمال الكردستاني الذي حظي بدعم أوربي غير محدود ولا يزال مستمرا إلى يومنا هذا، وبلغ مقاتلوه الألوف المؤلفة، سنحت له فترة السجن في إجراء عملية مراجعة وإعادة تقييم، فخلص إلى أن الحرب الضروس التي خاضها ضد الدولة التركية كلفت الطرفين أكثر من ثلاثين ألف قتيل معظمهم من الأكراد، وأن المناطق الكردية ظلت فقيرة متخلفة بسبب الحرب الدائرة هناك، بينما بقية مناطق ومدن تركيا قد أخذت قسطها من التطور والازدهار الاقتصادي، فأسست فيها المصانع وبنيت بها الجامعات وشيدت الأبنية وفتحت فيها المطارات . والأهم من ذلك كله أن التيار الاسلامي الذي كان ملاحقا مطارداً مثله أصبح في السلطة يدير شؤون الدولة , فأطلق نداءه الشهير بضرورة ترك السلاح والتحول إلى مرحلة النضال السياسي السلمي، وسرعان ما لقي نداؤه التصالحي استجابة عند الرئيس رجب طيب أردوغان الذي كان قد أطلق مبادرة المصالحة بين جميع مكونات المجتمع التركي، وسارت الأمور بوتيرة ايجابية نوعا ما، لكن الطرف المسلح في حركة التمرد الكردية الذي استجاب لنداء أوجلان في الظاهر ما لبث أن أفرغ تلك الدعوة من مضمونها، فعمدت إلى استغلال عملية المصالحة  كفرصة لإعادة التموضع السياسي والحشد والاستعداد العسكري ، وأقصدت زعيمها التاريخي عن دائرة القرار، بل حرفت رسائله وبدلت نداءاته للرأي العام، فنقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا.

في المحصلة .. أرادت الحركة الكردية – سواء بمحض إرادتها أم بضغوط من داعميها وموجهيها - الجمع بين السياسة والبندقية، والكلمة والرصاصة . ولأن هذا محال فقد أسكتت الكلمة وعطلت السياسة، فامتشقت البندقية وانطلقت الرصاصة ودقت طبول الحرب . ليبدأ سيناريو العنف والرعب الذي لا يستفيد منه سوى تجار السلاح وسماسرتهم ممن بنوا امبراطورياتهم على أشلائنا ودمائنا ودموعنا .

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس