جو حمّورة - المفكرة القانونية

لطالما كانت تركيا قبلة المؤمنين بالعلمانية ومفاهيمها. إلا أنّ تطوراتها السياسية والإجتماعية الأخيرة تؤشّر إلى قُرب اضمحلال هذا النمط من التفكير والنظام الذي حكمها خلال العقود الماضية. فبعد تطبيق العلمانية في الدولة وعلى المجتمع منذ العام 1923، عاد الإسلاميون إلى الحكم عام 2002، ومعهم مجد سلطنة عثمانية غابرة وأحلام خلافة إسلامية. كما تحوّلتْ فترة حكم العلمانيين لتركيا إلى مجرد مرحلة من الماضي قد لا تعود يوماً.

طوى الأتراك مرحلة العلمانية منذ سنوات قليلة، فبات للإسلاميين مرتبة الصدارة في الانتخابات والسلطة وأجهزة الدولة والمجتمع. ما عادوا أعداء الدولة كما كانت تصفهم الحكومات العلمانية السابقة، ولا أعداء الأمّة التركية كما كانت المؤسّسة العسكريّة العلمانية تصنّفهم، بل باتوا أسياد الحكم والجيش والبلاد. فيما تحوّل العلمانيون إلى ما يشبه الفئة المهمّشة وضعيفة التأثير في اللعبة السياسية الداخلية، والتي تجهد للحفاظ على ما تبقى من إرث تركيّا العلماني.

لم يأتِ هذا النجاح الإسلامي من فراغ. بل كان نتيجة نضال طويل لتيار الإسلام السياسي كلّفته الكثير من الجهد والدم للظفر بالسلطة. كما استغلّ هذا التيار ضعف العلمانية التركية في البيئات الاجتماعية المختلفة وسوء تطبيقها، فضلاً عن مفاهيمها الخاصّة والمميزة. فهذه المفاهيم أضرت بالعلمانية وجعلت منها أداة للحكم على نقيض ما تهدف إليه من عدالة ومساواة وفصل للدين عن الدولة.

الإصلاح من فوق ونكث شرطَيْ العلمانية

العلمانية أنواع. منها ما يأخذ من الدين موقفاً سلبياً ومنها ما يأخذ منه موقف الحياد، وغيرها ما يتحوّل إلى مجرد أداة إيديولوجية لمجموعة ما، أو إلى نظام عادل يحكم بالمساواة بين جميع الناس. إلا أنّ مجمل أنواع العلمانية لها شرطان ثابتان إن تمّ الإخلال بأيّ منهما فقدت العلمانية جوهرها وعلّة وجودها. الأول يقوم على فصل الدين عن الدولة عبر عدم تدخل المؤسّسة الدينية بالشؤون السياسية، كما عدم تدخل الدولة والسلطة بالشؤون الدينية. فيما الثاني يقوم على المساواة وعدم التمييز بين المواطنين على أساس ديني أو طائفي أو إثني.

إلا أن لتركيا علمانية مميزة، حيث جنح حُكامها الأوائل بعلمانيتهم إلى الإلحاد والعداء للدين من ناحية، كما التفريط بالشرطين الضامنين لأي علمانية ناجحة من ناحية أخرى. فمصطفى كمال "أتاتورك" المتأثر بعلمانية الجمهورية الفرنسية الثالثة ذات الميول الإلحادية، والذي تعلّم فنون العسكرية في ثكناتها وبين ضباطها، سعى إلى تحديث تركيا عبر بتر حاضرها عن ماضيها الإسلامي، وإلى إلغاء كلّ ما يَرمز للدين في الدولة والمجتمع[1]. فجعل من الدين والمؤسسات الدينية الرسمية كما الطرق الصوفية أعداءً له وللدولة منذ توليه حكم الجمهورية الناشئة.

فمنذ العام 1924 بدأ بتحديث تركيا على النمط الغربي وفصلها عن ماضيها، فألغى الخلافة في نفس العام، ثم ألغى كل المدارس والمعاهد الدينية ووحّد التعليم وجعله مختلطاً. كما أقر برلمانه قوانين مدنية وجنائية جديدة مستوحاة من القوانين الأوروبية، وألغى الشريعة الإسلامية وأقرّ المساواة بين الرجال والنساء، ومنعهما من ارتداء الأزياء الإسلامية. بالإضافة إلى ذلك، منعت الدولة "الأتاتوركية" الآذان وترجمت القرآن وحلّت الطرق الصوفية والروابط الإسلامية. ثم ألغت، في العام 1928، الإسلام كدين للدولة بعد أن استبدلت التقويم الإسلامي بالتقويم الغريغوري وجعلت من يوم الأحد يوماً للعطلة بدلاً من يوم الجمعة[2].

وكان "أتاتورك" يهدف من هذه السياسات إلى إحداث ثورة في المجتمع التركي، وإدخال تركيا في ركب الحداثة والحضارة على النمط الأوروبي. وكان يعتبر أنه "لا يمكن للجمهورية التركية أن تبقى محكومة من قبل المشايخ والدراويش والطرق الدينية. إنّما هناك نظام واحد حقيقي وصحيح ومعقول لنا، وهو نظام الحضارة"[3]. غير أن مشروع الدولة "الأتاتوركية" العلمانية حمل بذور فشله منذ بداية وضعه موضع التنفيذ، وذلك لأن الإصلاحات ذات النزعة الإلحادية أتت نتيجة لسياسات تحديثية فوقية فقط، ولم تكن، كما في الحالة الأوروبية مثلاً، ردًا على مطالب شعبية نابعة من إرادة المجتمع.

من ناحية أخرى، أخلّ "أتاتورك" بشرطيْ العلمانية، فجعل منها أداة إيديولوجية للحكم وزيادة شرعية السلطة. فنكث الشرط الأول القاضي بفصل الدين عن الدولة وعدم تدخل الدولة بالشؤون الدينية بحيث أنشأ في  1924 "رئاسة الشؤون الدينية"، محولا إياها الى أداة للتبشير بالعلمانية. فكان هذا الجهاز، ولا يزال، المؤسسة الحصريّة المعنيّة بالشؤون الدينية في تركيا، فيما أُنشئ كجهاز حكومي تقوم الدولة بتعيين رئيسه وتحديد مهمّاته، إضافة لتحديد مهمّات رجال الدين ومضمون خطبهم وتعاليمهم، وأقرّت سلّماً لرواتبهم بعد أن جعلتهم موظفين حكوميين[4]. فنكثت بذلك "الأتاتوركية" شرط العلمانية الأول القاضي بعدم تدخل الدولة بالشؤون الدينية، وإن كانت قد كرّست الحفاظ على النصف الثاني من هذا الشرط القاضي بعدم تدخل المؤسسة الدينية بشؤون الدولة والسلطة.

أما الشرط الثاني، فتم الإخلال به بعد أن جُعل من جهاز "رئاسة الشؤون الدينية" المؤسسة الدينية الشرعية والرسمية الوحيدة في تركيا، والتي تعمل، في النهاية، لصالح الأكثرية السنيّة. في حين مَنعت الدولة "الأتاتوركية" الطوائف والمذاهب الدينية الأخرى من أن يكون لها أجهزتها الدينية الرسمية والشرعية. فبقي العلويون الأتراك دون اعتراف بهم كطائفة مستقلة عن الطائفة السنيّة. ولم يُعترف بالمسيحيين السريان كطائفة كذلك، في حين عانت الأقليّات الكرديّة ذات المذهب الشافعي من حصرية اللجوء إلى جهاز "رئاسة الشؤون الدينية" ذات التوجّه الحنفي[5].

وعلى الرغم من أنّ الدولة التركية ألغت الإسلام كدين للدولة عام 1928، وخلعت الهوية الدينية عن رأس الدولة وحكّامها، إلا أن سنيّتها كانت ظاهرة في سياساتها. فبقيت الدولة "الأتاتوركية"، ورغم علمانيتها المفترضة، تحابي الإسلام السنّي على حساب الطوائف الأخرى، ناقضة بذلك شرط المساواة الذي يُفترض بأي نظام علماني تحقيقه.

الحفاظ على العلمانية بالقوة

قبل أشهر قليلة من وفاته، توّج "أتاتورك" سياساته تجاه المسألة الدينية في بلاده بإدخال العلمانية إلى الدستور في العام 1937، وأسند للجيش دور الحارس لها. فيما لم يتوانَ من خلفه عن استخدام العلمانية كأداة إيديولوجية لتحصين الحكم وتسيير الدولة، وإن تطلب الأمر غالباً استخدام القوة والإكراه.

في العام 1950، وفي أول انتخابات تعدّدية في تاريخ تركيا، حصد "الحزب الديمقراطي" الأقل عدائية تجاه الدين الأكثرية البرلمانية، وراح، بقيادة رئيسه ورئيس الحكومة "عدنان مندريس"، يُعيد الدين ورموزه إلى الفضاء التركي العام. فسمح بإقامة الآذان باللغة العربية، وبتلاوة القرآن عبر الراديو الرسمي، وأعطى مدارس "إمام-خطيب" الدينية رخصاً قانونية واهتم بإعمار المساجد، كما شجع الطرق الدينية على العودة إلى لعب دورها الاجتماعي والدَّعويّ في المجتمع[6].

غير أن هذه السياسات التي أعادت بعضاً من الحرية للمتدينين لم ترقْ للجيش التركي، فقام وباسم المحافظة على علمانية الدولة بانقلاب دموي على الحكومة عام 1960، فيما انتهى أمر "مندريس" مشنوقاً مع بعضٍ من وزرائه على يد الجيش التركي. كما كان هذا الأخير منذ الإنقلاب الأول وحتى العام 2002 بمثابة الحاكم الفعلي لتركيا، وفوّض لنفسه، في الممارسة والدستور، مهمة الحفاظ على تعاليم مؤسّسِه "أتاتورك" وعلمانيته بالقوة.

في المقابل، كانت حركات الإسلام السياسي تنشط في القرى وضواحي المدن الكبرى. وكذلك، كانت الحركات الصوفية الإسلامية تستعيد دورها المؤثر والقوي في الريف الأناضولي، خصوصاً وأن الدولة التركية اعتمدت المركزية في الحكم، وأهملت خلال العقود الماضية، وبشكل حقيقي، تنمية المدن الصغرى والقرى البعيدة عن أنقرة وإسطنبول وإزمير. فكان الإسلاميون يقودون ثورة في الخفاء، ويألّبون الشباب التركي في المدارس والمساجد والتكايا على العلمانيين، فيما هؤلاء يستخدمون الإكراه والسلطة للحفاظ على علمانية الدولة. فباتت بذلك العلمانية رمزاً من رموز القمع وأداةً للإكراه، خصوصاً مع تعاقب الانقلابات الدموية في تركيا خلال أعوام 1971 و1980 و1997.

وعلى الرغم من أنها كانت موجّهة ضدهم، إلا أن الانقلابات العسكرية الدموية ساهمت في تقوية الإسلام السياسي على المدى المتوسط والبعيد وذلك لعوامل أساسية أربعة. الأول يعود إلى تمكّن الجيش من إضعاف تيار اليسار التركي بشكل كبير خلال السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، فاستفاد تيار الإسلام السياسي من غياب ممثلي اليسار فحصلوا على شعبيتهم بين الطلاب والعمال وسكان الضواحي والقرى وزادوا من شرعية تمثيلهم الشعبي. أمّا الثاني فيعود إلى السياسات المزدوجة التي مارسها الحكام العلمانيون والجيش، والتي قامت على محاربة وقمع الإسلام السياسي من ناحية والسماح بتعزيز الرموز الدينية في المجتمع لتحصد السلطة المزيد من الشرعية وعدم الظهور كمعادية للدين من ناحية أخرى. فأجاز انقلاب الجيش العلماني في العام 1980 التعليم الديني في المدارس، وسمح للمنظمات الإسلامية العالمية بافتتاح مكاتب لها في تركيا، كما زاد من رواتب رجال الدين في "رئاسة الشؤون الدينية"[7]. فكان لهذه السياسات الحكومية الساعية إلى إلحاق القوى الإسلامية بها وإلغاء دورها كمنافس للسلطة تأثيرٌ كبيرٌ انتهى إلى تقوية تيار الإسلام السياسي.

أما العامل الثالث، فيعود إلى نضال الإسلام السياسي بذاته، والذي حوّل القمع الحكومي العلماني ضدّه إلى مظلومية عامة زادت من شعبيته وأبرزته كمدافع عن المواطنين وحرياتهم وإيمانهم. فبعد أن حصد حزب "الرفاه" الإسلامي 4.4 في المئة من الأصوات في الإنتخابات البلدية، رفع من شعبيته إلى 9.8 في المئة في الانتخابات النيابية في العام 1987. ثم تابع تقدّمه إلى 11 في المئة في انتخابات العام 1991، فإلى 19 في المئة في العام 1994 حيث حصد رئاسة بلديتي أنقرة واسطنبول التي أُسندت إلى رئيس تركيا الحالي "رجب طيب أردوغان". ثم تابع الحزب الإسلامي تقدّمه وحصد 21.3 بالمئة من الأصوات في العام 1995 في الانتخابات النيابية العامة[8].

كما أدّت مركزية الدولة من ناحية ولَبرلة الاقتصاد التركي بعد العام 1980 من ناحية أخرى إلى نزوح داخلي تركي من الريف إلى المدن، وذلك طمعاً بالعمل والمال والخدمات والضمانات الاجتماعية. فنقل الريفيون معهم أفكارهم الإسلامية المحافِظة إلى المدن وسكنوا في ضواحيها واغتنى الكثير منهم، فباتوا أقوى في سعيهم للانقضاض على علمانية الدولة ومركزيتها، وشكّلوا العامل الرابع الذي أضعف العلمانية وأعطى للإسلام السياسي المزيد من هامش الحرية والتأثير. في حين يبقى الدور القمعي للجيش والحكومات السابقة، السبب الأساسي في نفور الناس من العلمانية التركية، بعد أن أثبتت دورها كأداة إيديولوجية للقمع والاستئثار بالسلطة.

نحو فهم جديد للعلمانية التركية

لم يكن وصول حزب "العدالة والتنمية" المنشق عن حزب "الرفاه" إلى السلطة في العام 2002 حدثاً عرضياً في تاريخ تركيا الحديث، أو إنجازاً نابعاً من قوة وذكاء رؤساءه فقط. بل إن هذا الانتصار أتى نتيجة استغلال تيار الإسلام السياسي لأخطاء العلمانيين المتتالية، وفشل العلمانيون في تحقيق المساواة بين المواطنين أو تحقيق الاستقرار في المجتمع، كما أتى تتويجاً لنضال الإسلام السياسي الطويل ضد القمع العسكري والحكومي وإيديولوجيتهما العلمانية.

وسعى حكّام تركيا الجدد إلى أسلمة المجتمع والدولة، ولكن بأسلوب نقيض لأسلوب الدولة "الأتاتوركية". فلم يبدأوا بتغيير تركيا من فوق عبر الدستور والقوانين، أو عبر فرض سياساتهم السلطوية بالقوة والإكراه، إنما عبر إحداث تغييرات في البُنى الاجتماعية والاقتصادية. فأفرزت إصلاحاتهم الاقتصادية الناجحة من ناحية وتلك الاجتماعية شبه المحافِظة من ناحية أخرى قبل العام 2011 شعبية ملفتة لحزب "العدالة والتنمية"، مكنته من الفوز في جميع الانتخابات؛ النيابية والبلدية والرئاسية منذ العام 2002 إلى اليوم. ثم عمد الحزب الحاكم إلى زيادة نسبة أسلمة الدولة والمجتمع التركي وذلك بعد إفقاد الجيش قوته السياسية والشعبية وإخضاعه لسلطة الحكومة ذات التوجه الإسلامي. فتحولت الأسلمة البسيطة للدولة والمجتمع قبل العام 2011 إلى أسلمة واضحة وعميقة بعد ذلك التاريخ، خصوصاً وأن الدعم الشعبي لها كان في أوجه خلال تلك الفترة.

فما بدأ على شكل إصلاحات محافِظة في البنى الاجتماعية، في المدارس والجامعات والأرياف والنقابات وعالم الأعمال والسياسات المتعلقة بالمرأة، سرعان ما تحول إلى قوانين وقرارات يقدّمها الحِكم على شكل رد على مطالب الناس الطامحة للمزيد من أسلمة الدولة والمجتمع والقانون. وعلى الرغم من أن العلمانية لا تزال مذكورة في الدستور التركي وهي الإطار العام الذي يحكم البلاد، إلا أن للحزب الحاكم فهم خاص لها، ويسعى بشكل دائم إلى إخراج العلمانية "الأتاتوركية" عن مضمونها الأصلي.

فالحزب الحاكم يعتبر أن الصراع بين الدين والعلمانية أبطأ من مسار التنمية والتطور في تركيا. وهو لم يتبنَّ إيديولوجية مباشرة ضد العلمانية إنما قدم فهماً خاصاً بها، وذلك عبر إلغاء كل التأثيرات الغربية (الفرنسية) على العلمانية التركية. كما فهم الحزب العلمانية كدعوة إلى العلم، وتحرير الإنسان وخدمة الخير العام، ورفض مفاهيمها الإلحادية حسب الفهم "الأتاتوركي" لها، كما رفض إبعاد الدين أو رجال الدين عن الفضاء التركي العام، أو الفصل بين الدين والحياة[9].

غير أن هذا الفهم المرن للعلمانية بالنسبة للحزب الحاكم، لم يعن بتاتًا إبعاد الشؤون الدينية وأحكامها عن الحياة العامة، وما السياسة وإدارة الدولة سوى شؤون عامة. لذلك سعى إلى إعادة روحية المفاهيم الدينية كمعايير لممارسة الشأن العام والخدمة، ومارس سياسات يستمد بعضها الشرعية من أحكام الدين، كما أعاد الدين إلى الفضاء العام وزاد من حضوره عبر السياسات التي طبقها تباعًا.

فبات من الطبيعي اليوم في تركيا أن يوجّه ويصلي رجل دين في تجمع للجيش التركي بعدما كان يُحاكم إن لُمح في الشارع معتمراً لباسه الإسلامي. أو أن تدخل المرأة المدرسة والجامعة والبرلمان بلبساها الإسلامي. أو أن يتظاهر أتراك كل فترة أمام متحف "آيا صوفيا" وسط اسطنبول للمطالبة بتحويله إلى جامع[10]. أو أن تشهد ذكرى إعدام "عدنان مندريس" كل سنة تلبية شعبية تزيد عن الاحتفال السنوي الذي يقام لمؤسس العلمانية التركي "أتاتورك".

أما العلمانية "الأتاتوركية"، فباتت اليوم شعارًا أفرغ من مضمونه، وذكرى ترمز للقمع ودموية العسكر، وما تبقى من فتات إيديولوجية جامدة لم تواكب العصر والتغيرات الاجتماعية التركية، وتركن إليها الأحزاب "الأتاتوركية" عند النضال السياسي والاجتماعي، فتعود خائبة كل مرة وفي كل انتخابات تركية عامة أو مظاهرة شعبية.

خلاصة

لم تكن العلمانية "الأتاتوركيّة" ناتجة عن مطالب اجتماعية من الأتراك بقدر ما كانت إيديولوجية سياسية وفكرية فرضها "أتاتورك" عليهم بالقوة. وفي مراحل فرضها، أخذت علمانيته بُعدًا إلحاديًا من ناحية، كما لم تؤمّن منذ البداية شرطي المساواة بين الناس أو فصل الدين عن الدولة من ناحية أخرى.

فمن ناحية، كان لإنشاء "رئاسة الشؤون الدينية" أن جعل المؤسسة الدينية في البلاد محكومة من قبل السلطة وأداة إيديولوجية تمكّنها من التدخل في الشؤون الدينية. كما أدت حصرية هذا الجهاز الحكومي في البت في المسائل الدينية، إلى خرق مفهوم المساواة الذي كان من الممكن أن تنجح العلمانية في تحقيقه. فأدى هذا الفهم الخاص للعلمانية إلى فشلها لعدم قدرتها على تحقيق ما تدعو إليه، في حين تولت الممارسات القمعية باسم العلمانية إلى إبعاد الناس عنها لاحقًا.

مع عودة الحياة السياسية التعددية إلى تركيا استطاع تيار الإسلام السياسي زيادة شعبيته على حساب القوى العلمانية، في حين بات هذه الأخيرة تمارس القمع والإكراه تجاه الأتراك، فاستغل تيار الإسلام السياسي أخطاءها لحصد المزيد من الشعبية والتأثير. وكانت عوامل أربعة قد مكنته من التقدم في تركيا والظفر في السلطة لاحقًا، إلا أن أبرزها يعود إلى استغلال السياسات القمعية التي مارسها العلمانيون عبر الانقلابات المتتالية، في حين لعب غياب اليسار التركي، والنزوح من المدن إلى الريف، ومظلومية القوى الإسلامية كعوامل ساهمت في زيادة شعبية الإسلام السياسي.

مع وصول حزب "العدالة والتنمية" إلى الحكم، برز فهم خاص للعلمانية في تركيا، فلم يتم إلغاؤها من الدستور إنما أفرغت من مضمونها بعد أن قدم الحزب فهمًا خاصًا لها، ومارس سياسات متتالية أعادت الاعتبار للمفاهيم والرموز الدينية في المجتمع والدولة.وعلى الرغم من أن سياسات الحزب الحاكم أصبحت محافِظة أكثر بعد العام 2011، إلا أنه أعاد الإسلام إلى الفضاء التركي العام عبر إحداث تغييرات اجتماعية عميقة غالبًا ما ألحقها بقوانين وتشريعات كاستجابة لمطالب المواطنين، وذلك على نقيض "الأتاتوركية" التي فرضت العلمانية بشكل فوقي على الأتراك.

عن الكاتب

جو حمّورة

باحث في الشؤون التركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس