علي حسين باكير - السورية.نت

يطرح الدور الروسي المتصاعد سياسياً وعسكرياً في سوريا تساؤلات حول مدى قدرة تركيا على الحد من تداعياته السلبية عليها بعدما تبيّن أنّ العمليات العسكرية الروسية تزيد الحسابات التركية في سوريا تعقيداً على مختلف المستويات.

حاولت تركيا منذ اندلاع الثورة السورية تفادي الاصطدام المباشر مع روسيا على اعتبار أنه لا يمكنها تحمّل تكاليف مثل هذا التصادم خاصة أن حلفاء أنقرة المفترض بهم مساندتها كالولايات المتّحدة والاتحاد الأوروبي كانوا قد خذلوها مراراً وتكراراً خلال السنوات الخمس الماضية، بل وفي كثير من الأحيان وضعوا مزيداً من الضغوط عليها.

لقد فضّلت أنقرة دوماً إرسال الرسائل الدبلوماسية إلى موسكو بدلاً من التصعيد أو المواجهة، كما حرصت على أن تكون انتقاداتها لها غير مباشرة في الغالب، لكنّ ذلك لم يمنع أنقرة من أن تعبّر بشكل واضح عن انزعاجها ومدى حساسيتها من دعم روسيا للنظام السوري وكذلك مدى أهمية سوريا بالنسبة إليها وهي التي تشاركها بحدود يبلغ طولها حوالي 911 كلم.

لعل من أهم هذه الخطوات التي اتخذتها أنقرة في عام 2012، إجبار الطائرات الروسية وغير الروسية التي يشتبه في أنّها تحمل أي نوع من أنواع الدعم العسكري إلى نظام الأسد على الهبوط من أجل تفتيشها حال مرورها في الأجواء التركيّة. وقد تم بالفعل كشف بعض الطائرات المحمّلة بدعم عسكري روسي إلى نظام الأسد وتم مصادرة محتوياتها ومنعها من مواصلة رحلتها.

 لكن الموقف التركي لم يتعدّ هذا السقف إلى ما هو أعلى منه نظراً لوجود قيود تحدّ من قدرة أنقرة على التصعيد في الموقف مع روسيا، لعل أبرزها على الإطلاق:

1) اعتماد تركيا المفرط على الغاز الروسي:

تقوم شركة غاز بروم الروسية لوحدها بتزويد تركيا بحوالي 57% من إمدادات الغاز التي تحتاجها البلاد، وإذا ما قمنا بإضافة واردات تركيا من الغاز الإيراني التي تبلغ 20% إليها فسترتفع النسبة إلى 77%. هذا يعني أن تركيا تعتمد في استيراد حاجات البلاد من الغاز على روسيا وإيران بشكل أساسي وهو عنصّر مقوّض لأمن الطاقة التركي خاصّة أنّ الأمر لا يختلف كثيراً فيما يتعلق بالنفط، إذ تستورد تركيا من كل من إيران والعراق وروسيا حوالي 56% من إمدادات النفط الخارجية التي تحتاج إليها. وفي ظل غياب بدائل عملية، فإن الحسابات المتعلقة بأمن الطاقة التركيّة تكون حاضرة دوماً عندما يتعلق الأمر بموقف من موسكو.

2) حجم التبادل التجاري بين أنقرة وموسكو:

يبلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وروسيا وفقاً لأرقام العام 2014 حوالي 33 مليار دولار. وتعتبر روسيا ثاني أكبر شريك تجاري لتركيا. في سبتمبر الماضي وقع البلدان على اتفاقية تتيح لهما تعزيز التبادل التجاري ورفع حجمه إلى حدود 100 مليار دولار بحلول عام 2020. وإذا ما أضفنا إيران والعراق بصفتهما أعضاء أيضاً في محور مع موسكو حالياً إلى المعادلة، فهذا يعني أن موقفاً صدامياً تركياً مع هذه البلدان يجب أن يأخذ بعين الاعتبار زيادة المشاكل الاقتصادية التركية المحتملة على اعتبار أنّ إيران هي خامس أكبر شريك تجاري لأنقرة فيما يأتي العراق في المرتبة السادسة.

3) موقف حلفاء تركيا:

من الطبيعي أن تكون مواقف كل من موسكو وطهران الداعمة لنظام الأسد مشكلة بالنسبة إلى أنقرة، لكن من غير الطبيعي أن تكون مواقف واشنطن المشكلة الأكبر بالنسبة لتركيا. من المفارقات أنّ سياسات واشنطن (وليس طهران أو موسكو) في الملف السوري هي التي أعاقت بشكل كبير وفعال تحرّكات تركيا وحلفائها الإقليميين في سوريا، وقوّضت بشكل غير مسبوق من إمكانية التحرك الجماعي الفاعل لأصدقاء سوريا، وهي التي تتيح اليوم أيضاً دوراً أكبر لايران ولروسيا في دعم الأسد.

بعيداً عن التصريحات الإعلامية الاستهلاكيّة، لقد أظهرت الوقائع على الأرض منذ اندلاع الثورة السورية وحتى اليوم أنّ أجندة واشنطن في سوريا أقرب إلى روسيا وإيران منها إلى تركيا، إن من ناحية الأولويات أو لناحية طريقة التعامل مع الأزمة أو لناحية إنهاء المشكلة. تلكؤ ومماطلة - وفي كثير من الأحيان - ممارسة واشنطن ضغوطات على تركيا جعلها في موقع صعب، وقلّص من هامش المناورة والتصعيد مع روسيا.

لقد كان التحرك الروسي حقيقة في أوكرانيا في العام 2014 واحتلال شبه جزيرة القرم وضمها إلى الأراضي الروسية اختباراً لمدى قدرة أنقرة على تصعيد مواقفها من موسكو نظراً لما لشبه جزيرة القرم من أهمّية في التاريخ التركي خاصة ما يتعلق بالمسلمين (التتار –الترك) هناك.

عندما فرضت الولايات المتحدة والدول الأوروبية عقوبات على موسكو بسبب احتلالها لشبه جزيرة القرم وضمها إليها، امتنعت أنقرة عن المشاركة في هذه العقوبات، صحيح أنّ أنقرة أدانت الخطوة الروسية مراراً وتكراراً لكن لهجة الخطاب الذي اعتمدته تركيا في إدانة التحرك الروسي بقيت معتدلة إلى حد ما. الأسباب الأساسية التي منعت تركيا من أن تكون أكثر حدّة، هي نفسها التي ذكرناها في بداية المقال. ما حصل هو أنّه وبسبب المعطيات لم يكن لدى تركيا مجال متاح للمناورة أو التصعيد في وجه روسيا، واختارت بدلاً من ذلك الانخراط الإيجابي مع موسكو على أمل أن تبقى قريبة من الموضع وتخدم قضية التتار وحقوقهم من خلال النصائح المرسلة أو من خلال التواجد في الملف عبر البوابة الروسية.

صحيح أنّ شبه جزيرة القرم ليست بأهمّية سوريا بالنسبة إلى تركيا، لكنّ ذلك لا يلغي صحّة التقييم، إذ أنّ معطيات "السياسة والاقتصاد والطاقة" كانت ولازالت مهمّة في الحسابات التركيّة عند التعامل مع روسيا في الملف السوري. وإذا ما أضفنا هذه العوامل إلى وضع تركيا الداخلي في هذه المرحلة، فإننا سنفهم بشكل جيّد مدى انعكاساتها كما هو بيّن على المواقف التركية الرسمية "العلنيّة" من موسكو.

خلال عملية الحشد العسكري المتواصلة لموسكو الشهر الماضي في سوريا، علّق رئيس الوزراء التركي قائلاً: "لقد أخذوا الموضوع إلى الأرض، هذا خطير جداً، نحن نراقب بقلق كبير".

في مقابلته مع قناة الجزيرة قبل عدّة أيام، قال رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان إنه سيعبر لبوتين عن انزعاجه من الغارات الروسية وسيطلب من روسيا باعتبارها دولة صديقة إعادة النظر في الإجراءات التي اتخذتها لأن تركيا وليس روسيا هي الدولة الأكثر معاناة مما يحصل.

في بداية الأزمة السورية كانت أنقرة في وضع أفضل بكثير من ناحية المعطيات الداخلية والخارجية، الإقليمية والدولية وكذلك بالنسبة إلى التطورات داخل سوريا، وقد كان هذا حقيقة بمثابة فرصة ضائعة لم تحسن أنقرة استغلالها، فتحرّكت في الحد الأدنى.

يقتصر رد الفعل التركي حتى الآن على التعبير عن "قلق عميق"، و"إدانة التحرّك الروسي" والتحذير "من أن تدخل روسيا سيزيد الأمور سوءاً". عملياً لم يتم وضع تصور لكيفية مواجهة هذا التصعيد الروسي المصحوب أيضاً بتصعيد لكل من نظام الملالي والأسد. أوراق الضغط التركية على روسيا محدودة الآن للغاية، وباستثناء إمكانية إعادة الالتزام بدعم المعارضة السورية سياسياً وعسكرياً فإنها تكاد تكون معدومة خاصة قبل جلاء نتيجة الانتخابات البرلمانية المقبلة في الأول من نوفمبر القادم.

صحيح أنّ أنقرة تمتلك بعض الخيارات الأخرى – على الأقل من الناحية النظرية - لمواجهة التصعيد الروسي في سوريا، لكنّها خيارات أشبه بسيف ذي حدّين قد تؤذي تركيا بقدر إيذاء روسيا، كإلغاء مشروع أنبوب الغاز الروسي عبر تركيا إلى أوروبا والذي يتفادى أوكرانيا، أو مقاطعة روسيا اقتصادياً والانضمام إلى العقوبات الأوروبية، أو حتى إغلاق مضيف البسفور الذي يعتبر الممر الوحيد عملياً للتعزيزات العسكرية البحرية الروسية إلى المتوسط. وعليه، ما لم يحصل انقلاب في المعطيات الإقليمية المتعلقة بمواقف الدول من الوضع السوري أو بموقف واشنطن مما يجري، فإن خيارات أنقرة ستبقى محدودة للغاية.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس