غالب دالاي - هافينغتون بوست عربي

السؤال الأكبر الذي طرحته انتخابات السابع من يونيو/حزيران كان ما إذا كانت تركيا ستغير نظامها السياسي البرلماني إلى نظام رئاسي تنفيذي. كان جواب الناخبين على هذا السؤال هو "لا"، إذ لم يمنحوا حزب العدالة الحاكم والرئيس رجب طيب أردوغان الأغلبية اللازمة للقيام بهذا التغيير المنهجي.

ليس فقط هذا، بل كلّفت انتخابات هذا الصيف حزبَ العدالة 13 عاماً من الحكم المستمر، فلم يحصل الحزب على الكراسي ال276 اللازمة لتشكيل حكومة أغلبية بشكل منفرد. مفاوضات تشكيل حكومة ائتلافية التي تلت تلك الانتخابات باءت بالفشل، لذا كان على تركيا أن تعيد الانتخابات في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني.

السؤال الأكبر الذي طرحته الانتخابات الثانية كان ما إذا كان حزب العدالة قادراً على استعادة أغلبيته في البرلمان لتشكيل الحكومة بشكل منفرد أم أن البلاد ستدخل فترة من حكم الحكومات الائتلافية. كان جواب الناخبين على هذا السؤال مخالفاً لكل التوقعات، فقد أخفقت كل استطلاعات الرأي تقريباً في توقع النتائج.

الاستطلاع الأكثر كَرَماً توقع أن حزب العدالة والتنمية سيصل بالكاد إلى الحد المطلوب، أي 276 مقعداً من أصل 550، ليتمكن من تشكيل الحكومة بشكل منفرد. لكن الحزب حقق انتصاراً ساحقاً في الانتخابات بالحصول على %49،5 من الأصوات، أي ما يقارب 316 مقعداً في البرلمان، وهو رقم يفوق بكثير الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة بشكل منفرد.

منذ تأسيس حزب العدالة والتنمية قبل أربعة عشرة عاماً، قضى الحزب ثلاثة عشرة عاماً منها في حكم تركيا، وتلقى الحزب أعلى نسبة من الأصوات في انتخابات عام 2011 العامة التي فاز فيها بنسبة 49،8% من الأصوات. اعتُبرت تلك الانتخابات أقصى حد وصلت إليه شعبية الحزب، لكن الانتخابات الأخيرة كررت نفس الانتصار تقريباً.

لهذا، نستطيع القول أن الناخبين الأتراك أجابوا على السؤالين الأساسيين، بصرف النظر عما إذا كان ردهم مُرضياً للسياسيين أم لا. كانت ثمة حملة فعالة على الأرض وعبر الشبكات الاجتماعية من قبل أنصار الحزب وأنصار أحزاب المعارضة لتشجيع مؤيديهم على التصويت. في الحقيقة، كانت النتيجة ممتازة حقاً، إذ وصلت نسبة التصويت إلى 87% بالمائة.

نسبة التصويت هذه تتباين بشكل حاد مع نسبة التصويت في الانتخابات المصرية التي جرت مؤخراً. مراكز الاقتراع الفارغة، المواطنون المفتقرون للحماس كانوا السمات المميزة للانتخابات البرلمانية الشكلية في مصر، حيث كانت نسبة التصويت أقل من 10%، رغم الحملة الضخمة التي قادها النظام الانقلابي. سبب هذا التباين واضحٌ وجلي. فبينما يرى الناخبون الأتراك التصويتَ كطريق للخروج من الأزمة السياسية ومجابهة التحديات الناجمة عنها، لا يرى المصريون هذا. لقد سحقت السلطةُ القاسية والعنيفة، مثلما سحقت من قبل ثورة عام 2011، إيمانَ المصريين بالعملية الديمقراطية وحماسَهم تجاه الاقتراع.

الانتخابات هي الخطوة الأولى فقط

لكن الانتخابات ليست الحل، رغم أنها وسيلة ديمقراطية لعرض الرؤى السياسية والتعامل مع التحديات السياسية. إنها تحل مشكلة الحكومة، لكنها لا تحل مشكلة الحُكم. في الحالة التركية، حلُّ مشكلة الحكم مهمٌ بشكل لا يقل عن مشكلة من يحكم، ويتطلب هذا شيئاً أكبر من الفوز بالانتخابات.

كان مستوى فعالية السياسة التركية وقدرتها على حل المشاكل السياسية متدنياً بشكل كبير خلال السنوات الأخيرة، وباعتبار أن حزب العدالة والتنمية كان الحزب الحاكم، فإنه يتحمل المسؤولية الأساسية عن هذا التدني. حلَّ الترويجُ للخوف محلَّ الرؤية السياسية، تنحَّت سياسات التوسع والانفتاح لتفتح الطريق أمام سياسات الانطواء والانكفاء، لكن الوقت قد حان لطريقة جديدة في التفكير ولمقاربات جديدة لمشاكل تركيا الأكبر.

تركيا تدخل أطول فترة خالية من ضغط انتخاباتٍ مقبلة- أي حتى عام 2019- منذ وصول حزب العدالة إلى السلطة في عام 2002، وهذه حقيقةٌ تمنح أفضليةً كبرى. على النخبة السياسية التركية، وخاصةً الحكومة، أن تستثمر هذا في التعامل وجهاً لوجه مع مشاكل تركيا السياسية. من بين هذه المشاكل، ثمة اثنتان ملحّتان بشكل استثنائي: القطبية السياسية والمشكلة الكردية.

بالنسبة لمشكلة القطبية، فإن أربع انتخابات متلاحقة خلال آخر سنتين (انتخابات البلديات، الانتخابات الرئاسية، الانتخابات البرلمانية والانتخابات البرلمانية المعادة) دفعت الأحزاب السياسية إلى منح الأولوية للفوز بالانتخابات على كل القضايا والمشاكل الأخرى. ينطبق الأمر على كل الأحزاب تقريباً. انحسرت المبادئ والمعايير السياسية لتعطي المجال للفوز بالأصوات وتعزيز الصفوف في المعسكر الانتخابي لكل حزب. كان هذا المناخ أحد الأسباب الكبرى لتنامي القطبية في البلد، لأن أحد أسهل الطرق لتعزيز الموقف السياسي والحصول على الأصوات كانت عبر التركيز على موضوعات الهوية والتصدعات الاجتماعية، وهو ما زاد من قطبية المجتمع. لكن هذه الفترة انتهت.

أربع سنوات لحل الأزمة

لن تكون ثمة انتخابات في تركيا خلال السنوات الأربع القادمة، وسيكون الحكم السلس أولوية للحكومة، وهو ما يتطلب الحد من القطبية السياسية في البلد. يمكن تحقيق هذا عبر الانفتاح الحقيقي على مختلف مكونات المجتمع، فإلى جانب الأكراد، أصبح ضرورياً أن تقوم تركيا بمبادرة حقيقية تجاه الطائفة العلوية.

علاوةً على ذلك، كان أحد أسباب القطبية السياسية هو فكرة تغيير الحكم من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، ولذا فإن عدم منح الأولوية لهذا التغيير على الأجندة السياسية سيكون تطوراً مرحَّباً به لتخفيف حدة القطبية السياسية. بشكل عام، المناخ ملائم للحكومة لمحاولة تخفيف حدة الانقسام الاجتماعي عبر مبادرات سياسية حكيمة.

لقد أنتجت هذه الانتخابات مناخاً مثالياً لعملية السلام مع الأكراد، فقد منحت حزب العدالة والتنمية حق تشكيل الحكومة بشكل منفرد بينما أبقت حزب الشعوب الديمقراطي الكردي في البرلمان. عدد مقاعد الحزبين (316 مقعداً لحزب العدالة و59 مقعداً لحزب الشعوب) كافٍ لتغيير الدستور ضمن إطار البرلمان، إذ أن التغيير يتطلب أغلبية ثلثي مقاعد البرلمان (367 مقعداً). لكن هذه المعادلة تتطلب أن يتراجع حزب العمال الكردستاني (PKK) عن نشاطاته العنيفة التي استأنفها بعد انتخابات السابع من يونيو، إذ تُعتبر هذه النشاطات السبب الرئيسي لخسارة حزب الشعوب لكمٍّ هائل من الأصوات، فقد انخفضت نسبة أصواته من 13% إلى 10%. حين منح الناخبون الأتراك حزب العدالة حقَّ تشكيل الحكومة بشكل منفرد بينما أبقوا على حزب الشعوب في البرلمان، فقد جهزوا التربة المناسبة لاستئناف عملية السلام.

بالنتيجة، شقت تركيا طريقها للخروج من الأزمة السياسية عبر الانتخابات، وعليها الآن أن تتعامل مع مشاكلها وتحدياتها الكبرى، وأن تعرض رؤيتها السياسية سواء على الجبهات الداخلية أو الخارجية، وهذا يتطلب براعةً سياسية وحُكماً حكيماً.

عن الكاتب

غالب دالاي

مدير البحث في منتدى الشرق


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس