أنور الرواحنة - خاص ترك برس

على الأرجح، قرار القيادة التركية بتفعيل "قواعد الاشتباك"، الذي نتج عنه إسقاط الطائرة العسكرية الروسية، لم يكن وليد اللحظة بل تمت دراسته بعناية، وبعناية فائقة جدًا (سياسيًا، واقتصاديًا، وديمغرافيًا، وأمنيًا، واستخباريًا وعسكريًا) منذ لحظة التدخل العسكري الروسي في سوريا.

نظريًا، "القرار الاستراتيجي" لا يمكن اتخاذه وفق أسس ارتجالية دون تخطيط مسبق، لما يتركه من أثر مادي ومعنوي على مستقبل الدولة أو المجتمع (ولا أتوقع أن القيادة التركية تتسم بالارتجالية وعدم التخطيط).

من منظور "نظرية رسم السياسات واتخاذ القرارات"، على الأرجح، أن القيادة التركية أخذت في عين الاعتبار مجموعة من الاحتمالات أو "السيناريوهات" قبل اتخاذ هذا النوع من "القرارات الإستراتيجية"، مستندة في ذلك أيضًا على احتمالات "نظرية اللعبة".

من أهم تلك السيناريوهات، على سبيل المثال، أن القيادة التركية قد قررت الأخذ على عاتقها التصدي إلى عمليات "استنزاف" الأمن القومي التركي، خاصة تلك الناتجة عن إطالة أمد النزاع السوري، بعد تردد حلفائها الغربيين (الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا وحلف الناتو) في تقديم الدعم المطلوب المتعلق بقرار "المنطقة الآمنة" في سوريا، خاصة بعد "سقوط القناع" عن أسباب التدخل العسكري الروسي في سوريا، الذي تبين أنه جاء لدعم بشار الأسد على حساب أرواح السوريين المدنيين والعزل.

على ما يبدو، أن القيادة التركية عندما أقدمت على هكذا قرار أنها تعرف جيدًا أن حلفائها لن يتخلوا عن تقديم الدعم المطلوب إلى تركيا في أي "حرب محتملة" ضد روسيا، أكان ذلك الدعم "دعمًا نسبيًا" من حلفائها الغربيين (كالولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو)، أو "دعم مطلق" من حلفائها العرب (كالسعودية وقطر)، أو "دعم عملياتي" من حلفائها السوريين (كفصائل قوى المعارضة السورية، بما فيها تنظيمات "الإسلام الجهادي المعتدل")، أو "دعم استشاري أو تقني" من حلفائها في العالم الإسلامي (كباكستان "النووية").

بنسب متفواتة، يعي حلفاء تركيا أن التخلي عن تركيا في "حرب محتملة" ضد روسيا قد يؤدي إلى هيمنة روسيا (وربما حلفائها الصين وإيران) على سوريا، ومنطقة الشرق الأوسط، بما فيها البحر الأبيض المتوسط ("المياه الدافئة")، ومنطقة آسيا الوسطى ومنطقة شرق أوروبا، الأمر الذي من شأنه أن يهدد مصالح الأمن القومي الغربي، وربما المصالح الوجودية للغرب بشكل عام، وبالتالي اختلال "ميزان القوى الغربي" سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا لعقود، أو ربما لقرون، قادمة.

بمعنى آخر، التخلي عن تركيا في أي "حرب محتملة" ضد روسيا قد يؤدي إلى اختلال "ميزان القوى الدولي"، قد ينتج عنه انهيار الشرق الأوسط، وإسرائيل، وارتفاع موجات "تسونامي اللاجئين" باتجاه أوروبا، وبالتالي اختلال الأمن القومي الأوروبي، العمق الاستراتيجي للولايات المتحدة الأمريكية.

كما يعني ذلك أيضًا أن سقوط تركيا قد يؤدي إلى العودة إلى احتمالات انتشار "الفوضى الخلاقة"، "الفوضى" البعيدة عن سيطرة روسيا والولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، بكل ما تعنيه الكلمة من "فوضى"، بما فيها تهديد إمدادات النفط والغاز المتجهة إلى الغرب، وصعود نجم تيارات "الإسلام السياسي والجهادي"، وبالتالي ازدياد نسبة احتمالية "سقوط" دولة إسرائيل.

الخلاصة، على الأرجح، بالرغم من تذبذب العلاقات التركية- الغربية، وبالرغم من قلق العديد من الأطراف الغربية الفاعلة من أن تصبح تركيا "قوة عظمى" في المستقبل القريب (بحسب بعض الدراسات أو الفرضيات)، إلا أن "العقلانية" في اتخاذ القرار ورسم السياسات ستدفع الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو إلى تقديم الدعم المطلوب (ولو في حده الأدنى) إلى تركيا، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مستندة بقرار دعمها على "مبدأ أقل الضررين"، غير ذلك سيعني "سقوط" حلفاء تركيا قبل "سقوط" تركيا نفسها.

أخيرًا وليس آخرًا، في جميع الأحوال تقريبًا، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، قرار القيادة التركية بإسقاط الطائرة التركية قد يمهد الطريق بلتجاه "مرحلة النضوج" للنزاع السوري، وربما باتجاه "الموجة الثانية" من ثورات الربيع العربي... والله أعلم

عن الكاتب

أنور عبد الله الرواحنة

باحث مختص في إدارة النزاعات ورسم السياسات


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس