أحمد البرعي - خاص ترك برس

كان لا بد أن يصاب المرء بالذهول من مجرد أن يطرح موقع إخباري عربي استفتاء على قرائه يسألهم "قلبيًا، إلى جانب من ستقف في حال نشبت حرب بين تركيا وروسيا؟" لم أكن لأتصور أن يصل بنا الأمر إلى هذه الدرجة من اللامعقول والانحدار العقلي والفكري والأخلاقي والعقدي. لن أتحدث عن الولاء والبراء وعن حق نصرة الأخ المسلم ظالما كان أو مظلومًا، ولكني سأتحدث بمنطق علمي ونفسي أحاول أن أفهم دوافع أولئك الذين اصطفوا "قلبيًا" بجانب الرفيق الروسي ضد "الاستعمار" العثماني!

سأل الصحفي اليساري التركي الشهير "أحمد هاكان" أحد جنرالات العلمانية المتقاعدين من الجيش التركي "ماذا يعني عندما تخترق طائرة روسية أجواءنا لمدة 12 ثانية؟! ألم يكن بالامكان أن تدعها تمر وتنتهي القصة؟ أم هل يجب أن تصنع مشكلة وتجر البلاد إلى ويلات لا تعرف عواقبها؟!".

جاء رد الجنرال صاعقًا واضحًا لا غبار عليه "إنها مسألة سيادة يا سادة، هل تقبل أن تنتهك سيادة بلدك وأمنك القومي وأنت تقف على الحدود ترقب وتشاهد دون أن تحرك ساكنًا، إذا ما هي وظيفتك؟! اجلس في بيتك أفضل".

في الوقت الذي تصطف فيه المعارضة التركية متمثلة برئيس حزب الحركة القومية المعارض "دولت بهتشلي" خلف الجمهورية التركية وتتهم روسيا وبوتين بالاعتداء السافر على تركمان سوريا وتجنب قصف مناطق داعش، ثم بعد ذلك تتبجح بتهديد تركيا، وكذا كان موقف رئيس حزب الشعب الجمهوري "كمال كليجدار أوغلو" الذي قال إن من حق تركيا أن ترد على أي انتهاك لمجالها الجوي، وذلك بحسب قوانين المجتمع الدولي.

في هذا الوقت الذي تصطف فيه المعارضة التركية وطنيًا تنبري بعض الألسنة، وللأسف العربية والمسلمة، نقدًا وتجريحا واستهجانًا من الرد التركي على الاعتداء الروسي على سيادة بلاده، وكأن المفترض أن تسمح تركيا للطائرات الروسية أن تصول وتجول عبر أجوائها وبحارها وتستهدف بقنابلها المدنيين والعزل متعامية تمامًا عن استهداف من ادعت زورًا قدومها لحربهم والقضاء عليهم.

وجهها أردوغان واضحة وضوح الشمس للرئيس الروسي "بوتين" قائلًا: "إذا أثبت بوتن صحة ادعاءاته بأننا ندعم داعش فسأستقيل من منصبي" وقال بشكل واضح إن لديه وثائق من وزارة الخزانة الأمريكية تشير إلى أن الشركات الروسية تشتري البترول من داعش وتبيعه لنظام بشار الأسد. وهذا كله مثبت بالوثائق الذي لا يستطيع إنكارها، وإن كان يستطيع فسنلتقي في باريس في قمة المناخ القادمة. ووجه "أردوغان" التحدي مرة أخرى قائلًا: "هل ستستقيل أنت يا بوتين إن عجزت عن إثبات ادعاءاتك؟".

يبادر البعض بالقول ألم تفتح الأجواء التركية لطائرات التحالف تضرب المدنيين في سوريا والعراق؟ أين كانت السيادة التركية وأين كان الرد التركي؟!

نعم لقد قبلت تركيا بأن تفتح قاعدة "إنجرليك" الجوية أمام طائرات التحالف لتضرب داعش وتُنشئ منطقة حظر جوي يرحم المدنيين والعزل من طائرات وبراميل الأسد وأعوانه. لم تدخل الطائرات الأجنبية تسرح وتمرح في أجواء تركيا كما يعتقد البعض، بل كانت الشروط التركية واضحة جلية للدخول في أي تحالف ينهي المسألة السورية وهو ضرورة انهاء الإرهاب من جميع الأطراف وليس من طرف واحد، فلا تُستهدف فئة ويترك الأسد وهو أصل المشكلة ومصدر الإرهاب الأول. قبلت تركيا بالدخول في التحالف إن كان على رأس أولوياته أن يُسّرع في إنشاء المنطقة الآمنة لحماية اللاجئين والفارين من نيران الحرب الطاحنة في القرى والمدن السورية.

كان الأولى بالسؤال أن يكون ما الذي جاء بالطائرات الروسية لتقتل المدنيين والآمنين؟ هل تستقبل روسيا أكثر من مليونين ونصف المليون لاجئًا سوريًا؟ هل أنشأت لهم ملاجئ ومساكن فاقت تكلفتها 8.5 مليار دولار؟ هل تستهدف الطائرات الروسية داعش؟ أم هل تستهدف المدنيين والثوار من الجيش السوري الحر في مناطق تخلو من أي وجود للدواعش؟ ماذا ستكسب روسيا من الابقاء على الأسد وقد دمر البلد؟ ثم ما العلاقة بين اسقاط طائرة مارقة انتهكت أجواء دولة أخرى وبين اتهام أردوغان بأسلمة المجتمع التركي، الذي تربو نسبة المسلمين فيه عن 99%؟!

ثم ما هذه الطفولية الروسية لتنشر صورة لابن الطيب أردوغان وهو يجلس بين رجلين ملتحيين وتتهمه بمساعدة داعش؟ قام هذان الأخوان الملتحيان "إسماعيل وعلي كامبر" بتقديم دعوة مباشرة لبوتن ليقوم بزيارتهم في مطعمهم التركي في منطقة فاتح، فهما أصحاب ذلك المطعم الشهير الذي زاره في أحد المرات "بلال أردوغان" والتقطوا معه صورة تذكارية، اتخذها الرفقاء الروس العمالقة دليلًا على قوة العلاقة بين أردوغان وداعش!! ثم هل سمعت بأن وزير الزراعة الروسي "الكسندر تكاتشف" أعلن بأن روسيا ستستبدل الواردات التركية من الخضروات بدول أخرى منها إسرائيل وإيران؟

قال سيد قطب في تفسيره لآية "أفنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم كيف تحكمون" هذا سؤال ليس له إلا جواب واحد هو "لا". لا يكون المسلمون كالمجرمين ولا يجوز في عقل ولا في عدل أن يتساوى بين المسلمين والمجرمين في جزاء ولا مصير.

لا يساورني شك أنك إن قدر لك أن تسأل بعض شذاذ الآفاق ممن ينتسبون إلى "داعش"، ليجزمن لك أن قتال الأتراك أولى من قتال الروس. لأن أردوغان هو "طاغوت العصر" المتخفي وراء ستار الإسلام، أما الروس فيرى فريق منهم أنهم أعداؤنا الواضحون الذين يسهل التعامل معهم! بينما يرى آخرون أنهم قد يكونوا هم الروم الذين يتحالف معهم المسلمون في ملاحم آخر الزمان!!

ما هو جرم أردوغان حتى يقع في نفوس بعض المنتمين إلى الإسلام أن الرجل يريد الشر للدول العربية وأنه لعبة في أيدي الصهاينة والأمريكان؟ ما الذي يدفع هؤلاء إلى أن يصطفوا في فسطاط الروس وإيران ضد رجل لا نعلم من ظاهره إلا حبه للعدالة والتنمية في بلاده وفي شتى البلاد. فتركيا في عهده تمد يدها بالمساعدة إلى بورما وتبني البيوت للمهجرين هناك وتساعد الصومال وتبني المستشفيات في غزة والسوادن. هل كان جُرمه أنه رأى أن للشعب الحق في أن يقول كلمته؟ هل كان جرمه أنه اصطف وراء خيارات الشعوب، ورفض أن يطبل أو يصفق للطواغيت؟ لم يكن أردوغان هو من أطاح بدكتاتوريات وطواغيت العرب، إنما كانت هي الشعوب نفسها من اختارت طريقها وعرفت وجهتها. لو لم يكن أردوغان موجودًا لانهارت وستنهار تلك العروش فهي عروش قهر وظلم وخراب، وما كان لها أن تبقى جاثمة على صدور ورقاب الأمة.

نعم لقد كان جرم الرجل أنه قدم أنموذجًا يحتذى به في الخروج من عباءة التبعية والمهانة وشق طريق الحرية وتقرير المصير لبلاده ولشعبه. كان جرمه أنه اخذ بلاده من اللاشيء إلى قوة إقليمية يُعتد بها ويحسب لها ألف حساب. أكاد أجزم أن زمن الاندهاش والاستغراب قد ولى وأضحت الأمور واضحة لا لبس فيها إلا على من لا زال يتبع هوى شيطانه ويأبى أن ينظر بعيني الموضوعية فضلًا عن الأخلاقية والمبادئية.

عن الكاتب

د.أحمد البرعي

باحث ومحاضر في قسم الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة أيدن


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس