د. أحمد طعمة - خاص ترك برس

لماذا كان قرار جبهة النصرة فك الارتباط التنظيمي بالقاعدة والتحول إلى مسمى جديد باسم جبهة فتح الشام خطوة ضرورية ولماذا هي ليست كافية ضرورية لمطالب سورية داخلية ولأسباب خارجية، فكثير من الثوار طالب جبهة النصرة ومنذ زمن بعيد بفك الارتباط نهائيا بتنظيم القاعدة وإعادة التموضع سوريًا والتحالف مع الفصائل الاخرى في الجيش الحر بما يخدم مشروع الوطنية السورية والتخلص من الاستبداد والمشاركة بالعملية السياسية المزمعة والمساهمة بإقامة المشروع الوطني المدني الديمقراطي التعددي غير الطائفي القابل للتطبيق، ورغبة من السكان المحليين في مناطق سيطرة النصرة أن يدرؤوا عن أنفسهم شيئا من العذاب.

ولأسباب خارجية تتمثل في الضغوط الناجمة عن الاتفاق الامريكي الروسي الأخير القاضي بإعدام جبهة النصرة وإخراجها نهائيا من المعادلة السياسية في سورية ومحاولة جبهة النصرة الإلتفاف على هذا القرار وكسب الوقت وسحب ذريعة الانتماء للقاعدة.

ربما أقنع البعض قيادة النصرة أن خطوة كهذه قد ينظر اليها بشكل إيجابي أمريكيًا وأن هناك ضمانات دولية بالإعتراف بالجبهة الجديدة والتعاطي معها، وأن هناك سابقة تاريخية عندما انفصل الشيخ شريف شيخ أحمد زعيم حركة الشباب الصومالية بالحركة عن تنظيم القاعدة فاعترف بها دوليا وأزيلت من لوائح الإرهاب وتقبله الأمريكيون بقبول حسن وساعدوه في الوصول الى رئاسة الجمهورية.

الحقيقة أن كل الإجراءات الشكلية التي اتخذتها جبهة النصرة رغم ضرورتها لا تكفي ونستطيع القول إنها لن تغير من الأمر شيئا مالم يعرف السبب الحقيقي الذي من أجله وضعت الولايات المتحدة تنظيم جبهة النصرة عام 2012 في قائمة الإرهاب وأن يعمل التنظيم على إزالة السبب إنها البيعة بلا شك، البيعة التي في عنق كل عضو من اعضاء التنظيم تجاه زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري (إشارة إلى الحديث النبوي الشريف الذي أخرجه الإمام مسلم: من خلع يدًا من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية).

وتنظيم جبهة النصرة بطريقة تفكيره المعتمدة بشكل أساسي على تبني أحاديث صحت عند أشياخ المدرسة السلفية الجهادية خصوصا وعند جمهور علماء المسلمين عمومًا وصعوبة تغيير قناعاتهم بمؤدى هذه الأحاديث، كيف يمكن أن تفك من أعناقهم البيعة التي يرون أن اسلام المرء لا يكتمل إلا بها . هذه المعضلة ان لم تجد حلا فلن يتغير شيء ولن يتغير الموقف الأمريكي الذي يرى أن البيعة أهم وأخطر بكثير من الارتباط التنظيمي.

ولن يقبلوا بمشاركة الجبهة في العملية السياسية في سوريا مستقبلًا رغم أنهم يعرفون أن جهاد النصرة ليس جهادا معولما وأنهم لم يرتكبوا جرائم كبرى تستفز المجتمع السوري بشدة، ما لم تفك البيعة من عنق عناصرها. تقديري أن جبهة النصرة لم تخرج الحدث إخراجًا مناسبًا وكيل المديح للشيخين بن لادن والظواهري لم يكن موفقا لمن أراد الخروج من مأزق عويص واقع فيه والطريقة التي استخدمت لا توحي بانفصال جدي فكري وتنظيمي عن تنظيم القاعدة لا بل تعطي انطباعا أمام المتابع المتحامل أنه أمام مسرحية متفق على كل فصولها.

كما أن ظهور القيادي المصري أحمد سلامة مبروك على يسار أبو محمد الجولاني أعطى انطباعا أن الجبهة ليست في وارد أن تصبح سورية بالكامل قريبا، فضلا عن أن ظهور الشرعي المتشدد أبو عبدالله الشامي (عبد الرحيم عطون) على يمينه بدا كما لو أنه تفسير لسبب تأخر الإعلان عن فك الارتباط بالقاعدة لأسبوعين عن موعده المقرر سابقا وعزو ذلك إلى معركة داخلية بين قادة الجبهة انتهت بتسوية بين تياري الراغبين بالانفكاك الكلي عن القاعدة وخلع البيعة وبين من يعتبر خلع البيعة من المحرمات التي تميت المرء ميتة جاهلية.

هذه التسوية جعلت القرار النهائي مبهما ويستطيع كل طرف أن يفسره كما يشاء، والحقيقة أنه في ظروف استثنائية قاسية تتطلب الوضوح ما كان ينبغي أبدًا أن يظهر القرار حمال أوجه.

كان الأولى أن يشاوروا عددا من القيادات الاسلامية المعتدلة التي لديها الاطلاع الكافي على روح العصر والخبرة في التعامل مع الوضع الدولي المتأزم، وكان ينبغي أن يستفيدوا من تجارب الحركات الاسلامية الأخرى التي تفوقهم قوة ومراسا وما فصل الدعوي عن السياسي في حركة النهضة التونسية عنا ببعيد، وكان ينبغي أن تقدم خطابا تجديديًا فيه الكثير من القواسم المشتركة مع بقية أطياف الشعب السوري بدلا من التأكيد على ثوابتهم السابقة وأن يطرحوا رؤية معتدلة فيما يتعلق بشكل الدولة في سوريا المستقبل يظهر فيها بوضوح أنهم يقبلون ما يقرره الشعب السوري فيما يتعلق بمستقبله وأن يوضحوا بجلاء أنهم سيدعون إلى أفكارهم بكل سلمية وأنهم لن يبسطوا أيديهم في وجه مواطن سوري عارضهم بوجهة نظرهم.

لم تدرك جبهة النصرة حتى الآن أن من أهم معوقات الحل في سوريا عدم ترتيب الأوراق التي ينبغي ترتيبها بعد، وأولها ورقة الإسلام السياسي وأن المطالبة بتطبيق الشريعة الإسلامية تعد من وجهة نظر غربية نسفًا لكل عملية سياسية مستقبلية يمكن أن تجري في سوريا والغرب على استعداد لاستمرار الحرب طويلا إذا كان ثمن إيقافها إقامة شرع الله... هذه هي المعادلة المرة وآن الأوان لنفهمها جميعا ولنا في رسول الله أسوة حسنة فهو لم يطبق الشريعة إلا عندما تيسرت كل الظروف المناسبة مترافقة مع رغبة أكيدة من نسبة هائلة من الناس بتطبيقها وهو ما ليس متحققا في الحالة السورية إذ أن نسبة كبيرة من السوريين (وإن كانوا مسلمين في الهوية) تسلك في حياتها سلوكا علمانيًا، والأهم بالنسبة إليها ولآخرين كثر تحقيق دولة مدنية ديمقراطية وليس الاحتكام إلى شريعة وفق تفسير المدرسة السلفية الجهادية.

إن جبهة النصرة بأمس الحاجة إلى تطمين الفصائل الثورية المقاتلة أن خطوتها استراتيجية وليست تكتيكية وأن دعوتها الفصائل للتوحد تتضمن سعيا إلى كلمة سواء وإزالة للضغائن والأحقاد التي رانت على قلوب الكثيرين ولا يتحقق هذا إلا بالإفراج عن مئات السجناء المعتقلين لديها من أبناء الفصائل الوطنية الأخرى الذين لا ذنب لهم إلا أنهم لم يكونوا على تطابق فكري رغم اتفاقهم معها على معظم الأهداف الاستراتيجية للثورة السورية، وتحسين معاملتهم مع المواطنين وأخذهم باللين لا بالقسوة والشدة وعليهم ألا ينسوا أن هذا الشعب المسكين نتاج تربية حزب البعث خمسين عامًا وكم يحتاج الناس من زمن ليغيروا ما بأنفسهم ويصبحوا جاهزين لتقبل فكرة الشريعة وجعلها واقعا معاشا.

عليهم أن يدركوا الوضع الحساس والدقيق الذي تمر به الجمهورية التركية الجارة الشديدة الحرص على نجاح الثورة السورية والداعمة بقوة لمطالب الشعب السوري، فقد نجت من انقلاب عسكري غاشم سامنا خسفًا وأذاقنا مثله في سوريا سوء العذاب، وأن يتوقف بعض آبائهم الروحيين عن بعض التصريحات (نفرح بانتصار أردوغان على الانقلاب الفاشل كفرح المسلمين بنصر الروم على الفرس أيام النبي صلى الله عليه وسلم وكفرح المسلمين بانتصار النجاشي على أحد المنقلبين عليه والديموقراطية كفر بواح... إلخ) المستفزة لجمهور المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها المتعاطفين بقوة مع الديمقراطية التركية وانتصارها المذهل.

يبدو شبه واضح أن التطورات الأخيرة في الملف السوري خلال الشهر الماضي تشي بأن ترتيبات ما قد تم التوافق عليها دوليا وأن إخراجها ليس بعيدًا وما الانعطافة التركية وإشاعة المجلس العسكري الأعلى الذي سيحكم البلاد في الفترة الانتقالية والتي لها أصل في اتفاق الإطار الذي قدمه ديمستورا قبل عام والاتفاق الأمريكي الروسي على الاستهداف المزدوج للنصرة وبالتفاصيل إلا قرائن ينبغي على النصرة أن تأخذها بعين الاعتبار. خلاصة القول: قرار جبهة النصرة التحول إلى جبهة فتح الشام والإعلان أن ليس لها ارتباطات خارجية وأن من أهدافها تحقيق العدل بين الناس، كل الناس، خطوة صغيرة في الطريق الصحيح لم تكن لتحصل لولا مراجعات جادة داخلها ولكنها ليست كافية أبدًا في زمن بات ضروريا التغيير فيه بالجوهر لا بالمظهر.

عن الكاتب

د. أحمد طعمة

الرئيس السابق للحكومة السورية المؤقتة


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مواضيع أخرى للكاتب

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس