عبد القادر محمد علي - الخليج اونلاين 

موقع تركيا الجغرافي وامتداداتها العرقية واللغوية والثقافية في محيطها الجغرافي والبشري، وما ينتج عن كل ذلك من تفاعلات وشبكة سياسات قائمة على التأثر والتأثير من العوامل الأساسية التي حددت الأهمية الجيوستراتيجية لتركيا في منظور المصالح الغربية، وما نتج عن ذلك من تحالف استراتيجي تركي مع المنظومة الغربية، الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن.

الحرب الباردة ودفء التحالف

وقد شكلت الحرب الباردة 1946-1991 حالة من الصراع السياسي والتوتر العسكري بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة و(الناتو)، والشرق بقيادة الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو.

وفي هذ الإطار، فقد استغلت الولايات المتحدة حالة التخوف التركي من التهديدات السوفييتيية لتعمل على جعلها حاجزاً بشرياً وعسكرياً أمام "الحمر"، من خلال مبدأ ترومان (1947) الذي نص على تقديم مساعدات ضخمة لليونان وتركيا مقابل تصديهما للنفوذ الشيوعي.

تلا ذلك دخول تركيا حلف شمال الأطلسي (الناتو) 1952 وبه تحولت إلى جبهة الدفاع الجنوبية عن المصالح الأوروبية الأطلسية في مواجهة السوفييت، وإلى قاعدة عسكرية متقدمة للناتو في مواجهة القوى القومية واليسارية الناشطة في العالم العربي والتي بدأت بتهديد الغرب وحلفائه حينها.

وتركيا الآن تملك ثاني أكبر جيش في الناتو بعد أمريكا، وتنتشر فيها قواعد جوية للحلف، وتستضيف مراكز لمنظومة الدفاع الصاروخي الأمريكية، كما أثير وجود صواريخ نووية أمريكية فيها.

- رادارات الدرع الصاروخي وبطاريات باتريوت وقواعد تستخدمها قوات أمريكية وأطلسية بإذن تركي

وبموازاة التحالف العسكري، فقد نشأ تحالف سياسي جسدته الرغبة التركية العارمة في دخول الاتحاد الأوروبي، ومنذ توقيعها على بروتوكول أنقرة 1963 حتى اليوم لم تتمكن تركيا خلال نصف قرن من التحول إلى عضو كامل العضوية من جهة، كما لم تقم أوروبا بإغلاق الملف بشكل كامل أيضاً، بل بقي الملف مفتوحاً حرصاً من تركيا على تحقيق حلمها التاريخي بكل امتيازاته الاقتصادية والسياسية والأمنية، وحرصاً من أوروبا أن لا تفقد حليفتها الاستراتيجية وما يجره عليهما التحالف من مكاسب.

- أثر الثورة الإيرانية

ورغم التوتر والبرود الذي خيم على العلاقات الأمريكية التركية نتيجة الأزمة القبرصية 1974 لكن العلاقات عادت، ورفع من وتيرتها قيام الثورة الإيرانية 1979 وإسقاطها الشاه حليف أمريكا الوثيق، وإعلان جمهوريتها العداء للولايات المتحدة، إذ وجدت الولايات المتحدة نفسها في حاجة إلى الحليف التركي ليوازن نفوذ إيران في المنطقة، وكان من نتائج ذلك قيام الجنرال كنعان إيفرين بانقلاب عسكري 1980 بتحريض أمريكي وبترتيب كامل مع الولايات المتحدة، ورافق الانقلاب تطور العلاقات الاقتصادية والتجارية بين تركيا وأمريكا والتي كانت، على خلاف العسكرية، ضعيفة جداً حتى الثمانينات من القرن العشرين.

- بعد سقوط جدار برلين..قيامة جديدة في "العالم التركي"

وفي عام 1990، ساد شعور بأن سقوط الاتحاد السوفييتي أسقط معه أهمية الدور التركي بالنسبة لحلفائها الغربيين، غير أن تطورات الأحداث في أكثر من محور أثبتت من جديد الحاجة الغربية لتركيا، ليس فقط كموقع جغرافي ولكن أيضاً كامتدادات عرقية ولغوية وثقافية وتاريخية في منطقة آسيا الوسطى والقوقاز والبلقان التي تعرضت لحالة من الفراغ الذي خلفه الانسحاب السوفييتي ونشوء دول جديدة في تلك المناطق الغنية بموارد الطاقة في آسيا، وقد عملت الولايات المتحدة على التشجيع الحذر لمد النفوذ التركي في تلك الدول الآسيوية الستة التي تتحدث خمس منها بالتركية؛ لحسر نفوذ روسيا من جهة، ومن جهة أخرى مواجهة إيران الطامحة إلى مد نفوذها إلى تلك المنطقة من خلال المذهب الشيعي الذي يجمعها بالعديد من القوميات حتى التي تتحدث التركية، ولوضع النموذج التركي العلماني الليبرالي كنموذج صالح للاقتداء به مقابل النموذج الإسلامي الإيراني

- حروب الخليج والحرب على "الإرهاب"

وكان احتلال العراق الكويت واندلاع حرب الخليج الثانية فرصة هامة لرفع أسهم تركيا وتأكيد أهمية موقعها الاستراتيجي في العمليات العسكرية لحلف تحرير الكويت، وقد سمحت الحكومة التركية للقوات الأمريكية باستخدام قاعدتي إنجيرليك وباتمان التركيتين في مهاجمة العراق، وبعد ذلك في تطبيق الحظر الجوي على منطقة كردستان العراق من خلال قاعدة إنجيرليك التركية العملاقة.

- المجال الجغرافي لعمل قاعدة إنجيرليك العسكرية في تركيا

وقد دعمتها الولايات المتحدة آنذاك لدخول الاتحاد الأوروبي لإنشاء ثقل حليف منها ومن دول أوروبا الشرقية مقابل القوى التقليدية المحركة له كبريطانيا وألمانيا وفرنسا.

وقد استفادت الولايات المتحدة من وجود دولة مسلمة في تحالف الحرب على أفغانستان في تحسين صورة الحلف ونفي صورة الحرب الدينية عن عملياته، كما ساهمت تركيا بعد ذلك بدور كبير في قوات الدعم والإسناد (إيساف) التابعة للناتو.

- ما بعد العدالة والتنمية

وعملت الولايات المتحدة على الاستفادة من سياسات حزب العدالة والتنمية الخارجية من خلال تحول تركيا بعلاقاتها مع الأطراف المختلفة إلى نافذة خلفية للتوسط في مسائل عالقة كالبرنامج النووي الإيراني والملف السوري الإسرائيلي، ودعم صورة الولايات المتحدة الأمريكية من خلال حلفها مع حكومة ديمقراطية إسلامية، ودعم النموذج التركي الإسلامي القائم على موائمة قيم الحضارة الغربية مع القيم الإسلامية في مواجهة الحركات الإسلامية السنية والمشروع السياسي الشيعي الإيراني، وخلق توازن استراتيجي تركي إيراني بعد الفراغ الذي أحدثه سقوط صدام حسين، والاستفادة من القواعد العسكرية التركية في إمداد القوات الأمريكية في العراق.

ورغم حدوث متغيرات أثرت على العلاقات كالنزاع التركي الإسرائيلي بعد أسطول الحرية 2010، ثم اندلاع الربيع العربي الذي تفاوتت فيه مواقف الطرفين من بعض الملفات ولا سيما في سوريا، لكن هذه التطورات أثبتت في المحصلة أهمية موقع تركيا في إمكانية تنفيذ الاستراتيجيات الأمريكية في المنطقة؛ فـ"الحرب على الإرهاب" مثلاً لم تكتمل أركانها إلا بسماح تركيا باستخدام الولايات المتحدة لقاعدة إنجيرليك التركية، كما أن تركيا تحولت أخيراً إلى سد يحول دون وصول موجات اللجوء العاتية إلى أوروبا.

- عقدة خطوط الطاقة

نتيجة للتنافس الأوروبي الروسي واستخدام الأخيرة لموارد الطاقة ورقة ضغط على أوروبا، فقد لجأ الأوروبيون إلى البحث عن مصادر بديلة للطاقة من آسيا الوسطى والقوقاز عبر شبكة خطوط، بدا من خلالها موقع تركيا فائق الأهمية كعقدة طاقة يمر بها عدد من خطوط أنابيب الغاز والنفط من آسيا الوسطى القوقاز والشرق الأوسط، ومحتملاً من روسيا، إلى أوروبا، كخط أنابيب باكو-تبليسي-جيهان الذي ينقل النفط الأذري إلى أوروبا عبر جورجيا ثم ميناء جيهان التركي، بطاقة مليون برميل يومياً، وكذلك خط أنابيب لنقل النفط العراقي إلى الأسواق الدولية من خلال ميناء جيهان التركي، ومشروع الممر الجنوبي المقرر دخوله في الخدمة بعد عامين، ويتوقع نقله كمية مبدئية تبلغ 16 مليار متر مكعب من الغاز تصل إلى 31 مليار متر مكعب عام 2033 من أذربيجان عبر جورجيا وتركيا واليونان إلى أوروبا.

بالإضافة إلى مشروع السيل التركي الذي بدأت المفاوضات من حوله مجدداً بين روسيا وتركيا، كما أن عقد الاتفاق النووي الإيراني 2015 بين إيران ومجموعة 5+1 قد يفتح الطريق أمام تصدير الغاز الإيراني إلى الأسواق الأوروبية المتعطشة عبر الخطوط المارة من تركيا،ويدخل في هذا الإطار الغاز المكتشف في شرقي المتوسط والذي ترغب إسرائيل بتصديره عبر تركيا إلى أوروبا، إلى غير ذلك من المشاريع التي تلبي الطلب المحلي التركي من جهة وتزيد مكانة تركيا بتحويلها إلى عقدة جيوستراتيجية لمرور الطاقة إلى أوروبا والولايات المتحدة من خلال حلفاء متعددين كآسيا الوسطى والقوقاز والشرق الأوسط وربما روسيا في مرحلة لاحقة.

- سنوات "الغرام" و"القلق"

مثلت حقبة العدالة والتنمية في تركيا تحولاً للدور التركي في نظر المنظومة الغربية التي حصرته في الدولة الوظيفية الحارسة لمصالحها دون كبير اعتبار لمصالح تركيا الوطنية، فإذا بها تتحول من "الولد المطيع" إلى "الفتى المشاكس"، ممّا أوقع الغرب في حالة من الإرباك فلا هو قادر على احتضان تركيا بشكل كامل لاعتبارات متعددة ولا هو قادر على فك الارتباط بها لأهميتها الأمنية والطاقوية والاقتصادية، ولذلك يبدو أن الحل الوحيد الذي يناسب الغرب هو تغيير السلطة الحاكمة في أنقرة أو إضعافها على الأقل، ويندرج في هذا السياق مجموعة "اختبارات" مرت بها البلاد بدءاً من أحداث غيزي بارك 2013 وانتهاء بمحاولة الانقلاب 2016، ونتيجة فشلها كلها في الوصول إلى هدفها فهذا يفتح العلاقة بين الطرفين على احتمالات متعددة كالحروب الإعلامية والضغوط الاقتصادية أو السياسية من خلال تحريك الملف الكردي، وافتعال قلاقل داخلية تضعف من موقف الحكومة في الداخل وتضطرها إلى العودة إلى المربع التركي القديم، بل يبقى الإعداد لانقلاب عسكري ثان يتلافى أخطاء الأول وارداً ولو بعد سنوات.

بما يفرض على الحكومة التركية حل مشاكلها الداخلية وفي المقدمة منها الملف الكردي، ووضع استراتيجية لتطهير مؤسسات الدولة من القوى الانقلابية، ولصياغة مشروع وطني شامل وجامع بالتوافق مع القوى المعارضة، والعمل على إجراء مراجعة شاملة لارتباطها مع الغرب، وتوثيق علاقاتها مع حلفاء خارج المنظومة الغربية كروسيا والصين.

عن الكاتب

عبد القادر محمد علي

كاتب سياسي إريتيري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس