ترك برس

في إحدى ليالي تموز/ يوليو 1991، اقتربت سيارة مدنية في جوار الساعة الثانية عشرة مساءً، من مبنى أكاديمية الشرطة الواقعة في حي أنيتيبة الواقع في العاصمة أنقرة. كانت تضم السيارة المدير العام للشرطة "أونال أركان" الذي لم يمض على تعيينه سوى شهر، ونائبه "أوميت أردال". لاحظ الشرطي المناوب على باب الكلية توقف السيارة لوقت طويل، فدنى منها ليخبر من فيها بضرورة الرحيل فورًا، إلا أنه ُلاحظ وجود مدير الأمن ونائب، فوقف وقفة الثبات على الفور.

ترجل أركان ونائبه من السيارة نحو الأكاديمية، لمراقبة القرعة الخاصة بالضباط المتخرجين حديثًا، والتي يتم من خلالها فرزهم على أماكن الخدمة الخاصة بهم. لاحظ أركان، حسب ما يروي لمجلة تشاغين الشرطية، بأن بعض أوراق القرعة مُعدة بشكل مختلف عن الأوراق الأخرى، فأمر على الفور بإيقاف عملية السحب.

أمر أركان بفتح محضر تحقيق حول القضية، وفي نهاية التحقيق تبيّن بأن الأوراق الكبيرة أو المُميّزة بعلامة معينة خاصة بأفراد الشرطة التي سيتم تعينهم في جهاز الاستخبارات والتهريب والموارد البشرية، أي في أكثر الأجهزة حساسية داخل مديرية الأمن في تركيا.

أجرى أركان تحقيقات أوسع اعترف خلالها بعض الطلاب الذين اختاروا الأوراق المميزة عن الأخرى، بأنهم يُقيمون في أحد بيوت جماعة فتح الله غولن ويتلقون تعليمًا دعويًا في ذلك البيت.

على الفور صَدَر أمر باقتحام البيت المذكور وتفتيشه جيدًا ومُصادرة جميع محتوياته، ليتضح فيما بعد أن ثمة كتبًا وفيديوهات خاصة بفتح الله غولن تُدرس وتُعرض على طلاب الشرطة المقيمين في تلك البيوت. استمرت التحقيقات على الصعيدين الإداري والعدلي، وفي 10 آذار/ مارس 1992 أصدرت رئاسة دائرة التفتيش داخل مديرية الأمن تقريرًا بعنوان "أنشطة غير قانونية لبعض منتسبي الأجهزة الأمنية".

أكّدت دائرة التفتيش في تقريرها المكون من 4 صفحات، على أن هناك تغلغلًا واضحًا لجماعة غولن داخل المجتمع ومؤسسات الدولة، مشيرةً إلى أن هذه الجماعة تسعى لبناء نظام ديني شرعي متغلغل داخل المجتمع والدولة ومخالف لأسس العلمانية والتحرر.

وأشارت الدائرة إلى أن أكثر من 50% من طلاب الكلية الشرطية في أنقرة، يتبعون بشكل مباشر أو غير مباشر لجماعة غولن، وعليه فيجب على مديرية الأمن إجراء عملية تطهير شمولية لهذا التوغل الذي يكشف النقاب عن هدف جماعة غولن في السطو على منافذ الأمن في تركيا.

الصفحة الأولى للتقرير (الجزيرة ترك)

بقي أركان في منصبه كمدير للأمن العام 7 شهور فقط، إذ تم نقله في الثامن عشر من شباط/ فبراير 1992 إلى منصب محافظ حالة عدم الطوارئ الأعلى. أُخفيت شواهد التحقيق في القضية مع ترك مُحرّكها في منصبه، وعلى إثر ذلك حركت جماعة غولن نفوذها في القضاء، ليعلن النائب العام في إسطنبول "نصرت دميريل" بتاريخ 10 أيار/ مايو 1994 أن القرائن الخاصة بالقضية ركيكة، فأصدرت محكمة أمن الدولة قرارًا يقضي بإغلاق القضية.

مع صدور قرار إغلاق القضية، تنفّست جماعة غولن الصّعداء، وبدأ زعيمها "فتح الله غولن" بإجراء لقاءات موسعة مع السياسيين، لا سيما رئيسة الوزراء آنذاك "تانصو تشيلَر" التي في تاريخ 30 تشرين الثاني/ نوفمبر 1994، لتنهال وسائل الإعلام بعد ذلك بالمدح والثناء على غولن وما يقوم به.

لم تتوقف الأوصاف الإيجابية بحق غولن على وسائل الإعلام، بل شملت مجلات أفرع مديرية الأمن العامة، خاصة فرع الاستخبارات الذي قال عن غولن في مجلته الصادرة في تموز 1998 إن "المجموعة الكبيرة والمؤثرة على طيف واسع من الشعب، تحتضن كتلة كبيرة من المتعلمين. كتلة أخذت على كاهلها مهمة رفع مستوى تركيا التعليمي، وإيصالها إلى مستوى مرموق على الساحة الدولية."

وفي سياق متصل، ذكر موقع الجزيرة ترك أنه أجرى تحقيقات استقصائية موسعة، إلا أنه لم يجد اسم "جماعة فتح الله غولن" داخل أي قائمة لمكافحة الجريمة المنظمة أو الإرهاب في الفترات السابقة.

دخلت جماعة فتح الله غولن الكتاب الأحمر الذي يحتوي على المنظمات الإرهابية في تركيا بتاريخ 27 تموز 2016، وفي إطار ما تثبته الوثائق التاريخية حول تغلغل جماعة فتح الله غولن داخل الدولة منذ عام 1991، فإنه يكون من الممكن القول إن الحكومات التركية علمت كلّها بخطر جماعة غولن، ولكن أيًا منها لم تقُم بمهمة صد ذلك الخطر بشكل جاد.


المصادر

أرشيف صحيفة ميلييت، موقع الجزيرة ترك، صحيفة حرييت.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!