ريتشارد فالك - فورين بوليسي جورنال - ترجمة وتحرير ترك برس

في الأشهر الأخيرة لم يخف الرئيس، رجب طيب أردوغان، ومستشاروه الرئيسيون أنهم يعيدون النظر في علاقات تركيا مع دول الجوار، ودول المنطقة، وكبار الفاعلين الجيوسياسيين.

الأجندة المبكرة لحزب العدالة والتنمية

عندما جاء حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في عام 2004  شرع على الفور في صياغة السياسة الخارجية لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، وهي سياسية تقوم على فكرة أن الوقت قد حان لإلغاء حالة الحرب الباردة المتمثلة في الإذعان التركي التام للولايات المتحدة، ولاسيما داخل حلف الناتو، وسياقات القطبية الثنائية، ووضع تصور لمفهوم المصالح التركية الموسعة في أنقرة بدلا من الانضمام إلى مخطط واشنطن. في الحقبة المبكرة  للقيادة الوطنية بدا أن حزب العدالة والتنمية يسعى إلى تحقيق أربعة أهداف دولية مترابطة:

* حل الصراع القبرصي

* إعطاء الأولوية لعضوية الاتحاد الأوروبي

* تحسين العلاقات السياسية والدبلوماسية مع العالم العربي

* السعي لاستمرار العلاقات مع الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي لكن باستقلال تام

خلال تولي عبد الله غُل لوزارة الخارجية التي تعكس وتتضمن بعض أفكار أحمد داود أوغلو وتصوره الطموح للدور التركي الدولي الصحيح، تحققت هذه المصداقية الجديدة للسياسة الخارجية التركية بنتائج باهرة. كان ينظر في البداية إلى نهج تركيا بسياسة صفر مشاكل مع الجيران على أنه اعتماد منظور إقليمي لحل الصراع، وإعطاء مصداقية مبكرة، وذلك بتحويل العلاقات مع سوريا من العداء إلى الانسجام. صارت سوريا النموذج الأبرز لسياسة صفر مشاكل، وتعزز النهج الجديد بالتوسع السريع للعلاقات الاقتصادية والثقافية مع جميع بلدان العالم العربي. والأبعد من ذلك أن تركيا مددت سياستها الخارجية بالنجاح الاقتصادي والدبلوماسي الكبير في البقاع غير العربية من العالم الإسلامي، وكذلك في جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا. وسرعان ما صارت إسطنبول، وليس باريس ولندن، محورا مفضلا لمجموعة واسعة ومتنوعة من الاجتماعات السياسية الدولية التي تهتم بالمنطقة الجنوبية من العالم.

كان هناك أيضا تركيز كبير، وُضع خلال السنوات الأولى لحكم العدالة والتنمية، على تسريع دبلوماسية التقارب مع الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي يؤدي إلى تحول غير متوقع للحكومة التركية إلى الطابع المدني بطرق تقلل من نفوذ الجيش في السياسة الداخلية، والانتقال بالـتأكيد إلى اتجاه تلبية الشروط المسبقة للاتحاد الأوروبي المتعلقة بحقوق الإنسان ودمقرطة الدولة وعلمنتها، بحيث تبدو أنها تؤهل تركيا لتصير عضوا في الاتحاد الأوروبي، مقارنة بسجل العديد من دول شرق أوروبا التي فازت بعضوية الاتحاد الأوروبي دون مواجهة عقبات قوية في طريق الانضمام. كان لدى حزب العدالة والتنمية أسباب داخلية أيضا لبناء جدار حماية ضد أي انقلاب يقع في المستقبل وتنفذه القوات المسلحة المشبعة بالفكر الكمالي، وخشيتها من انتهاك الإسلام السياسي لعملية الحكم.

وخلال تطوير سياسة خارجية أكثر استباقية واستقلالا، واصلت قيادة حزب العدالة والتنمية تأكيد علاقاتها مع الولايات المتحدة على أساس أن تركيا حليف قوي في الناتو. وقد تعرض هذا التأكيد للاختبار إلى حد ما في عام 2003 عندما ضغطت واشنطن على تركيا للسماح بتنفيذ جزء من مخطط الهجوم على العراق انطلاقا من الأراضي التركية. رفض البرلمان التركي منح موافقته، وتحت ضغوط من الولايات المتحدة عرضت قيادة أردوغان للمرة الثانية الطلب الأمريكي على البرلمان مع توصية بالموافقة، لكن البرلمان رفض للمرة الثانية منح الموافقة. ولا يزال من غير المؤكد إن كان أردوغان كان يدعي طلب الحصول على موافقة البرلمان أم أنه كان يرغب حقا في الانضمام مباشرة في الهجوم على العراق. وعندما بدأ الهجوم على العراق دون تفويض من الأمم المتحدة اعتمدت تركيا نهجا متواضعا تضمن الاستعداد للتعاون مع الاحتلال الأمريكي للعراق بهدف السعي إلى إعادة الاستقرار للبلاد. أرادت قيادة العدالة والتنمية في الواقع أن يكون لتركيا حرية المناورة دون أن تهتز أسس السياسة الخارجية التي وجهت القيادة العلمانية للبلاد منذ تأسيس الجمهورية.

إعادة النظر في السياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية

ثمة خمسة تطورات كبيرة في الظروف قوضت النهج المبكر للسياسة الخارجية لحزب العدالة والتنمية:

أولا، تدهور العلاقات مع إسرائيل الذي ظهر بوضوح كبير خلال اجتماعات المنتدي الاقتصادي العالمي في دافوس 2009 عندما احتد أردوغان بشدة على الرئيس الإسرائيلي، شمعون بيريس، بسبب الهجوم الإسرائيلي الكبير على غزة (عملية الرصاص المصبوب) وبلغت ذروة التدهور في العلاقات في عام 2010 عندما هاجمت قوات الكوماندوز الإسرائيلية أسطول الحرية الذي كان يحمل إمدادات طبية إلى غزة، ما أسفر عن قتل 9 مواطنين أتراك كانوا على متن السفينة مافي مرمرة كبرى سفن الأسطول التي تحدت الحصار الإسرائيلي. من الواضح أن إسرائيل كانت ترسل رسالة إلى تركيا بأنها سترد على أي تحد تركي، بما في ذلك تحدي المجتمع المدني لتعامل إسرائيل مع الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال. هذه المواجهة دفعت واشنطن إلى السعي لعودة العلاقات الطبيعية بين تركيا وإسرائيل، بحيث لا تضطر إلى الاختيار بين أحد الطرفين أو أن تتلاعب بالعلاقات مع البلدين. سعت الجهود الدبلوماسية النشطة التي بذلها باراك أوباما إلى رأب الصدع بين الحليفين الاستراتيجيين الرئيسيين لأمريكا في المنطقة.

التطور الثاني يتعلق برد الفعل التركي على انتفاضات 2011 في العالم العربي، فيما يعرف بالربيع العربي. وينبغي أن نتذكر أن تركيا كانت من بين أولى الدول التي أيدت دون قيد أو شرط هذه الانتفاضات ضد الحكم الاستبدادي، وتعاملت مع الاضطرابات السياسية على أنها تعبير عن الترحيب من جانب المواطنيين بالمشاعر الديمقراطية. وصلت هيبة تركيا في المنطقة إلى أعلى مستوياتها على الإطلاق، وكان هناك حديث في جميع أنحاء الشرق الأوسط عن تطبيق النموذج التركي، لكن غالبا ما يُتجاهل أن أردوغان ذهب إلى القاهرة في ربيع عام 2011 لتشجيع القوى السياسية المصرية على أن تحذو النموذج التركي للعلمانية السياسية، وليس محاولة إدراج الدين في نهج الحكم. هذا الرأي لم يلق تقديرا في ذلك الوقت في مصر، وفُسر على أنه محاولة للعثمانية الجديدة للتدخل في حق المصريين في تقرير المصير.

التطور الثالث يتعلق بإدراك الأتراك التدريجي أن فرصتهم في الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي متراجعة ومتدنية، على الرغم من نواياهم الداخلية الحسنة للاستجابة لشروط الانضمام. التفسير الرئيس لهذا التراجع يرجع إلى صعود الإسلاموفوبيا في العديد من البلدان الرئيسة في أوروبا الغربية، التي ستكون موافقتها السياسية في استفتاء شعبي أمرا ضروريا قبل الموافقة على انضمام تركيا رسميا للاتحاد. ومع التلاشي الواقعي لهذا الخيار الأوروبي ضعفت الحجة البراغماتية للإصلاح السياسي الداخلي في تركيا، في حين أن تحقيق الاستفادة الجيوسياسية يتطلب جهدا دبلوماسيا مساويا وأكثر وضوحا، ويُنفذ بالانفتاح التركي على إيران وروسيا والهند والصين. وبعبارة أخرى لمواجهة الرفض المهين من الاتحاد الأوروبي، حتى لو لم يُعبر عن هذا الرفض مباشرة، تحولت تركيا جزئيا شرقا، أو فكرت على الأقل في الابتعاد عن أوروبا والغرب، إذا أخذنا في الحسبان النبرة المثيرة لأردوغان في رد فعله الغاضب المشوب بالمرارة على انتقادات الاتحاد الأوروبي. وقد تفاقمت حدة الأزمة بالاتفاق المثير للجدل عام 2015 مع الاتحاد الأوروبي، وبموجبه تبطئ تركيا من تدفق اللاجئين السوريين عبر الحدود في مقابل إعفاء الأتراك من تاشيرة الدخول إلى أوربا ومنحها مساعدات مالية . تجدر الإشارة من منظور حقوق الإنسان أن هذا الاتفاق المسمى تضليلا "اتفاق اللاجئين" هو موضع شك كبير، ويجعلهم ورقة مساومة بين الحكومات بدلا من احترام ضعفهم بإقامة نظام الحماية الإنسانية.

التطور الرابع يتعلق بإشارات مختلفة عن أن أردوغان يتطلع إلى دور سلطوي أكبر في الحكم التركي، وخاصة بعد فوز حزب العدالة والتنمية في انتخابات عام 2011. في هذه السنوات تبنى أردوغان علنا وجهة نظر ديمقراطية الأغلبية بإضعاف الطابع الجمهوري للحكومة التركية. وقد برزت هذه الدينامية بعد انتخابه رئيسا للجمهورية عام 2014، وردا على استئناف العداء مع الأكراد وحزب العمال الكردستاني. وقد شجع أسلوب أردوغان السياسي الحاد إلى جانب مظاهر الاستقلالية التركية المبكرة والقطيعة مع إسرائيل، على ارتفاع نغمة الانتقاد من قبل وسائل الإعلام الدولية في تناولها لقيادة حزب العدالة والتنمية. ووصل هذا التحول إلى تغيير جذري في نهج التعامل مع قيادة الحزب، إذا ما قورن بنهج أكثر توازنا فيما بين عامي 2012-2011 ، وبلغت ذروة العداء لأردوغان مع حادثة غازي بارك في عام 2013 عندما استخدمت الشرطة التركية القوة المفرطة لتفريق مظاهرات لقوى المعارضة. ومن الجدير بالذكر أن الانتقادات الموجهة للتجاوزات التركية لحقوق الإنسان أعطيت اهتماما دوليا أكبر بكثير من التجاوزات الحالية التي يقوم بها نظام عبد الفتاح السيسي في مصر والمملكة السعودية. هذا الاختلاف في المفاهيم الدولية يعكس تأثير نشطاء الخارج المعادين لحزب العدالة والتنمية، فضلا عن تباعد السياسات كما هو الحال بين أنقرة وكل من واشنطن وبروكسل وتل أبيب.

التطور الخامس يرتبط بمحاولة الانقلاب الساقط في تركيا في الخامس عشر من يوليو/ تموز.

كانت الحكومة التركية والرأي العام التركي مقتنعين بشدة بأن الانقلابيين على صلة بفتح الله غولن أو حركة الخدمة، وأن حكومة الولايات المتحدة كان لديها معرفة مسبقة، وإذا كان من الممكن الوثوق في الأدلة التفصيلية، فمن المحتمل جدا أن الحكومة الأمريكية أعطت الضوء الأخضر للانقلاببين. أثناء الانقلاب وخلال تداعياته لم تعرب الولايات المتحدة ولا أوروبا عن دعمهما لحكومة منتخبة ديمقراطيا في تركيا، وتبنيتا موقف الانتظار والترقب، وهو ما بدا على أنها مستعدة لقبول، إن لم يكن الترحيب، إن نجح الانقلاب. وإلى جانب ذلك لم تستجب الولايات المتحدة للطلب الرمس التركي بتسليم فتح الله غولن، وتخاذلت في احتجازه خلال العملية القانونية. ومرة أخرى ركزت التغطية الدولية لما بعد الانقلاب كل انتباهها تقريبا على حملة أردوغان على المشتبه في تورطهم في حركة الخدمة، في حين أن هذه التغطية الإعلامية المبالغ فيها والمزعجة لا تصور السياق الذي يظهر فيه أن من المنطقي بالنسبة لقيادة العدالة والتنمية أن تشعر بالتهديد في الداخل من استمرار اختراق منظمة الخدمة لأجهزة الدولة، وبالتالي من التشدد الكردي وإرهاب داعش. وفي الوقت نفسه من المفهوم تماما أن القوى الدولية المعادية لقيادة العدالة والتنمية ينبغي لها أن تبرز حركة الإقالات الضخمة من المؤسسات الأكاديمية وإغلاق وسائل الإعلام على نطاق واسع على أنه حملة ضد المعارضين.

هل يعاد ترتيب السياسة الخارجية التركية

إزاء هذه الخلفية فليس من المستغرب أن تركيا ينبغي لها أن تستشكف خيارات سياستها الخارجية. وفي الواقع فإن عملية الاستكشاف هذه قد سبقت محاولة الانقلاب. إن الدافع وراء إعادة ترتيب السياسة الخارجية التركية يعكس تراجعا عن مواقف السياسة الخارجية الجامدة الأكثر مبدئية المرتبطة بتأثير أحمد داود أوغلو، وقبول المسعى البراغماتي للحد من التوترات الإقليمية والعالمية المعادية.

والأكثر إثارة للجدل من وجهة النظر الأمريكية أن التحول البراغماتي ينظر إليه على أن محوره تحسين العلاقات مع روسيا. على أن الهدف كان أوسع  من ذلك يعتمد على التعاون مع روسيا في الاعتراف بالمصالح المشترك، بما في ذلك احتمال التوصل إلى حل وسط يرسخ وقفا دائما لإطلاق النار في سوريا. من وجهة نظر مؤسسة الأمن القومي الأمريكية فإن علاقات التعاون الروسية التركية ينظر إليها على أنها تطور غير مرغوب فيه على الأقل حتى فوز دونالد ترامب في الانتخابات. عندما كان احتمال أن تصير هيلاري كلينتون الرئيس القادم للولايات المتحدة شبه مؤكد، كانت هناك توقعات عامة بأن الغرب سيجابه روسيا بطريقة أكثر حزما من رئاسة أوباما. وقد شجع هذا الاعتقاد في تركيا بأن مؤسسة الأمن القومي الأمريكي كانت تعارض أي تقارب بين روسيا وتركيا، حيث إن هذا التقارب سيوضح احتمال دعمها لمحاولة الانقلاب في يوليو الماضي، أو سيوضح في الحد الأدنى، ازدواجيتها في التعامل مع نتيجته. هذه الشكوك على الرغم من انتشارها على نطاق واسع في تركيا، فإنها ما تزال من غير أدلة، وتبقى مجرد تخمينات بحتة.

التوترات مع الاتحاد الأوروبي بشأن اتفاق الهجرة، وفي الرد على تجميد مباحثات الانضمام إلى الاتحاد تميل تركيا إلى تقييم أشكال إضافية متنوعة من إعادة تحديد المسار، بما في ذلك بحث الانضمام إلى التجمعات الدولية غير الرسمية التي تقودها الصين وروسيا.

وفي النهاية إن اتبع ترامب نهج عدم التدخل في الشرق الأوسط، واستعيد الاستقرار الداخلي التركي، فمن المرجح أن تضعف العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة، لكنها لن تصل إلى القطيعة. ستركز تركيا على الأرجح على العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع آسيا، وكذلك استئناف التفاعل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، والتقليل من الاختلافات الأيديولوجية.

الخاتمة

هناك المزيد من الغموض فيما يتعلق بالسياسة العالمية أكثر من أي وقت مضى منذ نهاية الحرب الباردة. ويعكس هذا الغموض صعود الزعماء المستبدين في كثير من الدول المهمة التي تتمتع بدعم الشعبوية اليمينية التي تدفع ضد العولمة الاقتصادية، وتعطي الدافع لأشكال الإقصاء القومية.

وبشكل عام يبدو مشجعا أن تركيا تختار ثانية سياسة خارجية براغماية أكثر منها سياسة تخيلية ومعيارية، على الرغم من أن هذا ليس وقت ممارسة هذا النوع من النفوذ الأوسع والقيادة في المنطقة وخارجها، وتجاوز النهج الذي اتسم به داود أوغلو، لكن الأزمنة تختلف، وتدعو إلى طموح أقل واستقرار أكبر.

عن الكاتب

ريتشارد فالك

كاتب أميركي وأستاذ جامعي في كلية الحقوق بجامعة برينستون الأميركية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس