مطيع البطين - خاص ترك برس

لا شكَّ أنَّ الإجابة على هذا السُّؤال الاستراتيجي في هذا الوقت الحرج والأحوال الصَّعبة والأحداث المتسارعة يحتاج إلى أجوبة مؤسَّساتية، ومراكز دراسات ذات خبرة قوية واسعة، بل هو في الحقيقة يحتاج إلى دول تُقدِّم كلَّ إمكاناتها العمليَّة والعلميّة للإجابة على هذا السُّؤال، ثمَّ تقوم بوضع خطَّة عملية بناءَّة لإيقاف كارثة التّغيير الدّيموغرافيّ في سوريّة وفي بلدان المنطقة، ذلك أنَّ التّغيير الدّيموغرافي هذا لا يستهدف سوريّة فقط، بل هو إرهاب عابر للحدود يستهدف المنطقة كاملةً.

يبدو أنَّ دول المنطقة والمؤسّسات الكبرى فيها لم تولِ هذا الموضوع الأهمية اللازمة، ولم تضع الخطّط الكافية للحدِّ من خطورة الَّتّغيير الدّيموغرافي، ولم تدقَّ بعدُ ناقوس الخطر، مع أنَّ هذا التّغيير يستهدف وجودها من أساسه، ولئن كان التقسيم شبحًا تخافه الدُّول والشعوب فإن التغيير الدّيموغرافي موتٌ محقَّق لهذه الدول ولشعوبها، فالتقسيم مسألة حدود، أمّا التّغيير الدّيموغرافي فهو مسألة استهداف للوجود، ولنا في تاريخ دول منطقتنا شواهد بعيدة وشواهد قريبة تدلُّ على مدى فداحة وخطورة هذا التّغيير (الأندلس، إيران، فلسطين،...).

لا تدقُّ هذه الدول ناقوس الخطر مع أنَّ الحديث عن الشَّرق الأوسط الجديد وعن الفوضى الخلاَّقة أو الهدم البَّناء لم يَعدْ مجَّرد تصريحاتٍ يطلقها مسؤولون غربيِّون، بل أصبح ينفَّذ عيانًا جهارًا نهارًا، هذا الشَّرق الأوسط الجديد الذي يعتمد على إعادة صياغة التَّركيبة السكانية إضعافًا للمنطقة بل قتلًا وتمزيقًا لها.

إذا كانت الدَّول والمؤسّساتُ الكبرى لا تقوم بواجبها في مواجهة هذا المخطَّط ، فهل نستطيع أن نفعل نحن كأفراد، ومراكز دراسات... وجهات متنوعة... هل يمكننا أن نفعل شيئًا؟

أرى أنه يمكننا أن نصنع شيئًا، بل أشياء كثيرة ومهمَّة في الوقت الرَّاهن، نفعل ذلك ريثما تصحو الدُّول والمؤسّسات الكبرى لهذا الخطر الكبير ثمَّ تقوم بواجبها وتُسخِّر كلَّ إمكاناتها صدَّاً لهذا المخطَّط، فالتّغيير الّذي يتمُّ بواسطة القوى الصّلبة (قصف، تدمير،...) لا يستطيع الأفراد ولا المؤسّسات الصغيرة مواجهته، بل يحتاج إلى دول قادرة قوية.

لمعرفة ما الذي نستطيع أن نعمله كأفراد وناشطين ومراكز دراسات وجهات ومؤسَّسات نحتاج:

أوَّلًا: إلى معرفة العوامل التي تساهم في التغيير الدّيموغرافي، وهل بمقدورنا أن نعمل شيئًا في إيقاف هذا النزيف من جسد أمَّتنا، وإلى أي حدّ نستطيع فعل ذلك؟

- قصف النّظام المجرم وحلفائه للمدنيين واستهدافهم بمختلف صنوف الأسلحة حتى المحَّرم منها دوليًا (كيماوي الغوطة مثالاً).

- الاقتتال بين فصائل المعارضة (حصل ذلك في أكثر من منطقة في سورية وبين عدّة فصائل).

- التَّجويع الذي يمارسه النّظام على المناطق التي لا تخضع لسيطرته. (مخيم اليرموك ومناطق جنوب دمشق أمثلة واضحة... وغيرها من مناطق سوريّة).

- الاغتيالات، التَّصفيات ذات الأسباب والأهداف المختلفة المتعددة.

- التّهجير القسري والإجلاء (داريا، وحمص، والقصير، والمعضميّة،...).

- الحصار (مضايا، الزبداني).

- الموت بسبب البرد وفقدان المأوى... (المهجَّرون من حلب تحت الثلج مثالًا).

- ممارسات النّظام في المعتقلات (القتل، التعذيب حتى الموت) والصور المسرَّبة والمعلومات تدلُّ على حدوث فظائع وانتهاكات خطيرة في معتقلات النظّام.

- تدمير المشافي، والحرمان من العلاج والدواء.

- ظاهرة ما تسميه بعض الفصائل إقامة حدود في المناطق الخاضعة لسيطرتها...

- الطلاق كظاهرة متزايدة في واقعنا.

هذا العرض السّريع لأهمِّ عوامل التغيير الدّيموغرافي يوضِّح أنَّ عددًا لا بأس به منها نساهم نحن به بجهلنا وظلمنا لأمَّتنا، فالاقتتال بين الفصائل والتَّصفيات المتبادلة والاغتيالات سيناريوهات كارثّية ينبغي أن تتوقّف فورًا وأن يعمل كلُّ القادرين على إنهائها وإلاَّ فالمقاتلون هنا يصيبون أمتنا أكثر مما يصيبها عدوها ويؤذونها أكثر من إيذائه، وقديمًا قيل

لا يبلغُ الأعداء من جاهلٍ   ما يبلغ الجاهل من نفسهِ

وكذلك الطَّلاق والّذي هو تدميرٌ لأسرة كانت تُشكِّل رافدًا لأبناء السُّنة (الشَّريحة المستهدفة من التغير الدّيموغرافي)، وقل مثل ذلك عن ظاهرة ما تُسمية بعض الفصائل إقامة للحدود حيث وصل الحدُّ إلى إقامة مقابر جماعيّة لمن أُقيمت عليهم الحدود (حفرة الهوتة في مدينة الرَّقة مثالًا)، تحتاج هذه المسألة إلى وقفة قويَّة مسؤولة من أهل العلم ومؤسّساتهم المتنوعة يبيِّنون في وقفتهم هذه متى وكيف ومن وبأية شروط وأحوال يمكن إقامة الحدود.

ونلاحظ أيضًا بعض عوامل النَّزف التي نستطيع أن نقِّللها إلى أبعد حدٍّ من خلال جهود وبذل الأغنياء، والمؤسَّسات الإنسانيَّة في سبيل ألاَّ يموت الأطفال والنِّساء والمهجّرون بردًا أو جوعًا أو بسبب فقدان الدواء والعلاج، حتَّى في مسائل القصف التي يقوم بها الَّنظام المجرم وحلفاؤه لتَّجمعات المدنيين ينبغي أن نعمل على ثقافة الابتعاد عن مواطن الازدحام وإيجاد حلول بديلة تفويتًا لأغراض هؤلاء المجرمين في إيقاع أكبر عدد من الضَّحايا (استطاعت بعض المؤسسات تخفيف هذا من خلال إيصال رغيف الخبر إلى البيوت، بدلًا من تجمَّعهم أمام الأفران حيث يتم استهدافهم بشكل متكرِّر... ولا تزال صورة رغيف الدم حاضرةً في الأذهان).

ثانيًا: نحتاج إلى ضخّ دماء جديدة في جسد بلدنا سوريّة بل في جسد أمَّتنا، وهذا أمرٌّ غاية في الحيويّة وهو لا يقلّ عن أهمية إيقاف النَّزيف، يتمُّ ضخّ الدّماء من خلال مجموعة مهمّة من العوامل، كلَّها ملتصقة بالأسرة الّتي طالما حاربها من يريد تّغيير ديموغرافية المنطقة تارةً بالتّخويف من الانفجار السُّكاني وتارةً بالدّعوة إلى الحدِّ من النَّسل، وتارة بالدّعوة إلى تأخير سنِّ الزواج... وغير ذلك من الدّعوات الهدَّامة.

هذه العوامل هي:

- تزويج الشَّباب، وعدم تأخير سنّ الزّواج بدعوة قسوة الظّروف المعيشيّة والحرب والنُّزوح.

- إيجاد ثقافة راقيّة للتّعامل مع شريحة زوجات الشُّهداء، والحثّ على الزّواج منهن، وإعادة بناء هذه البيوت على أساس كريم لتعود من جديد رافدًا حيويًّا للحفاظ على وجودنا واستقرارنا.

- تعدُّد الزَّوجات، ذلك أنَّه من المعلوم خلال الحروب أنَّ عدد الذين يُقتلون من الرِّجال أكثر بكثير ممن يُقتل من  النِّساء، ولذلك لزم العمل على بناء ثقافة تعدُّد الزوجات تلك الثَّقافة التي شكّلت في ماليزيا مثلًا عاملًا مهمًّا من عوامل نهضتها وحيويّتها وريادتها واستقرارها والمحافظة على نسبة المسلمين فيها.

- زيادة المواليد في الأسرة الواحدة، فزيادة المواليد تعني العمل على أن تبقى أمّتنا فتيَّة حيويّةً حيّة ليست عجوزًا هرمةً كحال كثير من الدول التي بات هذا الأمر يقضُّ مضاجعها ويهدِّد وجودها، نلاحظ اليوم مثلًا تشجيع الدَّولة التركية للأسرة فيها على أن تزيد مولودًا جديدًا في كلِّ أسرة، لأنِّ ذلك يساهم في قوة الدّولة ورفدها بطاقات بشرية بنَّاءة.

- تطوير وتنمية ثقافة الكفالة (كفالة يتيم، وكفالة طالب العلم، وكفالة الأسرة، وكفالة الزَّواج، وغير ذلك من ألوان الكفالة التي تُعبِّر عن وعي الأمَّة وحرصها على الحياة الكريمة المعطاءة).

هذه الثَّقافة من أهمِّ العوامل التي نستطيع من خلالها تثبيت أهلنا في الدَّاخل والوقوف معهم في وجه من يريد أن يحوّل حياتهم قفرًا وفقرًا ليجبرهم على الهجرة والرَّحيل.

كلُّ هذه العوامل تساهم بشكل واضح في زيادة معدَّل النَّمو السُّكاني الّذي انخفض إلى حدٍّ مخيف ما بين عامي 2011 و2016م في سوريّة بسبب عاملين اثنين: (زيادة معَّدلات الوفيّات، وانخفاض معدّلات الولادات).

وكما تحدَّثنا في الفقرة الساَّبقة عن أهميّة خفض معدّلات الوفيّات (إيقاف النزيف) نتحدَّث هنا عن أهميّة زيادة معدّلات الولادات من خلال العوامل الّتي ذكرنا سابقًا.

إنَّ من أبرز الصُّور وأوضحها في نجاح هذه الَّسياسة التّجربة الفلسطينيّة الّتي استطاعت أن تُسجل نجاحًا مبهرًا داخل الخطّ الأخضر في قطاع غزَّة، حيث شكّل معدّل النّمو السّكاني الكبير لدى الفلسطينّين قوّةً بشريّةً واضحةً تواجه مخطّط تغيير فلسطين ديموغرافيًا رغم عوامل القتل والّتشريد والحصار والتّهجير الّذي مارسته اسرائيل ضد الفلسطينيّن، بل لقد نجح الفلسطينيون حتى في بلدان اللجوء أن يكونوا قوَّة بشريَّة فاعلةً منتجةً مؤثرةً في مختلف مناحي الحياة.

ثالثًا: نحتاج بالتّوازي مع العمل على الجانبين السّابقين (إيقاف النّزيف وضخّ الدّماء) نحتاج إلى العمل على مجموعة مهمّة من المحاور الفاعلة في مواجهة مخطّط التّغيير الدّيموغرافي هذا.

- المحور الإعلاميّ: نحتاج من إعلامييّنا أن يُسمُّوا الأشياء بمسمّياتها توضيحًا لما يحدث، وأنَّ ما يجري في سوريّة ليس حربًا أهليّة وصراعًا طائفيًا؛ بل هو قتل من نظام مجرم لشريحة معيَّنة من السُّوريين (المسلمين السُّنة)، نحتاج من الإعلامين أن يُبرزوا خطر هذا التّغيير في حساباتهم وصحفهم وفضائيّاتهم وكلِّ منابرهم.

إن عملًا إعلاميًّا متكاملًا مدروسًا وفق حملاتٍ منظَّمةٍ قويةٍ هادفةٍ يمكن أن يشكّل رأيًا عامًا ضاغطًا على القادة والزُّعماء والسّاسة وصُنَّاع القرار والدّول المعنيّة للبدء بمواجهة شاملة قوية لمخطّط التّغير الدّيموغرافي الّذي يستهدف منطقتنا برمّتها.

- المحور الشّرعي والقانوني: تبرز أهميّة هذا المحور في كتابة الفتاوى التي تنصُّ على بطلان البيوع التي تمّت في دمشق وريفها وحمص وغيرهما من المدن السوريّة  للإيرانيين تحت الإكراه والضّغوط والإلجاء والمساومة، وكذلك نحتاج مثل هذا في مسألة التَّجنيس للمرتزقة الذين جاء بهم النّظام وإيران على أساس طائفيّ، نحتاج مواقف قوية تاريخيّة مؤصَّلةً تُبيّن  بطلان وزيف هذا التجنيس.

- محور الَّتوثيق: وهذا يقع في غالبه على عاتق أهلنا في الدَّاخل الّذين عايشوا وعاينوا ممارسات النّظام وإيران في حرق المحلات في سوق العصرونية في دمشق قرب المسجد الأموي، وحرق السّجل العقاريّ في مدينة حمص، وغير ذلك من الوقائع التي قام بها النظام لطمس المعالم وتضييع السّندات وسلب الحقوق من أصحابها وأهلها.

هذه التّوثيقات تصبح مع مرور الأيّام حُججًا بيِّنات دامغات  لأجل إحقاق الحقّ وتوليد قرارات عالميّة كتلك الّتي نصّت فيها اليونسكو على أنَّ المسجد الأقصى تراث إسلاميّ خالص، نعم ينبغي أن نعمل وفق بُعد النَّظر هذا، فالإيرانيّون اليوم يشترون العقارات حول المسجد الأمويّ تمهيدًا لتّغيير انتمائه وصورته وتاريخه، فأين أين الموثّقون للوقائع لأجل مستقبل الأجيال وحقِّهم؟

- محور الشُّركاء: وهو محور مهمٌّ جدًّا نريد من خلاله أن نسمع أصواتًا عالية في بلدنا سوريّة من شركائنا فيه من غير المسلمين السُّنة، نريد أن نسمع أصوات هؤلاء الشّركاء الأحرار من كل الطوائف، فالشّراكة تقتضي أن يقفوا الآن معنا أكثر من أيِّ وقت مضى، وهو موقف يكتبه التّاريخ وتحفظه الأجيال، موقف يرفضون فيه ذبحنا واستهدافنا ويفضحون أمام العالم كلِّه جرائم هذا النّظام واستهدافه للسُّنة على أساس طائفيّ مدمِّر لبنية هذا البلد ونسيجيه الاجتماعي الممتد قرونًا مديدة تعايشًا وشراكةً حقيقيةً... وسلمًا ومساواة.

ختامًا:

إنَّ مخطّط التغير الديّموغرافيّ هذا قد بلغ مرحلةً خطيرة في سوريّة، ويكفي في ذلك أن نعلم أنَّ ثلثي سكان حمص من السُّنة قد أصبحوا بين مُهجرٍ أو شهيدٍ بسبب ممارسات الّنظام المجرم في سوريّة وحلفائه الإيرانيين والروس والميليشيات الطّائفيّة المتحالفة معهم، تمَّ ذلك بطريقة التّغيير بالقوى الخشنة والإرهاب الممنهج ما بين عامي 2011 و2016م، وفعل مثل ذلك بنسب مختلفة في ريف دمشق وحلب ودرعا وإدلب و دمشق واللاذقية وحماة ودير الزور والرقة والحسكة وغير ذلك من المحافظات السوريّة.

إنَّ الإقرار بما وصلت إليه الحال ومعرفة هذا الواقع الخطير لا يعني أنَّه لا يمكننا أن نعمل شيئًا أو أن نبدأ بخطوات مهمّة فاعلة في وجه هذا المخطّط، بل إنَّنا نرى من خلال القراءة الماضية للعديد من النّقاط والمحاور ذات الصّلة أنه يمكننا أن نعمل شيئًا كثيرًا ومهمًَّا جدًا، نستطيع من خلاله أن نصنع مشروعًا حيًّا مناهضًا للتّغيير الدّيموغرافي.

مشروعًا تتضافر فيه الجهود وتتكامل فيه الأدوار، وتعطي فيه القوس لباريها من أهل الاختصاص في كل مجال من المجالات، وتعمل فيه مراكز الدّراسات على تقديم كلّ الإحصاءات والتّوثيقات والخطط الّلازمة.

مشروعًا يدعمه الحقوقيّون، ويُدوِّله القادة والسّاسة، ويبني الرّأي العام فيه العلماء والكتّاب والإعلاميّون وأهل الفكر والكلمة.

فهل آن الآوان أن يبدأ أبناء أُمّتنا جميعًا بالعمل على فرض الوقت والساعة (مواجهة مخطط التغير الديموغرافي الديموغرافي)؟

عن الكاتب

مطيع البطين

كاتب ومحلل سياسي سوري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس