نورس العبدالله - خاص ترك برس

منذ أسبوعين تقريبًا انتهت الانتخابات الرئاسية الفرنسية وسط متابعة كبيرة واهتمامٍ عالِي المستوى على الصعيد العالمي وليس الأوروبي فقط، ويرجع ذلك إلى المنافسة التي حصلت في المرحلة النهائية بين مرشحة اليمين المتشدد لحزب الجبهة الوطنية الفرنسية ماري لوبان  وبين مرشح الوسط إيمانويل ماكرون، حيث كانت النتيجة النهائية فوز ماكرون بـ66.10 في المئة من الأصوات الناخبة.

فالنجاحاتِ المتلاحقة والمنافسة القوية التي تبديها الأحزاب اليمينية المتشددة ليس في فرنسا فحسب بل في النمسا وهولندا وبولندا وبلجيكا وغيرها من البلدان الأوروبية في الإنتخابات البرلمانية والمحلية والرئاسية كان السبب الرئيسي للاهتمام المتزايد بتلك الإنتخابات وخاصة من المنطقة العربية.

ففي السنوات الأخيرة وبعموم أرجاء القارةِ العجوز تصاعدت بشكلٍ كبير تلك الأحزاب التي تعتبرُ يمينية متشددة لأنها ذات أفكارٍ متطرفةٍ في أكثر بلدانها وباتت منافسًا شرسًا للأحزاب الليبرالية واليسارية التقليدية، إذ باتت في الربع قرنٍ الأخير من أبرز وأهم القوى السياسية الأوروبية، من تلك الأحزاب مثلًا نجد فلامس بيلانغ الحزب البلجيكي، وفي ألمانيا حزب اتحاد الشعب الألماني "DVU"، وفي النمسا نجد حزب الحرية النمساوي الحاضر بقوة والذي كاد مرشحه نوربرت هوفر يفوز برئاسة البلاد في انتخابات عام 2016، وفي الدنمارك نرى تصاعدًا كبيرًا لحزب الشعب الدنماركي، وفي إيطاليا ينمو حزب الجامعة الشمالية، وفي النرويج يزداد انتشار حزب التقدم، وقد حقق حزب القانون والعدالة الجناح اليميني في بولندا مقاعد كثيرة في الحكومة البولندية وفي كل البلدان الأوروبية.

وفي استعراضٍ سريعٍ لخارطة اليمين في أوروبا نجد تيارين رئيسيين، أولهما أحزاب اليمين التقليدي والذي يغلب عليه طابع الرأسمالية المتشددة وتبني العولمة نهجًا ويعتبر أعضاؤه من المحافظين والمسيحيين، والتيار الثاني هو اليمين المتطرف والذي يتميز عن اليمين التقليدي بطابع العنصرية والتعصب القومي، والذي يشمل نموذجين: نموذج الأحزاب ونموذج الجماعات المحظورة، فأحزاب اليمين المتطرف وهي أحزاب تشارك بقوة  في اللعبة الديمقراطية أما جماعات اليمين المتطرّف فهي محظورة تقريبا، منها النازيين الجدد، أو حليقي الرؤوس، أو جماعات العنف اليميني، أو الجماعات العنصرية.

لكن لا بد من معرفة ماذا يعنى التطرف، وضد من ولمن تتطرف الأحزاب اليمينية في أوروبا...؟

للتطرف وتعريفه أبحاث ودراسات عديدة لكنه بالعموم إفراط ومجاوزة في شيء فهو غلو في أمر ما، وهو تجاوز الاعتدال في السلوك والفكر أو التصرف، فالأحزاب اليمينية الأوروبية بهذا المعنى هي متطرفة في إفراطها بتقديس الذات والتاريخ والحضارة والهوية الوطنية والخوف على مصالحها وأموالها وعاداتها.

فهو تطرفٌ تجاه الآخر وتعصبٌ للذاتَ، قضيته الأساسية وعنوانه الرئيسي هو التشددُ في المواقف ضد المهاجرين واتجاه فتح أبواب البلاد لهم، وتنطلق من مبررات تتعلق بالمجمل بخصوصية بلدانها وهويتها الوطنية ومن خوفٍ على مجتمعاتها من ضياع الذات بعيد المدى وتغيير الدين من خلال انتشار الإسلام في أوروبا، وتفضيلًا لأبنائها في فرص العمل التي يشاركهم بها المهاجرون أو سلالتهم.

ومن تمسكها بطابعها الوطني والتعصب له تشترك كثير منها في رفض فكرة الاتحاد الأوروبي والعملة الموحدة، وتعدُ امتدادًا بشكلٍ أو بآخر للأفكارِ النازية والفاشية في تقديس العنصر الوطني الأصيل، وتدعو بشكل عام إلى سيطرة أكبر للدولة على القطاعات الكبرى كالأمن والعملة والعدالة، وتبث خطاب الكراهية للآخر مستندين على تحميله مسؤولية مشاكل البطالة وبأنه خطُرٌ على وجه أوروبا المسيحي كما تحملهم مسؤولية الإرهاب وترى فيهم خطرًا أمنيًا وتنظر بكراهية وحذر من ممارسة المسلمين لفرائضهم الدينية كالحجاب.

فالتطرفُ بالغربِ عمومًا هو تعصبٌ للذات والعنصر والوطن اتجاه الآخر المختلف الغريب الوافد، ورغم أنه تطرف مذموم ويخالف مبادئ إنسانية كثيرة ومبادئ وقيم أوروبية عديدة إلا أن هذه الأحزاب تتبنى الديمقراطية وتطرح أفكارها للجمهور الذي بيده القرار وله تقرير مصيره ومصيرها وله الحق باختيار نهج الحياة الذي يعيش به، كما أنها لم تهاجم يوما أمتها ولا تاريخها ولا دينها وإن كانت لا تقبل بغريب ولا تتعاطف مع آخر مضطهد أو باحث عن أمان أو عمل وهي بذلك تفتقد القيم الأخلاقية العليا وحس الإخاء الإنساني إلا أنها تتحدث عن ما يخص بلدانها وكيفية إدارتها والحفاظ على نهج منغلق ونمط معين كأسلوب حياة.

لكن ماذا عن التطرف في منطقتنا العربية، من أين يبدأ وأي قضايا يتبنى، أين تظهر معالمه، وضد من ولمن يتطرف...؟

بدايةً يصعبُ إيجاد خارطةٍ حزبيةٍ وسياسية فبلداننا العربية بمجملها محكومةٌ بالحديد والنار ولا تعددية حزبية تبدو سوى بضع نماذج أغلبها كرتونية، ولا ترقى لتكون نموذجًا ولا مثالًا.

تبدأ رحلة التطرف ها هنا من السلطة ذاتها والتي تقبع على صدر الشعوب في المنطقة سنين طويلة دون رضا من الأخيرة أو اختيار حر.

هذه السلطةُ في كل بلدٍ عربيٍ هي رمز التطرف الأول في غيها وقمعها واستبدادها، وبعد تطرف كلٍ منها على شعبها، تنطلقُ للتطرفِ مع بعضها البعض في العلاقات والتآمرات وشنِ خطابِ الكراهية المتبادل وتسليط سفهاءِ كل منها لذم الأخرين، الآخرين الذين هم شركاؤه بالمجمل في العنصر والدين ولا غريب هنا كما يقال سوى الشيطان.

وتبدو خارطتنا السياسية إن وجدت هي خارطة للتطرف فقط إلا بما ندر، ولا يهم بعدها إن كان استناد الأفكار والأيديولوجيا قوميًا أو قطريًا أو دينيًا أو علمانيًا، يمينيًا أو يساريًا فطابعها العام وقاسمها المشترك هو رفض حرية الشعب للاختيار والقرار وإن ادعت ذلك وطبلت له، لقد كانت في أقصى درجات الغلو لأفكارها ومكاسبها على أبناء بلدانها وتاريخها ودينها ورموزها بل على أعضائها ومنتسبيها أيضًا.

تمتاز بالتطرف العنصري الذي تحتار في وصفه إن كان لحدود سياسية لوطن طالما قيل إنه جزء من وطن عربي كبير جزّأه الاستعمار تجاه أبناء الأجزاء الأخرى ليس خوفًا من بطالةٍ أو عادات مختلفة أو دين مختلف أو تغير ديمغرافي إذ لا نهضة موجودة أساسًا يخشى عليها ولا قيم مختلفة يخشى ضياعها، ولك في التطرف المجتمعي والسلطوي في لبنان تجاه السوريين، وإغلاق أبواب الخليج ومصر والمغرب العربي في وجه السوريين، وتطرف السوريين بعضهم على بعض في الداخلِ المدمر والخارج المهجر دليلٌ وبرهان.

فالتطرف في الوطنية والهوية لوكان هنا اتجاه الآخر عرقا أو دينا  كما في يمين أوروبا لأمكن تفهمه والبحث عن علاج ومسكن.

لكنه موجه ضد أبناء الوطن أولًا من سلطة ضد شعب ومن شعب ضد بعضه البعض قطريًا وفي داخل القطر الواحد مناطقيًا ومن أفكار سياسية مجملها تطرف إلا ما رحم ربي.

ويصعبُ اكتشاف نسب نمو ذلك التطرف وتحليلها ومتابعة حركتها صعودًا ونزولًا إذ لا توجد انتخابات حرةٌ أساسًا ولا تداول سلمي للسلطة ولا تنافسٌ برلماني لنرى برامج التطرف بذلك المعنى كم ستحصد من نسب الناخبين إن دخلت في امتحان مع أحزاب معتدلة دينية أو علمانية يسارية أو يمينية.

لذلك كله علينا قبل أن ننتقد أو نصاب بالرعب من تنامي اليمين المتطرف في أوروبا تجاه الآخرين أو نصاب بالذعر من مطالبهم بإغلاق حدود بلدانهم بوجه الشرقيين والأفارقة، لا بد من الكلام الطويل والنقد العميق لتطرفنا نحن على ذواتنا في الدولة الواحدة والأسرة الواحدة والأمة الواحدة ولابد من فرض احترامِ ديننا وتاريخنا ورموزنا ها هنا قبل المطالبة بذلك في أي مكان آخر.

لا بد أن نكون مثالًا يحتذى به حتى نستطيع انتقاد اليمين الأوروبي المتطرف بحرية أكبر وحجة أكثر.

عن الكاتب

نورس العبدالله

إجازة بالقانون يعمل بالنشاط الحقوقي والإنساني