سمية الجزائرية - خاص ترك برس

إنَّ التاريخ هو ترجمان حال الأمم، والأداة الكبرى للتحكم بالحاضر وبناء المستقبل يؤدي التعمق فيه والتوغل في أوراقه والتأمل في أحداثه، إلى إرشاد الأجيال الحاضرة، بدراستنا له ندركُ كيف تُبنى الدول وكيف تزول، كيف تقوى وكيف تضعف.

والتاريخُ الإسلامي مما لاشك فيه؛ أنه أرقى وأنقى وأزهى تاريخ عرفته البشرية، فهو تاريخُ خير أمة أُخرجت للناس، أمةٌ آمرة بالمعروف ناهية عن المنكر، داعية للخير محاربة للشر، لكن لا يعني أنه بياض لا سواد فيه، ومع ذلك لا ينبغي أن نلصق أخطاء المسلمين بدين الإسلام، فالإسلام دين كامل، والمسلمون ليسوا أناسا كاملون.

وقد كان التاريخ من أهمِ مقاصد الدراما التلفزيونية منذ أن نشأت، تقوم بتناول أحداثا تاريخية وشخصيات، وتوظفها في إطار فكري وسياسي وفني معين في قالب معاصر، ما يمكن أن نُطلق عليه بالوجبة الدسمة للمشاهدِ، والتي تُمكنه من عبور حاجز الزمان، ليشاهدَ صلاحَ الدين الأيوبي وهو يقوم بتوحيد المسلمين وسحق الصليبين واستعادة القدس في معركة حُطين، أو هارون الرشيد من عظماء أمتنا وأيامُ مجد الدولة الإسلامية خلال العهد العباسي.

مِن بين الأعمال التي تناولت شخصية من التاريخ الإسلامي، المسلسل التركي "حريم السلطان"، أكثر المسلسلاتِ التاريخية انتشارا في العالم أجمع، تسابقت القنوات التلفزيونية العربية والأجنبية لعرضه على شاشاتها.

وهو مسلسل تلفزيوني تاريخي من أربعة مواسم أنتجه تيمور صافجي حسب رواية ميرال أوكاي، تم بثه منذ5 جانفي 2011م إلى غاية11 جوان2014م على القناتين التلفزيونيتين التركيتين "شو تي في" و"ستار تي في"، حقق المسلسل نجاحاً باهرا بتركيا ليتم عرضه في عدة دول مدبلجاً باللهجة السورية باسم (حريم السلطان). يقدم صورة متخيلة في تصوير درامي عن حياة السلطان العثماني سليمان القانوني ونزواته، مسلطًا الدور أكثر على حياته الخاصة، ويستعرض الأحداث التي تجري في مقر السلطان المسمى بـ"الحرملك السلطاني".

لكن، ما مدى توافق تصوير شخصية السلطان سليمان في مسلسل حريم السلطان مع صورته في الواقع؟

المسلسل تناول بعض الحقائق التاريخية كمشهد معركة رودس، ومشهد معركة موهاج واللتان قادهما السلطان سليمان بنفسه.. إلا أنه يحتوي على أحداث لا نجد لها سندا تاريخيا منها:

ــ ظهر في المسلسل الاختلاط بين الرجال والنساء بشكل طبيعي في الحرملك، بينما الوقائع التاريخية تشير عكس ذلك، فالحرملك خاص بالنساء ولا يدخل إليه من الرجال لا آغوات ولا حرس سوى السلطان أو الطبيب، بينما الحرس يتواجد في الخارج.

ــ أشار المسلسل أن الزوجة المفضلة لدى السلطان سليمان (هيام) من أصل روسي، بينما في الواقع هي ابنة كاهن أكراني كاثوليكي، يقال أنها ذات أصل بولندي، وقعت أسيرة في يد تتار القرم في إحدى الهجمات على حدود أوكرانيا في فترة حكم السلطان سليم الأول (أبو سليمان القانوني).  

ــ الأميرة إيزابيل فورتونا (أميرة قشتالة وملكة الإمبراطورية الرومانية المقدسة)، ظهرت في المسلسل بهذا الوصف، لم نجد لها أثرا في كتب التاريخ، ولكن إذا كان المقصود (إيزابيلا الكاثوليكية ملكة قشتالة) زوجة فرناندو الثاني ملك قشتالة، فهي قد توفيت سنة 1504م، وسليمان القانوني مولود سنة 1494م، أي أنها توفيت عندما كان سليمان القانوني ذي العشر سنوات!

وإن كانت المقصودة ملكة المجر"هنغاريا"، (إيزابيل جاغليون) زوجة (الملك يانوش زبوليا)، عينها السلطان سليمان حاكمة لترانسلفانيا في رومانيا هي وابنها أميرا لها،  ولم تكن تربطها أية علاقة عاطفية مع سليمان القانوني.     

ــ المشهد الذي ظهر فيه السلطان سليمان منغمسا في الخمر مع الجواري وهن يرقصن، وهو الذي انزعج بشدة من ظهور فن الرقص في فرنسا خلال فترة حكمه، يوم كانت فرنسا حليفة للدولة العثمانية، حيث تدخل لإيقافه خشية من أن يسري في بلاده!

ــ على الرغم من أن الحشمة كانت سيدة الموقف في الحرملك آنذاك، إلا أن المسلسل صور الحريم بلباس فاضح.

قد يرى البعض أن ذلك خيالا سينمائيا، وإبداع في الدراما، ولكنه ليس كذلك، بل هو تشويه متعمد لصورة السلطان سليمان القانوني، والخلافة الإسلامية، ومنه تشويه الإسلام.

رغم قوة الجانب الفني للمسلسل، إخراجا وتصويرا وإضاءة، والديكورات الفخمة وأماكن التصوير والملابس والمجوهرات اللامعة، وتنوع اللقطات وانسجامها، إضافة إلى الدقة في اختيار أبطال الأعمال وشخوصها، فهو اختيار دقيق ويناسب الصور الشخصية الحقيقية أو المتخيلة لتلك الشخصيات، الأمر الذي يشعر المشاهد أنه فعلا أمام شخصية تاريخية تتجلى بكل تفاصيلها أمام عينيه..

إلا أن السيناريو أضر وبشدة بضخامة المسلسل. ويظهر أنها اعتمدت على مصادر علمانية ومصادر المستشرقين في كتابته، يعني من وجهة نظر استشراقية وغربية معادية للإسلام، وليس من وجهة نظر تركي يفخر بتاريخ بلاده، أو مسلم يفخر بالتاريخ الإسلامي!

لقد ركز المسلسل على الجانب الاجتماعي للسلطان سليمان القانوني، بصورة سلبية، وعنوان المسلسل دال عليه وهو (الحريم)، فالمخرج لم يكن موضوعيا ولا الكاتبة في تصوير شخصية سليمان القانوني.

ولنعلم أن حدود حرية الكاتب المشتركة مع المخرج في تقديمه للمسلسلات التي تنطلق من أسس واقعية، وتركز على خلفيات تاريخية وتجسيدا لشخصيات تاريخية أو سير ذاتية، أقول إن حرية تلك الحدود هنا تتقلص في سرد حقائق لا أساس لها من الصحة، أو تشويه وتزوير وقائع معلومة بين أوراق التاريخ.

وتلك الأخطاء التاريخية وتشويه الحقائق وتزييفها لها تأثيرا سلبيا على المشاهد لا سيما وإن قلة منا تقرأ كتب التاريخ وتعلم حقائق الأمور لتتبين الصحيح من غيره في تلك الأعمال.

 وقد ترجع تلك الأخطاء لأسباب منها عدم اعتماد تلك الأعمال على مصادر موثقة سليمة التصور، أو رغبة القائمين في تضخيم الأحداث الصغيرة وتهميش الأحداث الكبيرة بدافع الحبكة الدرامية أو الخيال السينمائي، وعليه فإنه يتم التجني على الحقيقة.

إن الأمة الإسلامية تتعرض لحرب ممنهجة تستهدف تاريخها الإسلامي بشكل خاص، من خلال إظهاره بصورة سلبية، وبالمقابل خلق تاريخ مشوه يهدف إلى قتل روح الفخر والاعتزاز بالتاريخ لدى المسلمين، وذلك عن طريق الدراما التلفزيونية، ليجعلونهم يكرهون أحكاما إسلامية عندما يحيدونها عن سياقها المناسب ويسوقونها في أبشع صورة، حتى لا يكون للأمة الإسلامية سابقة تشجع بها أجيالها الحاضرة وتحيي الأمل في قلوبهم لاستعادة مجدها الغابر، ولتحيي طاقاتها المعطَّلة .

إن هذه الإعمال الدرامية هي بمثابة معاول هدم تستهدف تلويث الحضارة الإسلامية الناصعة وتشويهها، والتأثير بذلك على عقول الناس، ولا سيما الأجيال الشابة التي تتابع هذه المسلسلات، للتعرف على تاريخ الأمة وخلفائها وقادتها، ممن تفانوا خلال حياتهم في خدمة الإسلام، ورفعوا رايته في الخافقين.

و"سليمان القانوني" ليس مَلَكًا منزَّها، بل هو بشر يصيب ويخطئ، يسئ ويحسن، ولكن، ليس بالقدر الذي تم تصويره في المسلسل.

ويكفي لهذا البطل شرفًا أن دولة الإسلام وصلت لأعظم قوة لها في التاريخ أثناء خلافته، ويكفيه عزّا أنه ختم حياته مجاهدا ومحاربا لأعداء الإسلام، وعمره 74 عاما لم يتأخر يوما واحدا عن الجهاد.

فرحمه الله وقد كان يبدأ رسائله لملوك العالم دائما متأسيّا بنبي الله سليمان عليه السلام:  "إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم".

عن الكاتب

سمية حساني

طالبة علم ومدونة من الجزائر، ماستر علوم إسلامية تخصص دعوة وإعلام واتصال، أهوى القراءة وتروق لي الكتابة.. مهتمة بالتاريخ الإسلامي وصناعة الأفلام. هواياتي: تعلم اللغات، التصوير..


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس