ترك برس

يقول الباحث في التاريخ والتراث الإسلامي "محمد شعبان أيوب"، إن علاقة المفكر العربي الشهير "الجاحظ" (أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني البصري) مع الأتراك، بدأت حين اقترب من الثقافة التركية، وتعمّق فيها، وبلغ إلى حد لم يبلغه أحد ممن كان في عصره حتى صار مسموع الكلام في هذا الباب.

وبحسب ما يذكره الباحث في تقرير بموقع "ميدان" التابع لشبكة الجزيرة، فإن الجاحظ "ألف رسالة مستقلة في موضوع الترك تُعطي لنا فكرة مهمة وجامعة عن الأتراك في عصره في الربع الأخير من القرن الثاني الهجري والنصف الأول من القرن الثالث الهجري/التاسع الميلادي".

وأبو عثمان عمرو بن بحر الكناني البصري، المشهور بالجاحظ، هو واحد من أذكياء عصره علما وأدبًا، وغزاة تأليف، ولد في البصرة جنوب العراق سنة 150هـ/767م، وقد توفي فيها بعد رحلات وأسفار وعُمر مديد، سنة 255هـ/ 869م.

ويُشير التقرير إلى أن الجاحظ أُعجب بالعِرق التركي على خلاف الفرس، ففي كتابه "البخلاء" يحمل الرجل حملة شعواء على الفرس وأخلاقهم، لكنه في رسالته "فضائل الترك" يسير على النقيض من ذلك، ويبدو أن الدافع الذي حمله على ذلك كان العطاء والهدايا في المقام الأول، فالترك الذين بدأ نجمهم يبزغ مع المأمون والمعتصم كانوا قد أصبحوا بمرور الوقت القادة العسكريين، وأصحاب الأموال والمناصب الكبرى في الدولة العباسية.

بل إن بعض هؤلاء الأتراك بلغوا مكانة مرموقة في مناصب مدنية غير عسكرية، وبزّ منهم عدد من الكُتّاب والأدباء مثل أبو يعقوب الخريمي، وإبراهيم بن عباس الصولي، والفتح بن خاقان التركي، وقد كان هؤلاء الأتراك مدنيهم وعسكريهم يوسعون في عطاء الجاحظ والإغداق عليه.

لكن بعيدًا عن الطبقة العليا من رجال الجيش والأدب -يضيف الباحث- فإن بغداد في ذلك العصر قد فتحت ذراعيها لكل الأجناس والأعراق، وكانت عاصمة عالمية وإسلامية جامعة تقاطر الناس عليها من كل حدب وصوب، ومنهم الأتراك من وسط آسيا وقد جالسهم الجاحظ، واستمع لقصصهم وحكاياهم، وراقب أخبارهم وأفعالهم وخصالهم، ودوّنها بمزيد من الإعجاب؛ لذا فإن الدافع المادي لم يكن هو الوحيد في رسالته عن فضائل الأتراك، فقد كان الرجل مقتنعا في قرارة نفسه بهذه الفضائل.

ويوضح التقرير أن مِن علية القوم الذين حظي الجاحظ بمنادمتهم وصحبتهم، الفتح بن خاقان التركي الذي كان وزيرا للخليفة العباسي المتوكل على الله بن المعتصم بن هارون الرشيد؛ فقد كان الفتح من أكبر وزراء الدولة، وأقرب المقربين من الخليفة، وكان على الجانب الآخر شديد الولع بالإنتاج الثقافي والمعرفي في بغداد في عصره.

فقد كانت داره مهبط العلماء، ومنزل البلغاء، وفصحاء العرب وعلماء البصرة والكوفة، وكان ممن غشي هذه المجالس الجاحظ، فأبدى الرجل براعة في الأدب وسعة العلم كدأبه، وقد أعجب به الفتح، وبادله الجاحظ ذات الشعور، فألف له رسالته التي نحن بصددها "في مناقب الترك وعامة جند الخلافة".

ويورد التقرير قول الجاحظ بإعجاب للفتح بن خاقان: "وفقك الله لرشدك، وأعان على شكرك، وأصلحك وأصلحَ على يديك، وجعلَنا وإياك ممن يقول بالحقّ ويعملُ به، ويُؤثره ويحتمل ما فيه مما قد يصدّه عنه، ولا يكون حظّه منه الوصف له والمعرفة به، دون الحثّ عليه... وقد أعجبني ما رأيتُ من شغفك بطاعة إمامك، والمحاماة لتدبير خليفتك، وإشفاقك من كل خلل وخلّة دخل على مُلكه وإن دقّ، ونال سُلطانه وإن صغر ... وقد استدللتُ بالذي أرى من شدة عنايتك، وفرط اكتراثك، وتفقّدك لأخابير الأعداء، وبحثك عن مناقب الأولياء".

بادلَه الوزير ذي الأصل التركي المودة، وسعى لأن يكون الجاحظ أحد المقربين من الخليفة العباسي نفسه، وقد أرسل له رسالة تكشف ما وصلت إليه العلاقة من المودة والقربى، يطالبه بالإسراع في الانتهاء من تأليف كتابه "الرد على النصارى"، يقول الفتح: "إن أمير المؤمنين يجدّ بك، ويهشّ عن ذكرك، ولولا عظمتك في نفسك لعلمك ومعرفتك، لحال بينك وبين بعدك عن مجلسه، ولغصبك رأيك وتدبيرك فيما أنت مشغول به ومتوفر عليه ... فاعرف لي هذه الحال، واعتقد هذه المنّة، على كتاب الرد على النصارى، وافرغ منه، وعجّل به إليّ، وكن من جدا به على نفسه".

ولم تتوقف العلاقة بين الرجلين عند الصداقة والتعهد بالأعمال الثقافية الجليلة، بل تعدتها إلى الرفقة، فقد اختار الوزير التركي الفتح بن خاقان صديقه الجاحظ رفيقا في سفره لتفقد الأوضاع في بلاد الشام ومصر سنة 243، 244هـ، فزادت هذه الأسفار الجاحظ في الآفاق اطلاعا وسعة معرفة، بحسب الباحث.

يرى الجاحظ أن الأتراك قوم مباشرون لا يحبون "اللف والدوران" في تعاملهم مع بعضهم ومع الآخر، يقول: "الأتراك قوم لا يعرفون الملَق ولا الخلابة ولا النفاق ولا السعاية ولا التصنّع ولا النميمة ولا الرياء ولا البذخ على الأولياء، ولا البغي على الخلفاء، ولا يعرفون البدع ولم تُفسدهم الأهواء، ولا يستحلّون الأموال على التأوّل". لكن مما يؤخذ عليهم، وهي ميزة في ذات الوقت "الحنين إلى الأوطان، وحب التقلّب في البُلدان".

ويتفق الجاحظ مع الرأي القائل أن الأتراك قوم شجعان، فـ"التركي لا يخاف إلا مخوفا، ولا يطمع في غير مطمع، ولا يكفّه عن الطلب إلا اليأس، ولا يدع القليل حتى يُصيب أكثر منه، وإن قدّر أن يجمعهما لم يفرّط في واحد منهما، والباب الذي لا يُحسنه لا يُحسن منه شيئا ... على أن نومه مشوبٌ باليقظة، ويقظته سليمة من السِّنة".

لقد تمنى الجاحظ أن لو كانت بلادهم قد استقبلت الحكماء والأنبياء منذ قديم الزمان، وأن لو تغشّاها العلماء لصارت حضارة راسخة لميزة طباع الأتراك، فـ"لو كان في شقّهم (أرضهم) أنبياءُ وفي أرضهم حكماءُ، وكانت هذه الخواطرُ قد مرّت على قلوبهم وقرعت أسماعهم لأنسوكَ أدب البصريين، وحكمة اليونانيين، وصنعة أهل الصين".

لقد اتفق الجاحظ أيضا مع الرأي القائل أن الأتراك قوم محبون لركوب الخيول، عاشقون لظهورها، ينقل عن أحدهم قوله ويتفق معه بأنه "لو حصلتَ عُمر التركي، وحسبت أيامه لوجدتَ جلوسه على ظهر دابّته أكثر من جلوسه على ظهر الأرض"! وهم قوم قانعون بأرزاقهم، محبون أن يكون طعامهم من كسب أيديهم.

يقول الجاحظ: "أما التركي فلأن ينال الكفاف غصبا أحبُّ إليه من أن ينال المُلك عفوًا، ولم يتهنّ تركي بطعام إلا أن يكون صيدًا أو مغنمًا ولا يُعزّ على ظهر دابته طالبًا أو مطلوبًا". وهم مع حبهم لهذه الحرية والانطلاقة في البرية خلف الصيد والطعن، عاشقون لأوطانهم؛ فإذا كانت محبة الوطن فطرة جُبل عليها الناس كافة، فإن "ذاك في الترك أغلب، وفيها أرسخ".

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!