ترك برس

في ضوء التقارب الأخير بين تركيا وروسيا وإيران في سوريا، والاتفاق بينهما على التعاون بشأن محافظة إدلب، حاول الباحث سونير جاغيتاي، مدير مركز الأبحاث التركية في معهد واشنطن في مقال له نشره موقع المعهد، الإجابة عن السؤال التالي: هل يمكن لتركيا أن تصبح صديقا حميما، أو حتى حليفا، لإيران وروسيا في سوريا وخارجها؟

ويشير جاغيتاي في مطلع مقاله إلى أن سياسة تركيا تاريخيا مع الدول المجاورة التي يبلغ عددها 12 بلدا تتوزع على مجموعات تساعد على تفسير توجه أنقرة الحالي. فطوال ستة قرون من الحكم العثماني (1299-1923)، هزم الأتراك جميع جيرانهم وحكموهم، باستثناء روسيا وإيران. وقد عظّمت هذه المقاومة هاتين الدولتين الكبيرتين من حيث عدد السكان في نظر تركيا المعاصرة وكذلك في الرؤية العالمية لسياسة تركيا الخارجية.

خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، لم تنجح روسيا في تفادي فتوحات العثمانيين فحسب، بل هزمتهم مرات عديدة، مشعلة غالبا فتيل مثل هذه الحروب. فضلا عن ذلك، ساهمت السياسات الروسية بطرق عديدة في تراجع الامبراطورية العثمانية بدءا من القرن التاسع عشر.

ونتيجة لهذه الحروب، استحوذت روسيا من العثمانيين على أراض شاسعة، وذات أغلبية تركية ومسلمة في معظم الأحيان، حول البحر الأسود، وأجزاء كبيرة من شمال القوقاز وجنوبه.

وفي البلقان، دعم القياصرة الروس حركات قومية في أوساط اليونانيين والبلغاريين والصرب والرومانيين، حيث ساعدوهم على الانفصال عن الامبراطورية العثمانية، مما أدى في النهاية إلى انسحاب شبه كامل للعثمانيين من أوروبا.

ويفسر كل ذلك قلق تركيا التاريخي المتجذر من روسيا، والسرعة التي تحركت فيها أنقرة لكي تصبح عضوا في حلف شمال الأطلسي عند بداية الحرب الباردة، عقب مطالبة جوزيف ستالين عام 1946 بأراضي من تركيا. ومنذ انضمام تركيا إلى الحلف عام 1952، شكل الناتو حجر الأساس للأمن التركي في وجه روسيا.

كما ساد الخوف من روسيا في تركيا لأسباب شخصية وتاريخية. فحين استحوذ القياصرة على الأرض العثمانية، كانوا في أغلب الأحيان يقومون بتطهير عرقي من السكان الأتراك والمسلمين، مرغمين بالتالي الناجين على الفرار إلى تركيا على مدى عدة العقود.

وفي القرن التاسع عشر، على سبيل المثال، حين استولى الروس على منطقة شمال القوقاز من العثمانيين، طردوا السكان الشركس الأصليين – أي حوالى مليون شخص – إلى أراضٍ كانت لا تزال تحت سيطرة العثمانيين.

وفي ذلك الوقت، كان عدد السكان المسلمين الأتراك في تركيا الحديثة يناهز 10 ملايين نسمة. كما أرغمت روسيا عدداً كبيراً من الجماعات التركية والمسلمة الأخرى، مثل الشيشان من شمال القوقاز والتتار من شبه جزيرة القرم، إلى التوجه نحو الامبراطورية العثمانية. ويشكل المواطنون الأتراك الذين ينحدرون من أولئك الذين طردهم الروس قاعدةً انتخابية كبيرة، ما يُضاف إلى الصدمة التاريخية والخوف الناجم عنها – والكراهية – التي يشعر بها الأتراك تجاه روسيا.

أما العلاقات التركية مع إيران فتختلف اختلافاً كبيراً تاريخيا عن العلاقات التركية- الروسية. فقد أصبحت الامبراطوريتان العثمانية والفارسية مجاورتين في القرن الخامس عشر حين بدأتا تتناحران لفرض سلطتهما على ما أصبح يُعرف الآن بشرق تركيا وغرب إيران.

وبعد خوض حروب منهكة وغير حاسمة طوال 166 عاماً (بين عامي 1473 و 1639)، انتهت بإفلاسهما – أي نسخة القرن السابع عشر من التدمير المتبادل والمؤكد – توصل الأتراك والإيرانيون إلى تعادل تاريخي للقوى، حيث اتفقوا على تجنب أي صراع مستقبلي مهما كان الثمن.

وما يزال هذا التعادل في القوى يوجه علاقات أنقرة مع طهران. وبناء على ذلك، وباستثناء بعض الحروب التي اندلعت في جميع أنحاء العراق خلال القرن التاسع عشر بين العثمانيين وسلالة القاجار وبعض مقايضات الأراضي في القرن العشرين، كانت الحدود التركية- الإيرانية الأكثر استقراراً في الشرق الأوسط، حيث إنها تقترب عموماً من الحدود الأصلية التي تمّ ترسيمها عام 1639.

ويخلص الباحث إلى أن سياسة أنقرة الخارجية إزاء موسكو وطهران قائمة على الخوف والحذر على التوالي. أما الروس فيتخذون موقفاً معاكساً، حيث يعتبرون تركيا دولة مجاورة “صغيرة ومزعجة” تأثرت غالبا بجبروت روسيا وعقابها.

ويضيف أن روسيا من هذا المنطلق  تنظر بازدراء إلى سياسات تركيا في سوريا، حيث كانت أنقرة تحاول الإطاحة بنظام الأسد المدعوم من موسكو، وستبذل كل ما بوسعها لضمان عدم خروج تركيا منتصرةً من الحرب الأهلية السورية.

ويتمثل الهدف النهائي للرئيس الروسي فلاديمير بوتين في سوريا بإهانة أنقرة من أجل تذكير الأتراك لماذا يجب أن يهابوا الروس دوماً. وهذا يشرح، من جملة سياسات روسية أخرى، السبب الذي دفع موسكو إلى إقامة علاقات مع وحدات حماية الشعب الكردية في سوريا، وهي جماعة متحالفة بشكل وثيق مع حزب العمال الكردستاني في تركيا الذي حاربته أنقرة خلال السنوات القليلة الماضية.

وفي حين بنت واشنطن بدورها علاقة مع "وحدات حماية الشعب" ضد تنظيم الدولة الإسلامية ، ينحصر تعاون الولايات المتحدة مع الجماعة الكردية في مناطق سورية، مثل الرقة، بوجود تنظيم داعش.

ومن ناحية أخرى، وبخلاف السياسة الأمريكية، يبرز تعاون روسيا مع وحدات حماية الشعب في المناطق السورية الخالية من عناصر تنظيم الدولة (داعش)، على غرار جيب عفرين الخاضع لسيطرة هذه «الوحدات» والذي تحيط به تركيا من الغرب والشمال، والمتمردون المدعومون من تركيا من الشرق والجنوب.

ومن الواضح أن انخراط روسيا مع وحدات حماية الشعب معادٍ لتركيا. وبصرف النظر عن الترتيبات المؤقتة التي قد تتوصل إليها موسكو مع تركيا في سوريا، ستستخدم روسيا على المدى الطويل  كثيرا من حلفائها ووكلائها هناك لتقويض مصالح أنقرة.

وفي حين لم تتخذ إيران موقفا معاديا علنيا تجاه تركيا في سوريا، تعد طهران دعم أنقرة للمتمردين الذين يحاربون النظام المدعوم من إيران انتهاكاً لاتفاق تعادل القوى التاريخي بين البلدين.

وبالفعل، فإن الدعم الذي يوفره الطرفان إلى وكلاء متناحرين في سوريا يجعل هذه الحادثة الأقرب في الذاكرة الحديثة إلى الصراع المباشر بين أنقرة وطهران. وفي هذه المرحلة، ستحاول طهران، التي تتنامى حظوظها وحلفاؤها في سوريا، استعادة التعادل التاريخي في القوى مع أنقرة – بشروطها الخاصة.

غير أنه من وجهة نظر إيران، ستتطلب هذه الاستعادة وقفا تاما للدعم الذي تقدمه تركيا إلى المتمردين المناهضين للأسد. وفي هذا السياق، فإن كل خطوة تتخذها إيران في سوريا وتتعلق بتركيا تخدم الهدف الإيراني الأوسع الرامي إلى استعادة تعادل القوى تقر بموجبه تركيا بهيمنة إيران وبشكل أكثر علنيةً حتى روسيا، على سوريا.

ويتمثل السيناريو الوحيد الذي قد تُغير في إطاره تركيا نظرتها التاريخية لروسيا وإيران بقطع العلاقات مع حلف الناتو. وفي الوقت الراهن، يتطلب هذا الاحتمال البعيد المنال مزيجا من العقبات والظروف السيئة.

ومع ذلك، فمنذ توليه الحكم في أنقرة عام 2002، أظهر «حزب العدالة والتنمية» بزعامة أردوغان معاداته للولايات المتحدة. وفي الوقت نفسه، أدت السياسات الأمريكية في العراق وسوريا، من بينها التعاون مع وحدات حماية الشعب، إلى ردود فعل ساخطة من قبل الأتراك ضد الأمريكيين امتدت خارج الدوائر الإسلامية الأساسية لحزب العدالة والتنمية.

إن الأحداث المفاجئة في سوريا، مثل تبادل “النيران الصديقة” بين القوات التركية والأمريكية أو وكلائها، أو استخدام «حزب العمال الكردستاني» أسلحة أمريكية الصنع ضد تركيا كان قد استحوذ عليها  من حزب الاتحاد الديمقراطي، قد تُسرّع اندلاع أزمة ثنائية

وقد يلي ذلك موجة غضب معادية للأمريكيين ولحلف الناتو قد يصعب كبحها، مما يرغم أنقرة في النهاية على اتخاذ القرار التاريخي باعتماد نظرة أكثر إيجابية تجاه إيران وروسيا على السواء.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!