د. علي حسين باكير - القدس الألكتروني

بين الفينة والأخرى، يعود الحديث عن موقف الحكومة التركية من الأسد ونظامه الى الواجهة من دون سبب وجيه أو تحوّلٍ يشي بوجود تغييرات تبرّر مثل هذا الطرح باستثناء الحسابات السياسيّة للأطراف التي تطرح هذا الأمر. على الصعيد الداخلي، تستغل أحزاب المعارضة التركيّة عملية «غصن الزيتون» ضد مسلحي الميليشيات الكرديّة في عفرين من أجل مطالبة الحكومة بالتواصل مع النظام السوري

وفي هذا السياق، انتقد كيليتشدار أوغلو، زعيم حزب الشعب الجمهوري، أكبر أحزاب المعارضة، السياسة الخارجية لبلاده، كما جدّد دعوته الحكومة التركية خلال كلمه له الأسبوع الماضي، إلى التواصل مع نظام بشار الأسد في سوريا، وإقامة علاقات معه، قائلا «إذا كنا نرغب في تأسيس السلام بسوريا، وإذا كنا نريد أن نكون لاعبين أساسيين في الساحة السورية، فعلينا التواصل مع بشار الأسد».

زعيم المعارضة التركية ذهب أبعد من ذلك عندما أكّد أنّه يدرس إمكانية إجراء زيارة رسمية إلى الأراضي السورية، وذلك لإقامة قناة اتصال مباشر مع حكومة الأسد. وفي موازاة ذلك، يقوم بعض كتّاب الرأي في الصحف التركيّة بتبنّي الموقف نفسه وبالدفع في الاتجاه عينه، مطالبين الحكومة بالتواصل مع نظام لأسد، ومعلّلين طلبهم هذا في الغالب بالرغبة في الحد من سقوط الجنود الأتراك وارتفاع عدد القتلى والجرحى بين صفوفه. وعلى الرغم من اتهام أطراف عدّة من المعارضة للحكومة ولحزب العدالة والتنمية باستغلال عملية «غصن الزيتون» لأغراض سياسية وانتخابية، وهو الامر الذي ينفيه المسؤولون الأتراك بشدّة، فإنّ توجّهات المعارضة التي تطالب الحكومة بالتواصل مع نظام الاسد تشير الى انّ مثل هذا الاتهام لا يسقط عن المعارضة نفسها.

حسابات داخلية وخارجية
الحسابات الداخلية تبدو حاضرة في صلب أجندة المعارضة التي تستغل الحملة العسكرية للتركيز على ما تقول انه فشل في السياسات الخارجية الحكومية وتحديداً في الملف السوري. هناك اهتمام متزايد لدى خصوم الحزب الحاكم ــــ على ما يبدو ــــ لخلق حالة شعبية معارضة للعمليات العسكرية على الطرف الآخر من الحدود مع سوريا. ويعتقد هؤلاء انّه كلما تزايد عدد قتلى وجرحى القوات المسلحة التركية في عفرين، أصبح من الممكن استثمار هذا الأمر، خاصّة إذا ما استغرقت العملية كثيراً من الوقت.

الى جانب البعد الداخلي للمسألة، لا يخلو الأمر ـــ كذلك ـــ من حسابات خارجية، حيث يتم بين الحين والآخر إعادة فتح ملف الموقف التركي من الأسد ونظامه على شكل «بوالين» اختبار وتساؤلات من قبيل «هل غيّرت أنقرة موقفها من الأسد؟»، «أنقرة تبدو أقلّ حدّة في موقفها من الأسد ونظامه»، «أنقرة قد تقبل بقاء الأسد»، «أنقرة تتفادى إعطاء موقف واضح بشأن مصير الأسد».. إلخ.

موقف الرئاسة واضح
لا تعكس هذه التساؤلات وقائع جديدة أو مستجدة في موقف تركيا من نظام الاسد، بقدر ما تعكس «أمنيات» أو «مطالب». وعندما نتحدّث عن الموقف التركي هنا، فإننا نشير الى موقف رئاسة الجمهورية التي تعتبر المسؤول الأساسي والرئيس في الموضوع. لا شك في انّ لوزارة الخارجية ورئاسة الوزراء موقفاً من هذا الملف أيضاً، لكنّ موقف رئاسة الوزراء على وجه الخصوص غالبا ما يُستخدَم لتخفيف حدّة الموقف التقليدي لرئاسة الجمهورية، لا لأن يستبدله او يحل محلّه.

فمن جانبها، تشدّد الرئاسة التركيّة على موقفها التقليدي الرافض الأسد ونظامه، وترى انّه لا حاجة ولا ضرورة للتعامل معه في جميع الأحوال. نهاية الشهر الماضي، أكّد المتحدث باسم الرئاسة إبراهيم كالين أن تواصل أنقرة مع نظام الأسد «أمر غير وارد»، مشدداً على أنه «لا يمكن لظالم أراق دماء شعبه أن يساهم في إنشاء مستقبل لسوريا». أمّا الرئيس اردوغان فقد شدّد بدوره في تصريحات هذا الشهر على انّ الأسد لا يمكنه أن يكون جزءًا من الحل السياسي في سوريا، مضيفا انّ الأسد دمّر سوريا وقتل حوالي مليون من السوريين وانّ عليه الانسحاب من اللعبة».

ترتيب الأولويات
يؤكد المسؤولون الاتراك دوماً انّ هذا هو موقف بلادهم الرئيس من الأسد ونظامه، فتركيا ترى انّ الأسد هو السبب الرئيس في المشاكل المتفرّعة عن الأزمة السورية، ولا تزال تؤكّد أنّ بقاءه لن يساعد على الوصول الى الحل النهائي فضلاً عن استدامته. هذا معطى ثابت بالنسبة الى الجانب التركي، لكنّ هناك معطى آخر أيضاً وهو المعطى المتحرّك الذي يتعلّق بترتيب الاولويات الطارئة في الملف السوري.
خلال العامين الماضيين، تقدّمت الميليشيات الكرديّة على سلّم أولويات الحكومة التركية لتحلّ محلّ الأسد، ويعتقد البعض انّ ذلك مردّه الى ثلاثة عوامل رئيسة، هي:
أولاً: سيطرة روسيا وإيران على الملف السوري، وهما من داعمي الأسد الرئيسيّين، وذلك بعد أن نقلت واشنطن أجندة حلفائها من التركيز على الأسد الى التركيز على تنظم داعش، الامر الذي أدى الى تغيّر أولويات معظم الدول التي كانت تقف الى جانب تركيا والى إنقاذ الأسد ونظامه من السقوط، وتسليم الملف السوري الى موسكو وطهران.

ثانياً: أنّ وضع أنقرة خلال العامين الماضيين لم يعد يسمح لها بفرض ما تريده على الآخرين في الموقف من الاسد، فضلاً عن ترجمة هذا الموقف الى فعل يؤدي الى إخراجه من المعادلة، لا سيما بعد الاصطفافات التي جرت نتيجة للمعطى السابق. بمعنى آخر، بغض النظر عن موقف أنقرة من الأسد، فانها لم تعد قادرة وحدها على جعله أمراً واقعاً على الأرض. لا يعني ذلك الموافقة على بقاء الأسد او التواصل مع نظامه، ولكنّه يعني انّ أنقرة لا تمتلك ما تستطيع به او من خلاله ان تفرض موقفها.

ثالثاً: أنّ نظام الأسد لم يعد يشكّل تهديداً حقيقياً مباشراً على الأمن القومي التركي على المستوى الاستراتيجي بالشكل الذي أصبحت تمثّله ميليشيات (PYD/ YPG) الكردية.

الأسد أصل المشكلة
من هذا المنطلق، فان قرار الحكومة التركية تجاهل الأسد لا يعني القبول به، اذ على الرغم من هذه الوقائع، فان المسؤولين الأتراك لا يزالون يرفضون التواصل مع النظام السوري بأي شكل من الأشكال، ويرون أنّ التواصل مع طهران وموسكو يغني عن التواصل مع الأسد، وذلك على الرغم من الجهود الحثيثة للجانبين الايراني والروسي لجسر الهوّة مع تركيا بخصوص الموقف من الأسد عبر محاولات اقناع أنقرة بفوائد إعادة العلاقة مع النظام السوري ــــ لا سيما من الناحية الأمنية ــــ وهو الدور نفسه الذي تحاول المعارضة التركيّة أن تلعبه مؤخراً.

لكن هذا النوع من النقاش يتجاهل أنّ الأسد تسبب في الثورة السورية وفي الخراب والدمار اللذين حلا بالبلاد، فضلاً عن الكوارث البشرية والإنسانية التي اصابت الشعب السوري، وما حملته من انعكاسات على دول الجوار، وما تبعه من تداعيات أمنيّة داخل سوريا وفي محيطها الإقليمي؛ كبروز «داعش» والميليشيات الشيعية والكرديّة. من فعل ذلك مرّةً، باستطاعته ان يفعله كل مرة، وهو ما يعني أنّه لا جدوى حقيقةً من إعادة العلاقة مع نظام من هذا النوع، خاصّة أنّ نظام الأسد لا يزال مسؤولاً في أعين كثير من الأتراك عن عدد من التفجيرات التي هزت البلاد، سواء بشكل مباشر من خلال مخابراته، او بشكل غير مباشر عبر الميليشيات الكردية.

النظام السوري استخدم الاكراد مراراً وتكراراً سلاحاً ضد تركيا. الأسد الاب كان يدرّب عبدالله اوجلان ومقاتليه في البقاع اللبناني في الثمانينات من القرن الماضي، وكاد احتضانه لاوجلان يتسبّب في اندلاع حرب بين البلدين في التسعينات. وكما الاب، فإن الأسد الابن، استخدم ويستخدم الآن الفرع السوري من حزب العمّال الكردستاني (PYD) ضد تركيا، وبالتالي فان إعادة العلاقة معه لن تحل المشكلة، وانما ستعطيه القدرة على استثمارها دوماً تصعيداً او تخفيفاً، وليس هذا هو ما يريده الأتراك بالضبط، فالجانب التركي يسعى الى القضاء على حلقة الوصل بين الطرفين وعلى الرابط بينهما من خلال إزالة التهديد المباشر على الحدود التركية ــــ السورية، وتقويض مشروع الميليشيات الكردية.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس