د. علي حسين باكير - عربي 21

أعلنت وزارة الدفاع التركية أمس عن وصول الدفعة الأولى من منظومة "أس400" الروسية إلى أنقرة، ومن المنتظر أن تستمر عملية التسليم خلال الأيام المقبلة وفق جدول زمني متّفق عليه مسبقاً بين الطرفين.

وكانت وزارة الخارجية الأمريكية قد واصلت تحذيراتها مؤخراً من أنّ استكمال الصفقة سيؤدي إلى فرض عقوبات أمريكية شديدة ضد تركيا.

ويُصنّف نظام الدفاع الصاروخي "أس400" على أنّه الأكثر تطوراً وتعقيداً في العالم، أو هذا ما يمكن قوله عنه من الناحية النظرية على الأقل، فالنظام لم يُختبر عملياً في معارك حقيقيّة، لكن الخبراء يقولون إنّه قادر على تغطية مدى يبلغ حتى 800 كلم ويتابع حوالي 80 هدفاً في الوقت عينه، وهو مصمم ليكشف ويلاحق ويدمّر أي طائرة جويّة. 

تعتبر تركيا ثاني أكبر قوة عسكرية في حلف شمال الأطلسي بعد الولايات المتّحدة الأمريكية، وبالرغم من ذلك فهي تعاني من ثغرة كبيرة في نظامها الدفاعي الجوّي، إذ لا تمتلك البلاد نظاماً دفاعيا استراتيجياً (أرض-جو)، وتعتمد بشكل أساسي تركيا على الغطاء الذي يوفّره حلف شمال الأطلسي من خلال نظام باتريوت الأمريكي.

لا يغطّي نظام باتريوت كامل الأراضي التركية، ولذلك كان هناك حاجة مستمرة لدى أنقرة للحصول على منظومة محلّية مستقلّة، لكن مثل هذا الهدف يحتاج إلى وقت وإلى تطوير قدرات محلّية، فكانت الخطوة الأولى هي التفكير في شراء نظام يتضمّن إنتاجاً مشتركا أو نقلاً للتكنولوجيا. 

رفضت الولايات المتّحدة بيع نظام باتريوت إلى أنقرة، فاتجهت تركيا إلى الصين لشراء منظومة دفاعية لكن الولايات المتّحدة رفضت الصفقة وضغطت على أنقرة للتخلي عنها. وكشف تدهور الوضع في سوريا عن غياب الإرادة السياسية لدى حلف شمال الأطلسي للدفاع عملياً عن تركيا في وجه الهجمات الصاروخية القادمة من الأراضي السورية أو في وجه خروقات مقاتلات روسيا للأجواء التركية بعد تدخّلها عسكريا في سوريا في العام 2015. وقامت واشنطن حينها بسحب عدد من بطاريات الحلف المنشورة على الأراضي التركية في خضم الاشتباك التركي-الروسي ممّا وسّع من الثغرة الدفاعية.

بعد أن طبّعت أنقرة وموسكو علاقاتهما، اتجهت تركيا إلى شراء منظومة "أس400" من روسيا. جزء من هذا التوجه كان يحمل دوافع عسكرية كما شرحنا لتغطية الثغرة الدفاعية الموجودة وتخطّي الفيتو الأمريكي أيضاً. بمعنى آخر كانت تركيا تحاول التخلّص من الارتهان إلى الولايات المتّحدة، ففي نهاية المطاف الصفقة تضمّنت سعراً مناسبا لتركيا مع تسهيلات في عمليّة الدفع، ونقلاً جزئيا للتقنية وإنتاجاً مشتركاً وكلها شروط مناسبة لتركيا. لكن من جهة أخرى كان هناك هدف سياسي أيضاً في ظل غياب الدعم الأمريكي وهو تحييد المخاطر العسكرية الروسية على الأمن التركي من خلال التقارب مع موسكو.

الولايات المتّحدة لم تكن تعتقد أنّ الصفقة حقيقيّة أو أنّها ستتم بالفعل، بل كانت تؤمن أنّ أحد الطرفين الروسي والتركي أو كليهما يراوغان فقط، لذلك لم تتحرّك أمريكا لتزويد تركيا بما يغنيها عن المنظومة الروسية إلى أن أدركت أنّ الصفقة أصبحت أمراً واقعاً، حينها وبدلا من أنّ تقدّم صفقة مغرية لأنقرة، قامت في اللحظات الأخيرة بتقديم عرض سيئ لصفقة باتريوت. هذه الصفقة كانت مرتفعة السعر ولم تشمل نقل تكنولوجيا وحتى لو وافقت أنقرة عليها فإنّ تنفيذها كان سيتطلب سنوات وتستطيع واشنطن خلال هذه الفترة إيقاف الصفقة في أي لحظة أو إلغاءها تماماً كما تفعل في صفقة (أف-35) الآن.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقط، بل هددت واشنطن بفرض عقوبات على أنقرة إذا لم تتخلّ عن الصفقة الروسية. بمعنى آخر، تريد الولايات المتّحدة من تركيا أن تتراجع عن الصفقة دون أن يتم تقديم أي شيء في المقابل!

من وجهة نظر تركيا، التراجع عن الصفقة في هذه المرحلة يعني أنّها لن تحصل على شيء من الولايات المتّحدة، وحتى لو حصل على صفقة في المقابل، فلا شيء يستطيع منع واشنطن من إيقافها أو إلغائها أو استخدامها كورقة ابتزاز. فضلاً عن ذلك، فإنّ العلاقة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ستسوء جداً على اعتبار أنّ الأخير كان قد تدخّل شخصياً لجعل الصفقة أمراً واقعاً ولتسريع عملية تسليمها، وإذا ما قرر الانتقام من أنقرة، فإنّ وضعها في سورياً سيتدهور سريعاً وقد تجد نفسها قد خرجت من اللعبة بخفّي حُنين في أفضل الأحوال. 

لذلك، يأمل الجانب التركي ألاّ تؤدّي هذه الصفقة إلى عقوبات أمريكية استنادا إلى اجتماع الرئيسين الأمريكي والتركي على هامش قمّة الدول العشرين التي عقدت في اليابان، لكن وزارة الدفاع الأمريكية ووزارة الخارجية والكونغرس يؤكّدون أنّ موقفهم لن يتغير وسيكون هناك عقوبات على أنقرة، كما سيتم إخراجها من برنامج التصنيع المشترك لمقاتلات (أف-35)، وإذا ما حصل ذلك فعلاً فقد تصبح صفقة "أس400" مكلفة للغاية سياسياً واقتصادياً.

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس