د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس

اتخذت فكرة المقاومة الإسلامية مظهرها العملي مُنذ سنة (491 هـ/1097 م) حيث قام قوام الدولة كربوقا صاحب الموصل بجمع ما استطاع جمعه من العساكر بقصد منع إنطاكية من السقوط بيد الصليبيين، ولكن كربوقا لم يلبث أن توقف في الطريق حيث حاصر الرُّها لمدة ثلاثة أسابيع، فأعطى بذلك فرصة كبيرة للصليبيين جدُّوا فيها لفتح إنطاكية، وقد تمَّ لهم ذلك، ولو أنَّ كربوقا أنفذ إلى إنطاكية مباشرة لأسلمه ياغي سيان مدينة إنطاكية، وتغيرت ظروف المحاصرين ، ولكن كربوقا رفع الحصار عن الرُّها حين سمع بسقوط إنطاكية بيد الصليبيين، وعبر الفرات إلى الشام، وأقام بمرج دابق حيث اجتمع هناك مع دقاق بن تتش صاحب دمشق، وظهير الدين طغتكين أتابك دقاق، وجناح الدولة حسين صاحب حمص، وأرسلان تاشي صاحب سنجار، وسقمان بن أرتق صاحب بيت المقدس، وغيرهم من الأمراء، ممَّن ليس مثلهم في القدوة والكفاية على حد قول ابن الأثير .(ابن الأثير،1978،ج8،ص400)

وانضم الأمراء جميعاً تحت قيادة كربوقا، وسار بهم صوب إنطاكية في سنة (491 هـ/1097 م) ، التي كانت قلعتها لا تزال في أيدي المسلمين، فاقتربوا منها، وشدَّدوا عليها الحصار، حتى تغير موقف الصليبيين، وساءت حالتهم؛ إذ وجدوا أنفسهم محاصرين من الداخل والخارج، فتعرضوا لأزمة قاسية بسبب قلة الغذاء، ممَّا اضطرهم إلى أكل الجيف، وأوراق الشجر ،(الغامدي،1986،ص138) ودفع ذلك الصليبيين إلى إرسال وفد إلى كربوقا يطلبون منه الأمان؛ ليخرجوا من إنطاكية، غير أن كربوقا رفض طلبهم، وقال لهم: لا تخرجون إلا بالسيف ، وهذا ما دفع أحد رجال الدين المسيحيين واسمه بطرس «بوشلميوا» إلى اختلاق قصة الحربة المقدسة التي أدت إلى رفع معنويات الصليبيين والتفافهم حول زعمائهم، فقويت نفوسهم على الاندفاع تجاه المسلمين، والخروج من الباب جماعات متفرقة حتى تكامل خروجهم فزحفوا على المسلمين، وهم في غاية من القوة والكثرة، فكسروا المسلمين، وفرقوا جموعهم، وهكذا فشل كربوقا في قيادة التحالف الإسلامي الذي أراد من ورائه منع سقوط إنطاكية في أيدي الصليبيين سنة (491 هـ/1097 م) ، وقد ذكر المؤرخون أسباب فشل كربوقا في منع سقوط إنطاكية في أيدي الصليبيين في الوقت الذي كان فيه الصليبيون قد وصلوا إلى درجة من الضعف والتدهور داخل إنطاكية. ومن هذه الأسباب:

أ ـ ما ذكره مؤرخ أعمال الفرنجة من أن كربوقا صاحب الموصل قد أضاع ثلاثة أسابيع في حصار الرُّها مما مكن الصليبيين من الاستيلاء على إنطاكية، والاحتياط بما عسى أن يطرأ لهم من هجوم مباغت، سواء من المسلمين الذين كانوا داخل قلعة إنطاكية، أو من إخوانهم في بلاد الشام وغيرها .(عمران، 1999،ج2،ص328)

ب ـ عدم وجود تجانس بين قوات كربوقا التي تكونت من العرب والترك وغيرهم، ثم ما قام به رضوان صاحب دمشق من بث روح الشقاق بين العرب والترك.

ج ـ عدم وجود خطة عسكرية واضحة أمام كربوقا، ولعل أبرز ما يوضح ذلك هو عدم رغبة كربوقا في السماح لرجاله بتوجيه الضربة القاضية للصليبيين، وهم يخرجون جماعات متفرقة من إنطاكية! وهذا يعود إلى أن كربوقا كان يخشى على ما يبدو من أنه إذا فعل ذلك فسوف لا يقضي إلا على مقدمة الصليبيين .(عمران،1999،ج2،ص350)

د ـ سوء معاملة كربوقا لمن معه من الأمراء كانت سبباً من أسباب هزيمته وفشله، فقد شرع بنوع من الاستعلاء عليهم: ظناً منه أنهم يقيمون معه على هذا الحال، مما أدى إلى استيائهم من تصرفاته .(الغامدي،1986، ص140)

هـ  ارتفاع الروح المعنوية عند الصليبيين بعد اختلاق قصة الحربة المقدسة، بالإضافة إلى ما قام به زعماء الصليبيين قبل وصول كربوقا إلى إنطاكية من مراسلة دقاق صاحب دمشق، وإخباره بأن مطامعهم لا تتعدى الاستيلاء على ما كان بيد الإمبراطور البيزنطي في شمال الشام ، لا يمنع هذا من القول بأن محاولة كربوقا منع إنطاكية من السقوط بيد الصليبيين كانت نقطة انطلاق في بعث فكرة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين، وكشفت للصليبين عن مدى قوة المسلمين في حالة اتحادهم ، كما أنها رسمت الطريق الصحيح لمن أتى بعده من زعماء المسلمين، الذين أخذوا على عواتقهم حمل لواء الجهاد الإسلامي ليكملوا المسيرة من بعده، وتتمثل هذه الحقيقة إذا علمنا: أن عماد الدين زنكي قد عاش في كنف كربوقا بعد موت والده ، على أن كربوقا صاحب الموصل قد وافته المنية عند مدينة خوى بأذربيجان سنة (495 هـ/1102 م)  أثناء النزاع بين السلطان بركيارق بن ملكشاه، وأخيه محمد بن ملكشاه، فخلت الموصل من أحد الزعماء الذين لم يشغلهم النزاع القائم بين السلاجقة عن مواصلة العمل على بعث فكرة الجهاد الإسلامي ضد الصليبيين .(طقوش،1999،ص62)


مراجع البحث:

علي محمد الصلابي، دولة السلاجقة وبروز مشروع إسلامي لمقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي، مؤسسة إقرا، القاهرة، 2006، صص 699-701

ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ط دار الفكر، بيروت، 1398 هـ  1978 م.

مسفر بن سالم بن عريج الغامدي، الجهاد ضد الصليبيين في الشرق الإسلامي، دار المطبوعات الحديثة، الطبعة الأولى 1406 هـ  1986 م.

محمود سعيد عمران، تاريخ الحروب الصليبية، دار النهضة العربية، بيروت الطبعة الثانية 1999 م.

محمد سهيل طقوش، تاريخ الزنكيين في الموصل وبلاد الشام، دار النفائس، الطبعة الأولى 1419 هـ  1999 م.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس