د. علي محمد الصلابي - خاص ترك برس  

لاشك أن التعمق في القراءات ومقارنة الروايات والوصول للحقائق التاريخية وشرحها بشكل واضح، تعتبر غاية من الغايات المهمة في تعريف الأفراد والشعوب والأمم بماضيها الاجتماعي والثقافي والسياسي والقانوني والحضاري، وإن الموضوعية والحياد هما عاملان من أهم الأسس والشروط التي يجب أن تتوفر في الكُتاب والمؤرخين والباحثين، وهذا ما نحاول مقاربته ما وسعنا ذلك ليس تقرباً من أحد ولا إرضاءً لغايات في النفس – واالله خير شاهد – وإنما هو إرضاء لله تعالى، ومن ثم هو محاولة لحفظ تاريخنا وحضارتنا وقِيمنا وديننا وعقيدتنا من الضياع والتبدد والعبث، وخصوصاً حين يتعلق الأمر بأحداث التاريخ الإسلامي المصيرية، والشبهات التي دارت حوله، إذ كثر الطعن والتشكيك والتشويه لسير خلفائه وسلاطينه وولاته وقادته وأئمته، ورجالات العلم والفكر والمحدثين والدعاة وأهل الإصلاح فيه في سياق الهجمة الشرسة التي تستهدف ماضي الأمة وحاضرها، وأحياناً يكون التشويه غير مقصود من خلال تناول الخبر أو الرواية بانتقائية من قبل أشخاص، فهم ربما قصدوا في طريقتهم الموضوعية في القراءة وفي سردهم التاريخي، ولكن اعتمدوا بعض الروايات دون مقارنة جميعها، وهذا ما يتوجب جهوداً جماعية كبيرة للإنصاف والوصول للحقيقة.  

ولقد نال التاريخ العثماني، والذي هو حلقة من حلقات التاريخ الإسلامي نصيباً وافراً من ذلك الطعن والتشويه والمحاولات لرسم صورة قاتمة حول أهم محطاته والقراءة السطحية لأحداثه، وسأحاول في هذا المقال توضيح وقراءة بعض الحوادث التي مرت بالتاريخ العثماني لنعرف حقيقتها، وكنت قد ذكرتها مع أحداث أخرى في سلسلة تفصيلية حملت عنوان "ممالك النار في ميزان حقائق التاريخ"، وبيَّنت حالة الصراع السياسي على السلطة في العهد العثماني، وحقيقة قانون الدفن، وقضايا قانونية وسياسية وأمنية، وكان ذلك في مقالات نشرها عدد من المواقع، وسأُخصص هذا المقال لمناقشة واقعتين مهمتين في التاريخ العثماني، وهما:

أولاً:التحقيق في مسألة قتل دوندار على يد ابن أخيه عثمان؛ روايات متضاربة ومبررات سياسية

لم يتفق كل المؤرخون الذين أرخوا للدولة العثمانية على وقوع حادثة قتل دوندار من طرف ابن أخيه عثمان بن أرطغرل، معتبرين أن حادثة الإعدام وقعت عندما كان عمر دوندار 100 عام! كما يوجد مؤرخون مثل "ديميتري كانتمير" ممن يعتبرون أن دوندار قد توفي قبل مجيئه على سوكوت. إذن فوقوع هذه الحادثة مشكوك فيه لاعتبارات تاريخية كثيرة (آق كندوز، 2008، ص62)، وحتى المؤرخون العثمانيون المتقدمون نوعاً ما مثل العالم والمؤرخ ابن كمال نقل هذه الحادثة معتبراً إياها إشاعة.

وحتى في حالة ما إذا سلَمنا بالروايات الضعيفة التي تأخذ بهذه الواقعة لا بد أن نضعها في سياقها التاريخي والصراع السياسي في تلك الفترة، فقد حدثت صراعات كبيرة في فترة نشوء الدولة العثمانية، تمثلت أساساً في الصراع على السلطة بين عثمان وعمه دوندار، وبدأت تتضح أكثر الآثار السلبية لهذه النزاعات حيث -حسب الرواية التي ينقلها ابن كمال- امتنع دوندار عن القبض على والي بلجيك البيزنطي لذلك عُد باغياً، ونُفد فيه حكم الإعدام، أيّ أقيم عليه الحد الشرعي، لأنه رفع لواء العصيان ضد الدولة. وتنقل هذه الروايات  أنه عام 688 ه/ 1289م أو 702ه/1302م كان دوندار على علم بخطة المؤامرة التي رتبها والي بلجيك ووالي يار حصار البيزنطيان لاغتيال عثمان الذي قام بإفشال هذه المؤامرة بخطة بديلة، ثم قام بإعدام عمه المتواطئ مع الأعداء (آق كندوز، 2008، ص62).

إن قصة عثمان بن أرطغرل مع عمه ليست الوحيدة في التاريخ العثماني التي يتم التلاعب بوقاعها وحيثياتها فقد تكرر الأمر ذاته مع السلطان مراد الأول بن أورخان ثالث سلاطين الدولة، والذي قيل عنه أنه قتل ابنه "ساوجي" خوفاً على عرشه دون إبداء السبب الحقيقي لقتله، وهو أن ساوجي تآمر سراً مع الأمير البيزنطي "أندرو نيقوس" للقضاء على السلطان العثمان ( إحسان الفقيه، 2020).

وعلى كل حال، فإنه لابد من التدقيق أكثر في الروايات التاريخية، وعدم التسرع في إطلاق الأحكام دون معرفة السياقات التاريخية والسياسية التي كان تتفاعل مع الأحداث، ولذلك لابد من تسجيل ملاحظتين ختاميتين في هذا الشأن:

إن حوادث القتل على السلطة في الدولة العثمانية تم التلاعب بحقيقتها ودوافعها في كثير من الأحيان، وتم اجتزاء بعضها من سياقها التاريخي، لتُظهر في النهاية أن السلاطين العثمانيين كانوا يقتلون المنافسين المحتملين على السلطة دون مبررات قانونية أو موانع أخلاقية.
في التاريخ البشري كله لم يكن العثمانيون وحدهم من وقعت بينهم حوادث القتل لكي يتم تسليط الضوء عليها بهذه الصورة المغرضة التي ترمي إلى إسقاط فضائل الدولة في عهود سلاطينها العظام.

ثانياً: قانون الدفن في الدولة العثمانية والحقيقة الغائبة

بعد فتح القسطينينة سنة 1453ه، وتحوُّل الدولة العثمانية إلى دولة عالمية، ممتدة الأطراف شعر السلطان محمد الفاتح بضرورة تنظيم الدولة على أسس جديدة، سعى من خلالها إلى ضبط الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والدينية، وذلك انسجاماً مع الموروث الإسلامي للعثمانيين، وكذا مع ما كانت تقتضيه تحولات ذلك العصر.

إلا أن أهم مسألة تُثار حولها النقاشات الصاخبة، وخاصة في الأوساط الإعلامية هي ما صار يعرف "بقانون الدفن"، والذي يُلوح به المتربصون بتاريخ الدولة العثمانية محاوليين من خلال هذا "القانون" إدانة العثمانيين وسلاطينهم الأقوياء، ووصفهم بأفضع الصفات وأشنع الأوصاف. وخلال هذا المقال سنحاول سريعاً أن نبرز بعض الحقائق المتعلقة بهذا القانون من خلال تسليط الضوء على أبرز النقاشات الفكرية الرصينة التي تناولت هذا الموضوع بالدرس والتحليل.

إن المادة الموجودة في قانون نامه، وهي المادة المتعلقة بقتل الإخوة، والتي أثير حولها الكثير من الجدل جاءت كما يلي"يسَر الله السَلطنة لكل واحد من أولادي ولأجل تأمين استمرارية نظام العالم فإن قتل الإخوة مناسب حتى أن أكثر العلماء أجازوه فليعمل به" (عبد الرحيم بنحادة، 2008، ص88)، ومن أجل عرض هذا الموضوع بطريقة أكثر موضوعية وشمولية، يمكن أن نقسم آراء المؤرخين إلى مجموعتين: الأولى: ترى بأن السلطان محمد الفاتح لم يصدر ضمن تشريعاته قانون الدفن، أما الثانية: ترى أنه قد تم إصدار هذا القانون، لكن هناك مبرراته الفقهية والتاريخية التي تؤطره (السعيدي، 2011، ص48).

قانون الدفن زائف وملفق ولا أساس له

تُنكر المجموعة الأولى هذه القوانين جملةً وتفصيلاً، وترى أنه من غير الائق أو المنطقي إسناد هذا " الظلم" إلى السلطان محمد الفاتح، وقد كان في مقدمة هؤلاء الأستاذ "علي همت بركي" الذي أكد أن قانون الدفن زائف وملفق.كان منطق الذي انطلقت منه هذه المجموعة هو أن مسألة قتل الأخوة المدرجة ضمن القوانين العثمانية- عثمانلي قانون نامه -  مخالفة تماما للشريعة الإسلامية، لذلك انكرت انكارا شديدا، وكان اكبر أدلتهم في هذا هو الشبهات الموجودة في النسخة الوحيدة آنذاك والموجودة في المكتبة الملكية في فيينا تحت رقم A.F554، وذكروا أن هذه النسخة مزيفية وأنها اخترعت من قبل الغربيين أعداء الدولة العثمانية، استننادا لوجود بعض الشبهات في أسلوب هذه القوانين ( آق كندوز، 2008ـ، ص 124).

قد يكون هذا الإدعاء غير كافي لدحض مسألة مهمة مثل هذه، لأن هذه القوانين التي كانت توجد منها نسخة واحدة فقط اكتشفت ثلاث نسخ أخرى فيما بعد، أما الإعتراضات التي تخص أسلوب ولغة هذه النسخة فالغالب أنها ليست دقيقة، لأن جميع هذه النسخ ليست النسخة الأصلية وإنما هي مستنسخات عن النسخة الأصلية، لذلك فليس من الصحيح تحميل أخطاء المستنسخ على النسخة الأصلية قبل أن نراها ونفحصها (آق كندوز، 2008ـ، ص 125).

قانون الدفن حقيقي ولكن ...

 هذا الرأي يقبل إسناد وعزو هذه القوانين إلى السلطان محمد الفاتح، وهو بدلاً من سلوك طريق الإنكار يفضل القيام بتحليل شرعي للمسألة، وأكثر الباحثين على هذا الرأي، وعلى عكس الآراء المخالفة للحقيقة التي أبداها البعض نرى أن المؤرخ الكبير عبد القادر أوزجان وهو في مقدمة أصحاب الرأي الثاني أجرى بحوثاً قيمة وجدية حول المسألة، وبين رأيه في مقالات علمية نشرها. وعموماً يمكن تحديد الأسس التي اعتمدها هؤلاء في ما يلي:

- إن المسألة لا يمكن حلها بإنكار هذه القوانين، والمهم هو القيام بالإيضاح الشرعي لها، بل إن متون هذه لا القوانين تخالف الأحكام الشرعية حسبما أدعى بعض أعداء العثمانيين، و لا تخالف كذلك الدساتير العالمية.

- خلال العقود الماضية تم اكتشاف مزيد من النسخ  وصل عددها لحد الآن إلى 3 نسخ، الأولى موجودة في المكتبة الملكية في فيينا، والثانية هي النسخة التي أدرجا المؤرخ العثماني الكبير حسين أفندي في كتابه "بدائع الوقائع"، والنسخة الثالثة هي النسخة التي أوردها العالم العثماني هزارفن حسين في كتابه "تلخيص البيان في قوانين آل عثمان" وبالتالي فالوثائق الموجودة تؤيد صحة إسناد هذه القوانين إلى السلطان محمد الفاتح (آق كندوز، 2008ـ، ص 127).

يذهب المؤرخ المعروف محمد سالم الرشيدي في كتابه القيم "السلطان محمد الفاتح"، الذي كان في الأصل رسالة دكتوراه ناقشها عام 1953ه، إلى نفس ما ذهبت إليه المجموعة الثانية، فيرى أن هذا التشريع ما كان إلا لحماية المصلحة العامة للدولة، ويضرب أمثلة عديدة من التاريخ العثماني عن صراع الأمراء العثمانيين على الحكم وإلتجاء بعضهم لأعداء العثمانيين في محاولة لكسب الدعم العسكري (الرشيدي، 2013، ص353-354).

إن عقوبة الإعدام موجودة في كل نظام قانوني للمحافظة على المصلحة العامة، أي "نظام العالم" حسب تعبير القوانين العثمانية، أي لصالح "نظام المجتمع" بالتعبير الحالي (الأمن الوطني والقومي في عصرنا)، ويوجد في كل معظم دول العالم في الوقت الحالي قوانين مماثلة بها عقوبة الإعدام لكل من "يعصي" الدولة.

وينضم الأكاديمي والبروفيسور أحمد أق كندوز إلى المجموعة الثانية معتبراص أن مسألة قتل الأخوة نتيجة تطبيق وإقامة حد "البغي"، أي حد العصيان ضد الدولة، ويمثل المرتكز الشرعي الأول لمسألة القتل هو وجود جريمة العصيان بالخروج على الدولة "بالسلاح" وموالاة الأعداء، وتدخل هذه العقوبة في الإسلام ضمن جريمة حد "البغي"، والذي تتكون بنوده من محاولة الخروج على الإمام أو السلطان ومحاولة الإستيلاء على الحكم بالسلاح والقوة والمغالبة، أي وجود هدف العصيان بشكل واضح. ولا يجوز بناء على ما سبق التعرض لمن يخالف رأي السلطان بصورة سلمية، أو لم يعلن عصيان مسلح، فإن أعلنوا عصيانًا توقع عليهم عقوبة الإعدام، أي في مصطلحات عصرنا هذا الإعدام لارتكابهم "الخيانة العظمى"؛ وذلك صيانة للدولة (آق كندوز، 2008ـ، ص 130).

وقد عَدَّ "فقهاء" الدولة ومشرعوها كل تمرد بالدولة يؤدي للإخلال بالأمن العام وبـ"نظام العالم"، فسادًا وجريمة "بغي" والقائمون بها يسمون "بغاة"، وأوضحوا في فتواهم بأن عقوبة هؤلاء هي الإعدام؛ ولو كان العاص شقيق السلطان أو ابنه (آق كندوز، 2008ـ، ص 132).

ومهما يكن من اختلاف الآراء وتنوع مصادرها ومبرراتها، تبقى قضية قانون الدفن قضية شائكة في التاريخ العثماني وتأويلاتها كثيرة، وعادة ما تم استغلالها من طرف أعداء العثمانيين كنقطة سوداء، بعيداً عن تقصي الحقائق والسعي إلى الموضوعية التاريخية، بل إن التوظيف يُصبح أكثر بشاعة عندما يتربط بالصورة؛ لأن لهذه الأخيرة آثار عميقة في نفوس الرأي العام، ليتحول التاريخ بذلك من وسيلة للربط الحضاري بين الأمم والشعوب الإسلامية، إلى آداة فتاكة للتفرقة والتأليب بينها. وهذا ما لا نريده في روايتنا ودراساتنا التاريخية، فهدفنا الأول والأخير بعد رضا الله سبحانه وتعالى هو تبيان الحقيقة التاريخية على أسس علمية ومقاربات فكرية وتحليلات صحيحة.

وقد ذكرت سابقاً بأن لي مقالات منشورة في موقع ترك برس وغيره حول قانون الدفن وقتل الإخوة والصراعات السياسية في العهد العثماني، وهي:

ممالك النار في ميزان حقائق التاريخ... قراءة في ظروف وتفاصيل الدخول العثماني لمصر

ممالك النار في ميزان حقائق التاريخ... قراءة في ظروف وتفاصيل الدخول العثماني لمصر

ممالك النار في ميزان حقائق التاريخ... قراءة في ظروف وتفاصيل الدخول العثماني لمصر

د. علي الصلابي - خاص ترك برس

لا شك أن قراءة التاريخ لم تعد عبر الكتب والمقالات أو المؤتمرات والمحاضرات فقط، فاليوم أصبحت الدراما ووسائل التواصل الاجتماعي رافداً مهماً في إنتاج التصورات التاريخية لدى الشعوب والأمم، وفي تاريخنا الإسلامي المعاصر هناك من يحاول من خلال مسلسل يتم إنتاجه وعرضه حالياً باسم " ممالك النار" تقديم صورة مغلوطة عن واحدة من أهم مراحل التاريخ العثماني، وهي الدخول العثماني للمنطقة العربية، وقد تعمد منتجو هذا المسلسل والقائمون عليه مخالفةَ الحقيقة وتحريف الوقائع، فمالوا إلى أهوائهم وخالفوا شرع الله وسنة رسوله الذي يأمر بالقسط وشهادة الحق حتى مع العدو، فقد قال الله تعالى: "يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ ۖ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا ۚ اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ".

وانطلاقاً من الالتزام بقوله تعالى: "وَلا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ"، ومن شعورنا بالمسؤولية تجاه تاريخ أمتنا الإسلامية كان حقاً علينا أن نبين الوقائع والأحداث على حقيقتها، وذلك بدحض الأباطيل والأكاذيب التي تعمد البعض الترويج لها وعرضها على الناس. وبعيداً عن الدخول في أي سجالات عقيمة حول ما يقدمه مسلسل "ممالك النار" من مغالطات تاريخية مشحونة بأفكار وإيديولوجيات مقيتة، بعيدة كل البعد عن الواقع التاريخي، يأتي هذا المقال لسرد أحداث الدخول العثماني إلى البلاد العربية والصدام مع المماليك. فبعد أن تغلَّب السُّلطان سليم الأوَّل على الصَّفويِّين في شمال وغربي إِيران بدأ السُّلطان العثمانيُّ يستعدُّ للقضاء على دولة المماليك، ولقد ساهمت عدَّة أسباب في توجه العثمانيين لضمِّ الشَّام، ومصر منها:

1 ـ موقف المماليك العدائي من الدَّولة العثمانيَّة؛ حيث قام السُّلطان قانصوه الغوري (907 - 922هـ/1501 - 1516م) سلطان الدَّولة المملوكيَّة بالوقوف مع بعض الأمراء العثمانيِّين الفارِّين من وجه السُّلطان سليم، وكان في مقدِّمتهم الأمير أحمد أخو السُّلطان سليم، وأرادت السُّلطات المملوكيَّة أن تتَّخذ من وجود هؤلاء الأمراء لديها أداةً لإثارة مزيدٍ من المتاعب في وجه السُّلطان سليم، بالإضافة إلى الموقف السَّلبي للدَّولة المملوكية في وقوفها المعنوي مع الشَّاه إِسماعيل الصَّفوي، فهي لم تلتزم الحياد التَّامَّ بين العثمانيِّين، والصَّفويِّين، ولم تتَّخذ موقفاً عدائيَّاً صريحاً من السُّلطان سليم.

2 ـ الخلاف على الحدود بين الدَّولتين في طرسوس وفي المنطقة الواقعة بين الطَّرف الجنوبي الشَّرقي لآسيا الصُّغرى، وبين شمالي الشَّام؛ فقد تناثرت في هذه المنطقة إِماراتٌ، وقبائلُ تأرجحت في ولائها بين الدَّولة العثمانيَّة، ودولة المماليك، وكان هذا التأرجح مبعث اضطرابٍ في العلاقات بين الدَّولتين، ومصدر نزاعٍ مستمرٍّ، وأراد السُّلطان سليم الأوَّل بادئ الأمر أن يحسم مسألة الحدود بالسَّيطرة التامَّة على منطقتها، وسكَّانها.

3 ـ تفشِّي ظلم الدَّولة المملوكيَّة بين النَّاس، ورغبة أهل الشَّام، وعلماء مصر في التخلُّص من الدَّولة المملوكيَّة، والانضمام إِلى الدَّولة العثمانيَّة؛ فقد اجتمع العلماء، والقضاة، والأعيان، والأشراف، وأهل الرَّأي مع الشَّعب، وتباحثوا في حالهم، ثمَّ قرروا أن يتولَّى قضاة المذاهب الأربعة، والأشراف كتابة عريضةٍ نيابةً عن الجميع، يخاطبون فيها السُّلطان العثماني سليم الأوَّل، ويقولون: إِنَّ الشعب السُّوري ضاق «بالظُّلم» المملوكي، وإِنَّ حكام المماليك «يخالفون الشَّرع الشَّريف»، وإِنَّ السُّلطان إِذا قرر الزَّحف على السَّلطنة المملوكيَّة؛ فإِنَّ الشعب سيرحِّب به، وتعبيراً عن فرحته، سيخرج بجميع فئاته، وطوائفه إلى عينتاب ـ البعيدة عن حلب ـ ولن يكتفوا بالتَّرحيب به في بلادهم فقط، ويطلبون من سليم الأوَّل أن يرسل لهم رسولاً من عنده، وزيراً ثقةً، يقابلهم سرَّاً، ويعطيهم عهد الأمان، حتَّى تطمئنَّ قلوب النَّاس.

ولقد ذكر الدُّكتور محمَّد حرب: أنَّ هذه الوثيقة موجودةٌ في الأرشيف العثماني في متحف طوب كابي في إستانبول، رقم 11634 (26) وبيَّن: أنَّ ترجمة الوثيقة من العثمانيَّة إِلى العربيَّة كما يلي: (يقدِّم جميع أهل حلب: علماء، ووجهاء، وأعيان، وأشراف، وأهالي، بدون استثناء طاعتَهم، وولاءهم ـ طواعيةً ـ لمولانا السُّلطان ـ عزَّ نصره ـ وبإِذنهم جميعاً، كتبنا هذه الورقة لِتُرسَل إِلى الحضرة السُّلطانية العالية. إِنَّ جميع أهل حلب، وهم الموالون لكم، يطلبون من حضرة السُّلطان، عهد الأمان، وإِذا تفضَّلتم بالتَّصريح فإِنَّنا نقبض على الشَّراكسة، ونسلِّمهم لكم، أو نطردهم، وجميع أهل حلب مستعدُّون لمقابلتكم، واستقبالكم، بمجرَّد أن تضع أقدامكم في أرض عينتاب، خلِّصنا أيُّها السُّلطان من يد الحكم الشَّركسي، احمنا أيضاً من يد الكفَّار، قبل حضور التُّركمان، وليعلم مولانا السُّلطان: أنَّ الشَّريعة الإِسلاميَّة لا تأخذ مجراها هنا، وهي معطَّلةٌ. إِنَّ المماليك إِذا أعجبهم أيُّ شيءٍ ليس لهم يستولون عليه، سواءٌ كان هذا الشيء مالاً، أو نساءً، أو عيالاً، فالرَّحمة لا تأخذهم بأحدٍ، وكلٌّ منهم ظالمٌ، وطلبوا منَّا رجلاً من كلِّ ثلاثة بيوت، فلم نستجب لطلبهم، فأظهروا لنا العداء، وتحكَّموا فينا، (ونريد) قبل أن يذهب التُّركمان أن يقدم علينا وزيرٌ من عندكم أيُّها السُّلطان صاحب الدولة، مفوَّضٌ بمنح الأمان لنا، ولأهلينا، ولعيالنا، أرسلوا لنا رجلاً حائزاً على ثقتكم يأتي سرَّاً، ويلتقي بنا، ويعطينا عهد الأمان، حتَّى تطمئنَّ قلوب هؤلاء الفقراء. وصلَّى الله على سيِّدنا محمَّدٍ، وعلى آله أجمعين).

أمَّا علماء، وفقهاء مصر؛ فقد ذكر عبد الله بن رضوان في كتابه: تاريخ مصر (مخطوط رقم 4971) بمكتبة بايزيد في إستانبول: إِنَّ علماء مصر (وهم نفس الشَّعب المصري وممثِّلوه) يلتقون سرَّاً بكلِّ سفيرٍ عثمانيٍّ يأتي إِلى مصر، ويقصُّون عليه (شكواهم الشَّريف) و(يستنهضون عدالة السُّلطان العثماني لكي يأتي، ويأخذ مصر).

لقد كان علماء مصر يراسلون السُّلطان سليماً الأوَّل؛ لكي يقدم إِلى مصر على رأس جيشه؛ ليستولي عليها، ويطرد منها الجراكسة (المماليك).

4 ـ رأى علماء الدَّولة العثمانيَّة أنَّ ضمَّ مصر، والشَّام يفيد الأمَّة في تحقيق أهدافها الاستراتيجيَّة؛ فالخطر البرتغالي على البحر الأحمر والمناطق المقدَّسة الإِسلاميَّة، وكذلك خطر فرسان القدِّيس يوحنا في البحر المتوسط كانت أسباب وجيهة دعت السُّلطان العثماني لأن يتوجَّه نحو الشرق، فتحالف مع القوَّات المملوكيَّة لهذا الغرض في البداية، ثمَّ تحمَّل العبء الكامل في مقاومة هذه الأخطار بعد سقوط الحكم المملوكي.

ونستدلُّ على ذلك بما قاله السُّلطان سليم الأوَّل العثمانيُّ لـ: «طومان باي» آخر سلاطين المماليك بعد أن هزمه في معركة الرَّيدانيَّة: (أنا ما جئت عليكم إِلا بفتوى علماء الأمصار، وأنا كنت متوجِّهاً إِلى جهاد الرَّافضة (يعني: الصفويِّين) والفجَّار (يعني بهم: البرتغاليِّين، وفرسان القدِّيس يوحنا)، فلمَّا بغى أميركم الغوري، وجاء بالعساكر إِلى حلب، واتَّفق مع الرَّافضة، واختار أن يمشي إِلى مملكتي الَّتي هي موروث آبائي، وأجدادي، فلمَّا تحقَّقتُ؛ تركت الرَّافضة، ومشيت إِليه).

أولاً: وقوع الصِّدام:

بعد التطوُّرات الَّتي حدثت بين الدَّولة العثمانيَّة، والدَّولة الصَّفوية كان على السُّلطان المملوكي «قانصوه الغوري» أن يتَّخذ أحد المواقف تجاه الحدث، إِمَّا:

1 ـ أن يأخذ جانب العثمانيِّين ضدَّ الصَّفويِّين.

2 ـ أن يأخذ جانب الصَّفويِّين ضدَّ العثمانيِّين.

3 ـ أن يقف على الحياد بين الطَّرفين.

وفضَّل الغوري أن يقف على الحياد في ظاهره، إِلا أنَّ المخابرات العثمانيَّة عثرت على خطاب تحالفٍ سرِّي يؤكِّد العلاقة الخفيَّة بين المماليك، والفرس، والخطاب محفوظٌ في أرشيف متحف طوب قابي في إستانبول.

وكان السُّلطان سليم يريد الكرَّة على الشِّيعة الصَّفويَّة في بلاد فارس، ومع توتُّر الأحداث؛ رأى السُّلطان سليم تأمين ظهره، وذلك بضمِّ الدولة المملوكيَّة إِلى أملاكه.

والتقى الجمعان على مشارف حلب في مرج دابق عام 1516م وانتصر العثمانيُّون، وقُتِل الغوري سلطان المماليك، وأكرم العثمانيُّون الغوري بعد مماته، وأقاموا عليه صلاة الجنازة، ودفنوه في مشارف حلب، ودخل سليم حلب، ثمَّ دمشق، ودُعي له في الجوامع، وسُكَّت النُّقود باسمه سلطاناً، وخليفةً. ومن الشَّام أرسل السُّلطان سليم إِلى زعيم المماليك في مصر «طومان باي» أن يلتزم بالطَّاعة للدَّولة العثمانيَّة، وكان ردُّ المماليك السُّخرية من رسول السُّلطان، ثمَّ قتله.

وقرَّر السلطان سليم الحرب، وتحرَّك نحو مصر، وقطع صحراء فلسطين قاصداً مصر، ونزلت الأمطار على أماكن سير الحملة ممَّا يسَّرت على الجيش العثماني قطع الصَّحراء النَّاعمة الرِّمال بعد أن جعلتها الأمطار الغزيرة متماسكةً يَسهل اجتيازها.

يروي المؤرِّخ: «سلاحثور» صاحب مخطوطة فتح نامه ديار العرب ـ وكان مصاحباً لسليم ـ: أنَّ سليماً الأوَّل كان يبكي في مسجد الصَّخرة بالقدس بكاءً حارَّاً، وصلَّى صلاة الحاجة داعياً الله أن يفتح عليه مصر.

وحقَّق العثمانيُّون انتصاراً ساحقاً على المماليك في معركة غزَّة، ثم معركة الرَّيدانيَّة.

وتعود الأسباب الَّتي أدَّت إِلى هزيمة المماليك، وانتهاء دولتهم، وانتصار العثمانيِّين، وعلوِّ نجمهم إِلى:

1 ـ التَّفوُّق العسكري لدى العثمانيِّين: فسلاح المدفعيَّة المملوكي كان يعتمد على مدافع ضخمة ثابتة لا تتحرَّك، في حين كان سلاح المدفعيَّة العثماني يعتمد على مدافع خفيفة يمكن تحريكها في كلِّ الاتجاهات.

2 ـ سلامة الخطط العسكرية العثمانيَّة: فرغم قطع العثمانيِّين لمسافاتٍ طويلةٍ في سرعةٍ اضطروا إِليها، ومحاربتهم في أرضٍ يسيطر عليها عدوُّهم، ومباغتتهم للمماليك، كلُّ ذلك كان ممَّا يدخل في عوامل النَّصر، ومن سلامة التَّخطيط أيضاً استدارة القوات العثمانيَّة من خلف مدافع المماليك الثَّقيلة الحركة ـ إِذا أريد تحريكهاـ ودخول هذه القوات العثمانيَّة القاهرة عن طريق المقطَّم ممَّا شلَّ دور المدفعيَّة المملوكيَّة، وأحدث بالتَّالي الاضطراب في صفوف الجيش المملوكي، لتدافعهم بلا انتظامٍ خلف العثمانيِّين.

3 ـ معنويات الجيش العثماني العالية، وتربيته الجهاديَّة الرَّفيعة، واقتناعه بأنَّ حربه عادلةٌ بعكس القوات المملوكيَّة؛ الَّتي فقدت تلك الصِّفات.

4 ـ حرص الدولة العثمانيَّة على الالتزام بالشَّرع في جميع نواحي حياتها، واهتمامها البالغ بالعدل بين رعايا الدَّولة، بعكس الدَّولة المملوكيَّة الَّتي انحرفت عن الشَّريعة الغرَّاء، ومارست الظُّلم على رعاياها.

5 ـ قناعة مجموعةٍ قياديَّةٍ من أمراء المماليك بالانضمام لجيش السُّلطان سليم، وكانوا مستعدِّين للتَّعاون مع الدَّولة العثمانيَّة، وتحمُّل مسؤوليَّة الحكم تحت إِطار الحكم العثمانيِّ، ومن أمثال هؤلاء: «فاير بك» الَّذي أسند إِليه سليم الأوَّل حكم مصر، و«جان برد الغزالي» الَّذي تولَّى حكم دمشق.

لقد تلقَّى المماليك الهزيمة في سنة 1516/1517م وهم في شيخوخة دولتهم، وفي آخر صفحةٍ من صفحات تاريخهم، كقوَّة إِسلاميَّة كبرى سواءٌ في الشَّرق الأوسط، أو في العالم، كانوا قد فقدوا حيويَّتهم، وقدرتهم على تجديد شبابهم، فكان أن زالت دولتهم، وذهبت البلاد الَّتي كانت تحت حكمهم للنُّفوذ العثماني.

وقد نقل الدُّكتور علي حسُّون عن الجبرتي من كتابه: «تاريخ عجائب الآثار في التَّراجم والأخبار» في المجلَّد الأول وصفاً لفترة حكم العثمانيِّين في مصر إِبَّان عهد سلاطينهم العظماء، اقتطف بعضاً منها:

(.. وعادت مصر إِلى النِّيابة، كما كانت في صدر الإِسلام، ولمَّا خلص له (أي: السُّلطان سليم) أمر مصر؛ عفا عمَّن بقي من الجراكسة، وأبنائهم، ولم يتعرَّض لأوقاف السَّلاطين المصريَّة، بل قرَّر مرتَّبات الأوقاف، والخيرات، والعلوفات، وغلال الحرمين، والأنبار، ورتَّب للأيتام، والمشايخ، والمتقاعدين، ومصارف القلاع، والمرابطين، وأبطل المظالم، والمكوس، والمغارم، ولمَّا توفي؛ تولى ابنه الغازي السُّلطان سليمان عليه الرَّحمة، والرِّضوان، فأسَّس القواعد، وأتمَّ المقاصد، ونظَّم الممالك، وأنار الحوالك، ورفع منار الدِّين، وأخمد نيران الكافرين.. لم تزل البلاد منتظمةً في سلكهم، ومنقادةً تحت حكمهم.. وكانوا في صدر دولتهم من خير مَنْ تقلَّد أمور الأمَّة بعد الخلفاء المهديِّين، وأشدِّ من ذبَّ عن الدِّين، وأعظم من جاهد في المشركين، فلذلك اتَّسعت ممالكهم بما فتحه الله على أيديهم، وأيدي نوَّابهم.. هذا مع عدم إِغفالهم الأمر، وحفظ النَّواحي، والثُّغور، وإقامة الشَّعائر الإِسلاميَّة، والسنن المحمَّديَّة، وتعظيم العلماء، وأهل الدِّين، وخدمة الحرمين الشَّريفين).

ثانياً: مسألة انتقال الخلافة:

إِن مسألة انتقال الخلافة إِلى آل عثمان ترتبط بالفتح العثماني لمصر، وقد قيل: إِنَّ آخر الخلفاء العباسيِّين في القاهرة قد تنازل لسليم عن الخلافة، فالمؤرِّخ ابن إِياس المعاصر لضمِّ العثمانيِّين لمصر لم يتطرَّق إِليها، كما أنَّ الرسائل الَّتي أرسلها السُّلطان سليم إِلى ابنه سليمان لم ترد فيها أيَّةُ إِشارةٍ لتنازل الخليفة عن لقبه للسُّلطان، كما أنَّ المصادر المعاصرة لا تشير إِلى مسألة نقل الخلافة إِلى آل عثمان الَّذين لا ينتسبون إِلى الرَّسول صلى الله عليه وسلم.

إِنَّ الواقع التَّاريخي يقول بأنَّ السُّلطان سليماً الأوَّل أطلق على نفسه لقب «خليفة الله في طول الأرض وعرضها» منذ عام 1514م (920هـ) أي: قبل فتحه للشَّام، ومصر، وإِعلان الحجاز خضوعه لآل عثمان.

فالسُّلطان سليم وأجداده كانوا قد كسبوا مكانةً عظيمةً تلائم استعمال لقب الخلافة؛ في الوقت الَّذي كان فيه مركز الخليفة في القاهرة لا يعتدُّ به. كما أنَّ فتوح سليم أكسبته قوَّةً، ونفوذاً معنوياً ومادِّيّاً، وخصوصاً بعد دخول الحرمين الشَّريفين تحت سلطانه، وأصبح السُّلطان العثمانيُّ مقصداً للمستضعفين المسلمين؛ الَّذين يتطلَّعون إِلى مساعدته بعد أن هاجم البرتغاليُّون الموانئ الإسلاميَّة في آسيا، وإفريقية.

إنَّ السُّلطان سليم لم يكن مهتمَّاً بلقب الخلافة، وكذلك سلاطين آل عثمان من بعده، وأنَّ الاهتمام بهذا اللَّقب قد عاد بعد ضعف الدَّولة العثمانيَّة.

ثالثاً: أسباب انهيار الدَّولة المملوكيَّة:

هناك مجموعةٌ من العوامل التي أدت إلى نهايةٍ دولة المماليك، أهمُّها:

1 ـ عدم تطوير المماليك أسلحتهم، وفنونهم القتاليَّة، فبينما كان المماليك يعتمدون على نظام الفروسيَّة؛ الَّذي كان سائداً في العصور الوسطى؛ كان العثمانيُّون يعتمدون على استخدام الأسلحة النَّارية، وبخاصَّةٍ المدفعيَّة.

2 ـ كثرة الفتن، والقلاقل، والاضطرابات بين المماليك حول ولاية الحكم؛ ممَّا أدَّى إِلى عدم استقرار الحكم في أحرج الأوقات.

3 ـ كُرْهُ الرَّعايا للسَّلاطين المماليك؛ الَّذين كانوا يشكِّلون طبقةً أرستقراطيَّةً مترفِّعةً منعزلةً عن الشُّعوب.

4 ـ وقوع بعض الانشقاقات بين صفوف المماليك، كما فعل والي حلب «خاير بك، وجان برد الغزالي» مما أدَّى إِلى سرعة انهيار الدَّولة المملوكيَّة.

5 ـ سوء الأحوال الاقتصاديَّة، وبخاصَّةٍ عندما تغيَّرت طرق التُّجارة المارَّة بمصر، واكتشاف طريق رأس الرَّجاء الصَّالح.

6 ـ العامل الجامع للأسباب السَّابقة: ضعف التزام المماليك بمنهج الله، ويقابله قوَّة تمسُّك العثمانيِّين بشرع الله.

رابعاً: خضوع الحجاز للعثمانيِّين:

كانت الحجاز تابعةً للمماليك، وعندما علم شريف مكَّة بمقتل السُّلطان الغوري، ونائبه طومان باي، بادر شريف مكَّة «بركات بن محمَّد» إِلى تقديم السَّمع والطَّاعة إِلى السُّلطان سليم الأوَّل، وسلمه مفاتيح الكعبة، وبعض الآثار، فأقرَّ السُّلطان سليم شريف الحجاز بركات باعتباره أميراً على مكَّة، والحجاز، ومنحه صلاحياتٍ واسعةً.

وبذلك أصبح السُّلطان سليم خادماً للحرمين الشَّريفين، وأصبحت مكانته أقوى أمام الشُّعوب الإِسلاميَّة، وذلك لأن الدَّولة العثمانية أوقفت أوقافاً كثيرةً على الأماكن المقدَّسة، وكانت إِيراداتها تصبُّ في خزانةٍ مستقلَّةٍ بالقصر السُّلطاني، وقد أدَّى ضمُّ الحجاز إِلى العثمانيِّين إِلى بسط السِّيادة العثمانيَّة في البحر الأحمر ممَّا أدى إِلى دفع الخطر البرتغاليِّ عن الحجاز، والبحر الأحمر، واستمرَّ هذا حتَّى نهاية القرن الثامن عشر.


مراجع المقال:

  • علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية، عوامل النهوض وأسباب السقوط، الطبعة الأولى 2003م، (285-289).
  • محمَّد حرب، العثمانيُّون في التَّاريخ والحضارة، دار القلم، دمشق، الطَّبعة الأولى 1409هـ/1989م، ص (30).
  • إِسماعيل ياغي، الدَّولة العثمانيَّة في التاريخ الإِسلامي الحديث، مكتبة العبيكان، الطَّبعة الأولى 1416هـ/1996م. ص (61، 62).
  • عبد العزيز سليمان نوار، الشعوب الإِسلاميَّة، الأتراك العثمانيُّون، الفرس، مسلمو الهند، دار النَّهضة العربيَّة، طبعة 1411هـ/1991م، ص (40).
  • يلماز أوزنتونا، تاريخ الدولة العثمانيَّة، ترجمه إِلى العربيَّة عدنان محمود سلمان، د. محمود الأنصاري، المجلَّد الأوَّل، منشورات مؤسَّسة فيصل للتَّمويل، تركيا، إِستانبول 1988م. ص (63).
  • قراءة جديدة في تاريخ العثمانيِّين، د. زكريَّا سليمان بيُّومي، الطَّبعة الأولى 1411هـ/1991م، ص (71).

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

ممالك النار والسلطان سليم... فضح وكشف الافتراءات (2)

ممالك النار والسلطان سليم... فضح وكشف الافتراءات (2)

ممالك النار والسلطان سليم... فضح وكشف الافتراءات (2)

د. علي محمّد الصلابي

يحاول القائمون على إنتاج المسلسل المسمى "ممالك النار" إبراز صورة مشوهة ومغلوطة ملؤها التحريف وتشويه الحقائق عن أحد أهم سلاطين الدولة العثمانية وهو السلطان سليم الأول، إذ يعرض فترة توجه العثمانيين نحو الشرق وقضائهم على دولة المماليك الذي انتهى بسيطرة العثمانيين على المنطقة العربية، ويبدو للمشاهد في حلقات المسلسل الأولى وكأن دولة المماليك دولة مصرية محلية وأن العثمانيين طارئين على الشام ومصر، ونسوا أن المماليك أقرباء العثمانيين بالدم وكلهم من أصل تركي.

ولقد استهدف المسلسل بشكل أساسي شخصية السلطان سليم الأول، وأخذ يظهره كسلطان متوحش ومتعطش للدماء، يعشق السلطة، ويضحي في سبيلها بكل شيء، ولا يرعى في ذلك ما قد يَمس مصالح الأمة والمسلمين من ضرر، إلا أن المتصفح لتاريخ هذا السلطان العظيم يرى العكس تماماً، ويعلم أن الحروب التي خاضها في الشرق والجنوب إنما كانت في سبيل الله وإعلاء كلمته ومن أجل الحفاظ على رفعة الأمة ووحدتها، ودفع الأخطار المتمثلة بالخطر الصفوي في الشرق والبرتغالي في الجنوب، بالإضافة إلى رفع المظالم التي أوقعها المماليك في آخر عهدهم بأهل مصر والشام والأمصار الإسلامية التي حكموها.

وللاطلاع أكثر على تلك المرحلة التاريخية المهمة في تاريخ الأمة، فإننا أردنا التركيز عن محطات أساسية في عهد السلطان سليم الأول وسيرته وأعماله وإنجازاته الداخلية والخارجية، لتبيان مدى التشويه والتحريف الذي تعرض له ذلك السلطان ودولته.

أولاً: سليم الأول ... نشأته وصفاته

هو سليم بن بايزيد الثاني بن محمد الفاتح، وأطلق على سليم وهو صغير السن لقب (ياووز أو يافوز) وتعني بالعربية "صارم"، ولقب بالفرنسية (الرهيب). وتروي المصادر العربية والتركية أن سليم في صغره كان مشاغباً وكثير الحركة مهتماً بالفروسية والقتال، وهي الطباع التي ستتخلل سنين حكمه القليلة التي قضاها في معارك وانتصارات ضد خصوم الدولة وأعدائها. وفي فترة حكم والده كان والياً على طرابزون، وقد أتاحت له ولايته الاحتكاك ببعض تحركات الدولة الصفوية الرامية للتوسع في الأناضول على حساب الدولة العثمانية، وتولى الحكم بعد والده ليبدأ مسيرة من الجهاد وتوحيد العالم الإسلامي تحت حكمه.

ثانياً: سليم الأول سلطاناً للدول العثمانية

تولى سليم الأول عرش الدولة العثمانية في (8 صفر 918هـ / 25 إبريل 1512م) خلفا لأبيه بايزيد الثاني الذي تنازل له عن السلطة، وقد أظهر سليم منذ بداية حكمه ميلاً إِلى تصفية خصوم الدولة، وكان يحبُّ الأدب، والشِّعر الفارسي، والتَّاريخ، ورغم قسوته فإِنَّه كان يميل إِلى صحبة رجال العلم، وكان يصطحب المؤرِّخين، والشُّعراء إِلى ميدان القتال؛ ليسجلوا تطوُّرات المعارك، وينشدوا القصائد الَّتي تحكي أمجاد الماضي.

وقد أحدث السُّلطان سليم الأول تغييراً جذرياً في سياسة الدَّولة العثمانيَّة الجهاديَّة، فقد توقَّف في عهده الزَّحف العثمانيُّ نحو الغرب الأوربيِّ، أو كاد أن يتوقَّف، واتَّجهت الدَّولة العثمانيَّة اتجاهاً شرقيَّاً نحو المشرق الإِسلامي، وقد ذكر بعض المؤرِّخين الأسباب الَّتي أدَّت إِلى تغيُّر السِّياسة العثمانيَّة، منها:

  • التَّشبُّع العسكري العثماني في أوروبا؛ إِذ يرى أصحاب هذا الرأي: أنَّ الدولة العثمانيَّة كانت قد بلغت مرحلة التَّشبُّع في فتوحاتها الغربيَّة بنهاية القرن الخامس عشر، وأنَّه كان عليها في أوائل القرن السَّادس عشر أن تبحث عن ميادين جديدة للنَّشاط، والتوسُّع، وهذا الرأي يخالفه الصَّواب؛ لأنَّ الفتوحات العثمانيَّة لم تنقطع تماماً من الجبهة الغربية، ولكن لا ريب في أنَّ مركز الثِّقل في التوسُّع العثماني قد انتقل نهائياً من الغرب إِلى الشَّرق ليس بسبب التَّشبُّع، كما تقول بعض المصادر غير المدركة للواقع.
  • كان تحرُّك الدَّولة العثمانيَّة نحو المشرق من أجل إِنقاذ العالم الإِسلامي بصورةٍ عامَّةٍ والمقدَّسات الإِسلاميَّة بصورةٍ خاصَّةٍ من التَّحرُّك الصَّليبي الجديد من جانب الإسبان في البحر المتوسِّط، والبرتغاليِّين في المحيط الهندي، وبحر العرب، والبحر الأحمر؛ الَّذين أخذوا يطوِّقون العالم الإِسلامي، ويفرضون حصاراً اقتصادياً حتَّى يسهل عليهم ابتلاعه.
  • سياسة الدَّولة الصَّفويَّة في إِيران، والمتعلِّقة بمحاولة بسط المذهب الشِّيعي في العراق، وآسيا الصُّغرى هي الَّتي دفعت الدَّولة العثمانيَّة إِلى الخروج إِلى المشرق العربي؛ لحماية آسيا الصُّغرى بصفةٍ خاصَّةٍ، والعالم السُّنِّي بصفةٍ عامَّةٍ.

1. حرب السلطان سليم الأول مع الصفويين

إِنَّ سياسة الدَّولة العثمانيَّة في زمن السُّلطان سليم سارت على هذه الأسس، ألا وهي القضاء على الدَّولة الصَّفويَّة الشِّيعيَّة، وضمُّ الدَّولة المملوكيَّة، وحماية الأراضي المقدَّسة وملاحقة الأساطيل البرتغاليَّة، ودعم حركة الجهاد البحري في الشَّمال الأفريقي للقضاء على الإسبان، ومواصلة الدَّولة جهادها في شرق أوروبا.

وعندما تولَّى السُّلطان سليم السَّلطنة قامت أجهزة الدَّولة العثمانيَّة الأمنيَّة بحصر الشِّيعة التابعين للشَّاه إِسماعيل، والمناوئين للدَّولة العثمانيَّة ثمَّ قام بتصفية أتباع الشَّاه إِسماعيل، فسجن، وأعدم عدداً كبيراً من أنصار الشَّاه إِسماعيل في الأناضول، ثمَّ قام بمهاجمة إِسماعيل نفسه، فتداولت الرَّسائل الخشنة بينهما، حسب المعتاد.

وكتب السُّلطان سليم رسالة إِلى إِسماعيل الصَّفوي قال فيها: (... إِنَّ علماءنا، ورجال القانون قد حكموا عليك بالقصاص يا إِسماعيل! بصفتك مرتدَّاً، وأوجبوا على كل مسلمٍ حقيقيٍّ أن يدافع عن دينه، وأن يحطِّم الهراطقة في شخصك، أنت وأتباعك البلهاء، ولكن قبل أن تبدأ الحرب معكم، فإِنَّنا ندعوكم لحظيرة الدِّين الصَّحيح قبل أن نشهر سيوفنا، وزيادةً على ذلك فإِنَّه يجب عليك أن تتخلَّى عن الأقاليم الَّتي اغتصبتها منا اغتصاباً، ونحن حينئذٍ على استعدادٍ لتأمين سلامتك...).

وفي رسالة أخرى فقد هدِّد الشَّاه إِسماعيل الصَّفوي، يقول فيها:(بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، قال الله الملك العلام: {إِنَّ ٱلدِّينَ عِندَ ٱللَّهِ ٱلۡإِسۡلَٰمُۗ} آل عمران:19]

{وَمَن يَبۡتَغِ غَيۡرَ ٱلۡإِسۡلَٰمِ دِيناً فَلَن يُقۡبَلَ مِنۡهُ وَهُوَ فِي ٱلۡأٓخِرَةِ مِنَ ٱلۡخَٰسِرِينَ} [سورة آل عمران:85]

{فَمَن جَآءَهُۥ مَوۡعِظَة مِّن رَّبِّهِۦ فَٱنتَهَىٰ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمۡرُهُۥٓ إِلَى ٱللَّهِۖ وَمَنۡ عَادَ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَصۡحَٰبُ ٱلنَّارِۖ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ} [سورة البقرة:275]

اللَّهمَّ اجعلنا من الهادين غير المضلِّين، ولا الضَّالين، وصلَّى الله على سيِّد العالمين محمدٍ المصطفى النَّبيِّ، وصحبه أجمعين).

وبدأ سليم الأوَّل يسرع في تحريك الصِّراع بينه وبين الشَّاه إِسماعيل، فأرسل إِليه للمرَّة الثَّانية، وأرسل مع رسالته خرقةً، ومسبحةً، وكشكولاً، وعصاً رمز فرق الدَّراويش، وهو بهذا يقصد إِلى أن يذكره بأصله، وبأهل الأسرة الصَّفويَّة الَّتي لا تستطيع الصُّمود في الحرب، ومع ذلك فقد ردَّ الشاه إِسماعيل بطلب المهادنة، وتجديد علاقات السِّلم، والصَّداقة بين الدَّولتين، ولم يقبل سليم الأوَّل هذا من شاه الصَّفويِّين، وأهان رسوله، وأمر بقتل رسول الشَّاه الصَّفوي، وقد أدرك سليم الأوَّل: أنَّ خطَّة أعدائه تتلخَّص في المهادنة، والتَّباطؤ لتأجيل موعد اللِّقاء حتَّى يحين فصل الشتاء، واستمرَّ السُّلطان سليم في تحرُّكه، ووصلته الأخبار: أنَّ إِسماعيل الصَّفوي قد بدأ الاستعداد للقتال، والحرب، بل إِنَّه على وشك الوصول إِلى صحراء جالديران، فبدأ سليم الأوَّل المسير نحوها، فوصلها في أغسطس عام 1514م، واحتلَّ المواقع الهامَّة بها، واعتلى الأماكن الهضبيَّة فيها، ممَّا مكَّنه من إِيقاع الهزيمة بإِسماعيل الصَّفوي، وجنوده، وكانت هزيمةً ساحقةً حلَّت بالجيش الصَّفوي الشِّيعي على أرضه.

واضطرَّ إِسماعيل إِلى الفرار في الوقت نفسه الَّذي كان سليم الأوَّل يستعدُّ فيه للدُّخول إِلى تبريز عاصمة الصَّفويين. ودخل سليم الأول تبريز، وحصر أموال الشَّاه الصَّفوي، ورجال القلزباس، واتَّخذها مركزاً لعملياته الحربيَّة.

لم ينته الصِّراع بين السُّنَّة في الدَّولة العثمانيَّة، والشِّيعة في إِيران بانتهاء معركة جالديران، وإِنَّما ازداد العداء حدَّةً، وازداد الصِّراع ضراوةً، وظلَّ الطَّرفان يتربَّص كلٌّ منهما بالآخر.

2. الحرب العثمانية مع المماليك:

بعد أن تغلَّب السُّلطان سليم الأوَّل على الصَّفويِّين في شمال، وغربي إِيران بدأ السُّلطان العثمانيُّ يستعدُّ للقضاء على دولة المماليك، ولقد ساهمت عدَّة أسباب في توجه العثمانيين لضمِّ الشَّام، ومصر منها:

  • موقف المماليك العدائيُّ من الدَّولة العثمانيَّة؛ حيث قام السُّلطان قانصوه الغوري (907 -922هـ/1501 -1516م) سلطان الدَّولة المملوكيَّة بالوقوف مع بعض الأمراء العثمانيِّين الفارِّين من وجه السُّلطان سليم، وكان في مقدِّمتهم الأمير أحمد أخو السُّلطان سليم.
  • الخلاف على الحدود بين الدَّولتين في طرسوس في المنطقة الواقعة بين الطَّرف الجنوبي الشَّرقي لآسيا الصُّغرى، وبين شمالي الشَّام.
  • تفشِّي ظلم الدَّولة المملوكيَّة بين النَّاس، ورغبة أهل الشَّام، وعلماء مصر في التخلُّص من الدَّولة المملوكيَّة، والانضمام إِلى الدَّولة العثمانيَّة، فقد اجتمع العلماء، والقضاة، والأعيان، والأشراف، وأهل الرَّأي مع الشَّعب، وتباحثوا في حالهم، ثمَّ قرروا أن يتولَّى قضاة المذاهب الأربعة، والأشراف كتابة عريضةٍ نيابةً عن الجميع، يخاطبون فيها السُّلطان العثماني سليم الأوَّل، ويقولون: إِنَّ الشعب السُّوري ضاق «بالظُّلم» المملوكي، وإِنَّ حكام المماليك «يخالفون الشَّرع الشَّريف»، وإِنَّ السُّلطان إِذا قرر الزَّحف على السَّلطنة المملوكيَّة؛ فإِنَّ الشعب سيرحِّب به، وتعبيراً عن فرحته، سيخرج بجميع فئاته، وطوائفه إلى عينتاب ـ البعيدة عن حلب ـ ولن يكتفوا بالتَّرحيب به في بلادهم فقط، ويطلبون من سليم الأوَّل أن يرسل لهم رسولاً من عنده، وزيراً ثقةً، يقابلهم سرَّاً، ويعطيهم عهد الأمان، حتَّى تطمئنَّ قلوب النَّاس.
  • عثور المخابرات العثمانيَّة على خطاب تحالفٍ سرِّي يؤكِّد العلاقة الخفيَّة بين المماليك، والفرس، والخطاب محفوظٌ في أرشيف متحف طوب قابو في إستانبول.
  • وكان السُّلطان سليم يريد الكرَّة على الشِّيعة الصَّفويَّة في بلاد فارس، ومع توتُّر الأحداث؛ رأى السُّلطان سليم تأمين ظهره، وذلك بضمِّ الدولة المملوكيَّة إِلى أملاكه.
  • فزحف السلطان سليم بجيشه نحو الشام، والتقى الجمعان على مشارف حلب في مرج دابق عام 1517م وانتصر العثمانيُّون، وقُتِل الغوري سلطان المماليك، وأكرم العثمانيُّون الغوري بعد مماته، وأقاموا عليه صلاة الجنازة، ودفنوه في مشارف حلب، ودخل سليم حلب، ثمَّ دمشق، ودُعي له في الجوامع، وسُكَّت النُّقود باسمه سلطاناً، وخليفةً. ومن الشَّام أرسل السُّلطان سليم إِلى زعيم المماليك في مصر «طومان باي» أن يلتزم بالطَّاعة للدَّولة العثمانيَّة، وكان ردُّ المماليك السُّخرية برسول السُّلطان، ثمَّ قتله.
  • وقرَّر السلطان سليم الحرب، وتحرَّك نحو مصر، وقطع صحراء فلسطين قاصداً مصر، ونزلت الأمطار على أماكن سير الحملة ممَّا يسَّرت على الجيش العثماني قطع الصَّحراء النَّاعمة الرِّمال بعد أن جعلتها الأمطار الغزيرة متماسكةً يَسهل اجتيازها.
  • يروي المؤرِّخ: «سلاحثور» صاحب مخطوطة فتح نامه ديار العرب، وكان مصاحباً لسليم: أنَّ سليماً الأوَّل كان يبكي في مسجد الصَّخرة بالقدس بكاءً حارَّاً، وصلَّى صلاة الحاجة داعياً الله أن يفتح عليه مصر. وحقَّق العثمانيُّون انتصاراً ساحقاً على المماليك في معركة غزَّة، ثم معركة الرَّيدانيَّة.

3. السلطان سليم الأول والتصدي للخطر البرتغالي على السواحل الإسلامية:

قامت دولة البرتغال في عام 1514م بتحريك حملةٍ على المغرب الأقصى يتزعَّمها الأمير «هنري الملاح» واستطاعت تلك الحملة أن تحتلَّ ميناء سبتة المغربي، وكان ذلك بـدايـة لسلسلةٍ من الأعمال العدوانيَّـة المتتالية، ثمَّ واصلت البرتغال حملاتها على الشمَّال الأفريقي حتى تمكنت من الاستيلاء على أصيل، والعرائش، ثمَّ طنجة في عام 1471 للميلاد. وواصلت بعد ذلك أطماعها في مراكز هامَّةٍ جدَّاً مثل ميناء «أسفى، وأغادير، وأزمورة، وماسة».

وأما عن توجه البرتغال إِلى المحيط الأطلسي، ومحاولتهم الالتفاف حول العالم الإِسلامي، فقد كان العمل مدفوعاً بالدَّرجة الأولى بدوافع صليبيَّة شرسة ضدَّ المسلمين؛ حيث اعتبرت البُرتغال: أنَّها نصيرة المسيحيَّة، وراعيتها ضدَّ المسلمين، حيث اعتبرت قتال المسلمين ضرورةً ماسَّةً، وصارمة، ورأت الإِسلام هو العدوُّ اللَّدود الَّذي لا بدَّ من قتاله في كلِّ مكانٍ.

وبعد أن ضمَّ العثمانيُّون بلاد مصر، والشَّام، ودخلت البلاد العربيَّة تحت نطاق الحكم العثماني واجهت الدَّولة العثمانيَّة بقيادة السلطان سليم الأول البرتغاليِّين بشجاعةٍ نادرةٍ، فتمكنت من استرداد بعض الموانئ الإِسلاميَّة في البحر الأحمر مثل: مصوع، وزيلع، كما تمكَّنت من إِرسال قوَّةٍ بحريَّةٍ بقيادة «مير علي بك» إِلى السَّاحل الأفريقي، فتمَّ تحرير مقديشو، وممبسة، ومُنيت الجيوش البرتغاليَّة بخسائر عظيمةٍ.

4. السلطان سليم الأول؛ حامي الحرمين الشريفين

ترتب على فتوحات السلطان العثماني سليم الأول أن أصبحت الدولة العثمانية تضم الأماكن المقدسة في الحجاز، متمثلة في المسجد الحرام حيث الكعبة المشرفة، والمسجد النبوي الشريف مثوى النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، بالإضافة إلى المسجد الأقصى في فلسطين، أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم. وقد أضفى كل هذا على الدولة العثمانية زعامة دينية، وأضيف إلى ألقاب السلطان العثماني سليم الأول لقب "حامي الحرمين الشريفين أو خادم الحرمين الشريفين"، وصار لقبا لكل من جاء بعده من الخلفاء.

5. الخلافة الإسلامية في عُهدة السلطان سليم الأول

بعد انتصار السلطان سليم الأول في معركة مرج دابق، خطب له في أول صلاة جمعة صلاها في حلب باعتباره خليفة للمسلمين وسكت العملة باسمه. وتذهب بعض الروايات التاريخية إلى أن الخليفة العباسي المتوكل على الله آخر الخلفاء العباسيين في مصر تنازل عن الخلافة لبني عثمان في مراسم جرت في آيا صوفيا بعد عودته مع السلطان سليم الأول إلى إستانبول. وتضيف بعض الروايات أن الخليفة المتوكل قلد السلطان العثماني سليم السيف، وألبسه الخلعة في جامع أبي أيوب الأنصاري بعد مراسم آيا صوفيا.

وأيا ما كان الأمر، فقد أصبحت الدولة العثمانية هي مركز الثقل في العالم، وأصبح سلطانها هو خليفة المسلمين لا ينازعه في هذا اللقب أحد، غير أن اهتمام العثمانيين بهذا اللقب الجليل ازداد منذ القرن التاسع عشر الميلادي، واتخذوا من الخلافة وإحياء مجدها واسترداد ما كان لها من الهيبة والنفوذ والمكانة وسيلة لمقاومة ضغوط الدول الأوروبية والاستعمارية على الخلافة العثمانية.

ثالثاً: نهاية عهد السلطان سليم الأول

عاد السلطان سليم الأول إلى العاصمة إستانبول بعد أن حقق مجدا للدولة العثمانية واتساعا في رقعتها ومساحتها، وحاملاً لقب حامي الأماكن المقدسة ورافعة راية الإسلام في الشرق، وفي أثناء إقامته هبت فتنة شيعية في منطقة طوقاد الأناضولية عام 625هـ / 1519م، فأرسل إليها أحد قواده، فنجح في إخمادها والقضاء عليها، وأعاد السكون إليها. وفي عام 926هـ / 1520م توفي سليم الأول بعد أن قضى في الحكم تسع سنوات من الانتصار ورفع راية الإسلام ودحر أعداء الأمة والمتربصين بوحدتها في مشارق الأرض ومغاربها. ‏‏


المراجع:

    1.علي محمد الصلابي، الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط، (2001م)، صفحة (176:200).
    2.أحمد عبد الرحيم مصطفى، في اصول التاريخ العثماني، دار الشروق، الطبعة الثانية، صفحة (76)
    3.محمد نصر مهنا، الإسلام في آسيا منذ الغزو المغولي، الطبعة الأولى، 1990-1991، صفحة (240:247).
    4.عبد العزيز نوار، التاريخ الأوروبي الحديث في عصر النهضة إلى مؤتمر فيينا، (1999م)، صفحة (48).
    5.أحمد تمام، "سليم الأول... من السلطنة إلى الخلافة"، موقع الإسلام أونلاين، انظر: https://archive.islamonline.net/?p=9244

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

ممالك النار وأكذوبة قتل السلطان محمد الفاتح لأخيه الرضيع

ممالك النار وأكذوبة قتل السلطان محمد الفاتح لأخيه الرضيع

ممالك النار وأكذوبة قتل السلطان محمد الفاتح لأخيه الرضيع

د. علي الصلابي - خاص ترك برس

تعرض تاريخ الدولة العثمانية لحملة ممنهجة لتشويهه، ووصفه بالهمجية، والبعد عن الحضارة والقيم الإنسانية من قبل خصومه المؤرخين الحاقدين قديماً وحديثاً، وخصوصاً فيما يتعلق بفتح القسطنطينية وسيرة السلطان محمد الفاتح. ولا يزال هذا الهجوم الممنهج مستمراً ويظهر في أبشع صورة (حاقدة) في مسلسل ممالك النار الذي ملأ بالأكاذيب والاختلاق والإفك العظيم وادعائهم أن السلطان محمد الفاتح قتل أخيه الرضيع حتى لا ينافسه على سلطانه، في حين أنه لم يبلغ من العمر ستة أشهر!

لقد حاول أعداء الحضارة الإنسانية الإسلامية - قديماً وحديثاً - أن يغتالوا السلطان محمد الفاتح معنوياً بأكاذيب واختلاقات بعيدة عن الحقيقية التاريخية والواقع الحياتي لشخصه الكريم. ومن هذه الأكاذيب محاولة إلصاق تهمة للسلطان الفاتح بأنه قتل أخوه الرضيع وأن السلاطين العثمانيين اعتمدوا قانوناً يبيح لهم قتل إخوانهم دون عذر أو سبب من أجل ترسيخ سلطة السلطان وسمي بقانون "الدفن" أو قانون "قتل الإخوة"، حيث ادعوا أن المادة جاءت كما يلي: "إذا يسَر الله السَلطنة لأي واحد من أولادي ولأجل تأمين استمرارية نظام العالم، فإن قتل الإخوة مناسب حتى أن أكثر العلماء أجازوه فليعمل به"، إذ وُصف السلاطين العثمانيين بأفظع الصفات، وشوهوا تاريخ سلاطينهم الكبار، وكان لمصادر مؤرخي الاستشراق الحاقدين دور كبير في نشر هذه الافتراءات، والحقيقة التاريخية تقول:

    1. إن دستور الدولة العثمانية مواده واضحة، ففي وصية عثمان الأول لابنه أورخان وهو على فراش الموت، وكان تلك الوصية ذات دلالات حضارية وقواعد دستورية سارت عليها الدولة العثمانية فيما بعد، حيث يقول في وصيته رحمه الله:

  • يا بني إياك أن تشتغل بشيء لم يأمر به الله رب العالمين
  • وإذا واجهتك بالحكم معضلة فاتخذ من مشورة علماء الدين موئلاً... وإياك أن تبتعد عن أهل الشريعة.
  • يا بني لسنا من هؤلاء الذين يقيمون الحروب لشهوة حكم وسيطرة فأفراد، فنحن بالإسلام نحيا وللإسلام نموت وهذا يا ولدي ما أنت له أهل.

كما جاء في الوصية التي أصبحت دستوراً اعتمده السلاطين الأوائل:

  • يا بني أوصيك بعلماء الأمة، أدم رعايتهم وأكثر من تبجيلهم وانزل على مشورتهم فإنهم لا يأمرون إلا بخير.
  • يا بني إياك أن تفعل أمراً لا يرضي الله عز وجل، وإذا صعب عليك أمر فاسأل علماء الشريعة فإنهم سيدلونك على الخير.
  • إلى أن قال: من انحرف من سلالتي عن الحق والعدل حرم من شفاعة الرسول الأعظم يوم المحشر.
  • يا بني ليس في الدنيا أحد لا تخضع رقبته للموت، وقد اقترب أجلي بأمر الله جل جلاله، أسلمك هذه الدولة، واستودعك المولى عز وجل: اعدل في جميع شؤونك.

ويتضح من وصية عثمان ودستور مؤسس الدولة أن المرجعية العليا في قوانينها وأحكامها للإسلام القائم على العدل والحق وحفظ دماء الناس وأعراضهم وأن علماء الإسلام الربانيين ممن شهدت لهم الأمة بإخلاصهم وعقولهم الجبارة وتبحرهم في فهم الكتاب والسنة هم المرجعية في فهم القوانين والأحكام المستمدة من القرآن والسنة، فهي دولة العدل والحق والمعرفة والعلوم التي تلبي حوائج بني البشر في بعدها الإنساني والحضاري.

أما في وصية السلطان محمد الفاتح

يظهر لنا الواقع الدستوري الإسلامي والمبدأ الراسخ في مسيرة هذا السلطان العظيم بصورة جلية وواضحة، فهو أوصى ابنه بايزيد الثاني وهو على فراش الموت بوصية تاريخية خالدة، وهي تعبّر أصدق التعبير عن منهجه في الحياة وقيمه ومبادئه التي آمن بها، والتي وصى خلفاءه في الدولة من بعده أن يسيروا عليها، وقد جاء فيها:

كن عادلاً صالحاً رحيماً وابسط على الرعية حمايتك دون تمييز واعمل على نشر الدين الإسلامي فإن هذا واجب الملوك على الأرض.
قدم الاهتمام بأمر الدين على كل شيء ولا تفتر في المواظبة عليه ولا تستخدم الأشخاص الذين لا يهتمون بأمر الدين ولا يجتنبون الكبائر وينغمسون في الفحش وجانب البدع المفسدة وباعد الذين يحرضونك عليها.
وجاء في وصيته: بما أن العلماء هم بمثابة القوة المبثوثة في جسم الدولة، فعظم جانبهم وشجعهم وإذا سمعت بأحد منهم في بلد آخر فاستقدمه إليك وأكرمه بالمال.
وجاء فيها: لا يغرنك المال ولا الجند وإياك أن تبعد أهل الشريعة عن بابك وإياك أن تميل إلى أي عمل يخالف أحكام الشريعة، فإن الدين غايتنا والهداية منهجنا، وبذلك انتصرنا.

ولا ننسى أن من المرجعيات الكبرى في عهد السلطان محمد الفاتح كان الشيخ آق شمس الدين (الفاتح المعنوي للقسطنطينية) وهو من أصول عربية قرشية اسمه محمد بن حمزة وجده الأكبر أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وكان السلطان محمد الفاتح يجله ويحترمه ويشعر بهيبته عند الوقوف أمامه وشديد الفرح لوجوده في عصره بل عبَّر عن ذلك بقوله: إن وجود محمد بن حمزة في عصري أحب إليّ من فتح القسطنطينية" لما رأى من بركاته على دولته وشعبه وتمكنه من العلم والمعرفة والثقافة وآراءه السديدة ونصائحه الصادقة وكان شديد التمسك بقيم العدل وحقوق الناس وحقن دمائهم وأموالهم وأعراضهم وصاحب نفوذ روحي عظيم على عامة الناس والجند فيستحيل هذا العالم الرباني في مكانة علمه ومنزلته أن يسمح بقانون يسمح للسلطان بقتل إخوانه ولو كانوا رضعاً كما زعم الكذابون الذين أكلهم الحسد والبغضاء لما وفق الله للسلطان الفاتح في خدمة الإنسانية وقيمها الرفيعة كالعدل ومناصرة الحق والوقوف مع المظلومين ودحر الظالمين.

لقد أكد الباحث التركي علي همت بركي أن قانون الدفن زائف وملفق وأن هذا القانون مخالف تماماً لأحكام الشريعة.

إن المؤرخين الذين اعتمدوا على تشويه الدولة العثمانية فيما نسبوه لقوانين العثمانيين في مسألة قتل الإخوة "عثمانلي قانون نام" كانت أدلتهم في هذه الشبهة النسخة الوحيدة الموجودة آنذاك في المكتبة الملكية في فيينا تحت رقم 554 A.F، فهذه نسخة مزيفة، وتم تحريفها من قبل المؤرخين المعاديين للدولة العثمانية ووضعوا زيفهم وخلطوا القوانين بطريقة لا تمت للإنصاف ولا العدل ولا البحث العلمي.

إن قوانين الدولة العثمانية في عهد عثمان الأول والسلطان محمد الفاتح ومن بعدهم خاضعة لفقه الميزان الذي جاء في كتاب الله وسنة رسوله وغاص في استخراجها أهل التخصص من الفقهاء الكبار والعلماء الراسخين

إن أول من سمى هذا القانون بقانون قتل الإخوة هو أحد المؤرخين الغربيين المعاديين للدولة العثمانية الذي دخل المكتبة في فيينا، ووجد فيها وثيقة يزعمون أنها منسوخة عن الوثيقة الأصلية للقوانين العثمانية فنشر هذه المواد القانونية بعد ترجمتها، وسَمى البند المتعلق بتمرد أو عصيان أحد أفراد الأسرة الحاكمة أو أحد إخوة السلطان بقانون "قتل الإخوة"، ومن هنا بدأت المزايدات والأكاذيب على التاريخ العثماني مستشهدين بهذه الوثيقة، وأثناء ترجمته ونشره تم نسخ مجموعة من المغالطات والأكاذيب حول هذا القانون، وهي:

  • أولها: تسميتها بهذا الاسم قانون قتل الإخوة علماً أنه لم يكون تحت هذا الاسم للقوانين الأصلية العثمانية
  • ثانيها: أنه تم تغيير مفهوم القانون ومعناه، فبدلاً من أن يقصد به الخروج على الدولة أصبح يقصد به قتل الإخوة ولو كانوا صغاراً.
  • ثالثها: نسب القانون للسلطان محمد الفاتح وهذا غير صحيح؛ كون هذا القانون سن في الدولة العثمانية بعد أن أصبحت تمثل معظم العالم الإسلامي أي بعد قضائها على دولة المماليك، ونقل الخلافة للعثمانيين بقيادة السلطان سليم الأول وهو حفيد السلطان محمد الفاتح والذي وضع القوانين المتعلقة بتطويرها مع تطور الدولة واتساعها وتنظيم قوانينها والتي من بينها المتعلقة بالخارجين على السلطة الشرعية وحاملي السلاح ضدها.  وكما خضع تطوير القوانين في عهد السلطان سليمان القانوني خاضع لأحكام الشريعة الإسلامية ذات المرجعية العليا في الدولة العثمانية.

وإن عدم وجود النسخة الأصلية للقانون المذكور، لا يُمَكِننا من الحديث أو الحكم على صحة وجود هذا القانون أو عدمه، ولا يمكننا تقيم أسلوب الكتابة ما دام الأصل غير موجود، وإن وجود 242 فرق واختلاف بين النسخ المتوفرة، دليل على عدم صحة وجود هذه المادة القانونية من أساسها.

إن أعداء الحضارة الإنسانية الإسلامية العثمانية عملوا على تشويه تاريخها ومن أكاذيبهم أن السلطان محمد الفاتح قتل أخاه الرضيع وهي رواية مكذوبة لا أصل لها ولا دليل عليها وهذا ما ورد في مسلسل ممالك النار بدون سند تاريخي ذو مصداقية بل تجاوزا العقل والمنطق والدليل والحجة والبرهان ولا غرض لهم إلا التشويه الافتراء، وقد ظهرت أهدافهم في عدائهم للقيم والمبادئ كالعدل والحرية وحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية التي نشرتها ودافعت عنها الدولة العثمانية في عهدها الذهبي زمن فتح القسطنطينية زمن السلطان محمد الفاتح

وإن الفقهاء تكلموا عن خروج البغاة، ولو كانوا أمراء أو إخوة للسلطان لزعزعة الدولة أو للقضاء على السلطان وإزالة الحاكم الشرعي، حيث أصدر الفقهاء قوانين مستمدة من أحكام البغاة والخارجين عن سلطان الدولة الشرعي تبيح للحاكم الشرعي قتال من أشهر عليه السلاح.

وهنا يذهب المؤرخ المعروف محمد سالم الرشيدي في كتابه القيم "السلطان محمد الفاتح"، الذي كان في الأصل رسالة دكتوراه ناقشها عام 1953 ذات الاتجاه، فيرى أن هذا التشريع الإسلامي بخصوص الخروج عن السلطان ما كان إلا لحماية المصلحة العامة للدولة، ويضرب أمثلة عديدة من التاريخ العثماني عن صراع الأمراء العثمانيين على الحكم والتجاء بعضهم لأعداء العثمانيين في محاولة لكسب الدعم العسكري.

إذن، لقد تعددت النسخ المزورة والمحرفة لقوانين الدولة العثمانية وساهم أعداؤها على تزويرها بعد ترجمتها وأضافوا الأباطيل فيها، وليس من المنطق العلمي والرصانة البحثية الدقيقة وقواعد البحث المتخصص اعتماد النسخ المترجمة من لغات أخرى والمحرفة واعتمادها على حساب النسخ الأصلية التي تبين حرص القوانين العثمانية على الالتزام المرجعية العليا المتمثلة في القرآن والسنة النبوية الشريفة وأصول مذهب الإمام أبو حنيفة النعمان.

وقد قامت الدولة العثمانية على تشريع قوانين تنظم شؤونها الداخلية والخارجية وحياة رعاياها الاجتماعية والسياسية والدينية والاقتصادية، فهذا لا شك فيه، أما أن يضاف لهذه القوانين قانون قتل الإخوة بالتزوير والتحريف والاختلاق هذا القانون المخالف للعقل والمنطق والعدل والشريعة وجوزوا فيه حتى قتل الرضيع فهذا اختلاق وإفك مبين، وأما قوانين مقاتلة الخارجين على الدولة الشرعية والتصدي للأمراء المتمردين على الحكم وحملوا السلاح ضد الدولة والتجأوا إلى أعداء العثمانيين في محاولة لكسب الدعم العسكري أو الانقلاب على السلطة الشرعية، فهذا طبيعي في كل الدولة والحضارات، وله في الشريعة أحكامه المتعلقة بالخروج على السلطان الشرعي، وله تفاصيل.

إن علماء الدولة العثمانية الراسخين في فهم الشريعة يرون أن البغي الباطل على السلطان العادل الشرعي المبايع له من أهل الحل والعقد في الأمة والعمل على عزله بقوة السلاح تعتبر جريمة سياسية من حق السلطان الشرعي أن يواجههم بقوة السلاح، وقد دلت النصوص الواردة في القرآن الكريم والسنة النبوية على وجوب طاعة الإمام العادل الذي تمت بيعته بالمعروف إذ لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

كما دلت النصوص على وجوب الالتزام بعقد البيعة وحرمة الخروج ضد الإمام العادل حفاظاً على مصلحة الأمة من أضرار الفتن التي قدم تحدث، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ومن أتاكم وأمركم جميعاً على رجل يريد أن يشق عصاكم أو يفرق جماعتكم فاقتلوه". فالخروج على الحاكم له أحكام تفصيلية ذكرها فقهاء المذهب الحنفي الذي اعتمدته الدولة العثمانية وغيرها من المذاهب السنية ومن أراد التوسع فليرجع إليها. كما أن قتل أفراد الأسرة الحاكمة الذين خرجوا على الحكم الشرعي لأسباب سياسية لا يخص العثمانيين فقط، بل حتى الأنظمة الحديثة مارست ذلك، وفي التاريخ البعيد الروماني والساساني والبيزنطي والأندلسي وغير ذلك، ولا ننسى أن هناك الآلاف من الأرواح التي أزهقت في حروب طويلة الأمد في سبيل خلافة العرش في أوروبا.

إن مسألة مقاتلة الإخوة الخارجين على السلطان الشرعي بقوة السلاح له حكمه الشرعي وسنده القانوني في أحكام البغاة التي فصلها فقهاء الدولة العثمانية المتعلقة بجريمة العصيان والخروج على الدولة بالسلاح وموالاة الأعداء والتي تهدف للاستيلاء على الحكم بالسلاح والقوة والمغالبة. وهذه جريمة تسمى في عصرنا "الخيانة العظمى".

وعلى كل حال، ففي عام 1672 م قام المؤرخ العثماني حسين هازفان في كتابه "تلخيص البيان في تاريخ آل عثمان" في وضع نسخة القوانين العثمانية، وقال إنه أخذها من الوثيقة الأصلية، وقد خلت هذه النسخة من المادة التي سميت فيما بعد "قانون قتل الإخوة"، وهذا يدل على أن هذا القانون تم دسه بعد تحريف النسخة الأصلية وترجمتها للغات أخرى غير العثمانية، وأن القوانين التي تخص التمرد والخروج على الدولة تم بيانها، سيما تلك المتعلقة بأحكام البغاة.

إن التاريخ العثماني يثبت بطلان قانون قتل الإخوة المدسوس في وثائق تاريخية تم تزويرها وتحريفها، فمثلاً؛ وجود سلاطين عثمانيين تولوا الحكم بعد إخوتهم، فالسلطان العثماني مصطفى الأول تولى الحكم عام 1617م بعد وفاة أخيه السلطان أحمد الأول في نفس العام. والسلطان إبراهيم الأول تولى الحكم بعد وفاة أخيه السلطان مراد الرابع في نفس السنة (1648م)، وهناك ثلاثة أخوة تولوا الحكم متعاقبين، فالسلطان أحمد الثاني تولى الحكم عام 1691م بعد وفاة أخيه السلطان سليمان الثاني والذي تولى الحكم بدوره بعد وفاة أخيه السلطان محمد الرابع (1687م)، والسلطان عثمان الثالث (1754 – 1757م) أيضاً تولى الحكم عام 1754م بعد وفاة أخيه السلطان محمود الأول.

ولذا علينا كدراسين وقارئين وباحثين عن الحقيقية وحريصين على تاريخ أمتنا وصون تراثها والدفاع عن رموزها وعظمة حضارتنا أن نتقصى الحقائق ونسعى إلى الموضوعية والحيادية في نقل الأحداث التاريخية في أي عصر كان، ويجدر بنا الإشارة إلى أن خصوم التاريخ العثماني هم أكثر الناس بعداً عن الموضوعية والحيادية والانصاف والحكم بالعلم والتجرد للحقيقة، بل اشتهروا بالتشويه والافتراء واستخدام التزوير والكذب والافك المبين للتفرقة ونشر الفوضى، ولكن سنن الله غلَّابة، قال تعالى: {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} [الرعد: 17]

(سَتُكْتَبُ شَهَٰدَتُهُمْ وَيُسْـَٔلُونَ)، وعند الله تجتمع الخصوم ويا له من يوم عظيم (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [(المطففين:6)، فلا السلطان ينفع ولا المال ينفع ولا الأنظمة الاستبدادية الديكتاتورية تنفع .... يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم).


مراجع المقال:

    1.أحمد آق كندوز، تاريخ الدولة العثمانية المجهولة، ترجمة: سعيد أوزتوك، مطبعة أتراك السعودية، 2008.
    2.أكرم بوغرا إكنجي، "تاريخ قتل الإخوة في الإمبراطورية العثمانية"، موقع إضاءات، 6/8/2015
    3.أورهان صادق جانبولات، قوانين الدولة العثمانية وصلتها بالمذهب الحنفي، أطروحة دكتوراه، كلية الدراسات العليا، الجامعة الأردنية، 2009.
    4.عبد الرحيم بنحاده، العثمانيون: المؤسسات والاقتصاد والثقافة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2008
    5.محمد سالم الرشيدي، السلطان محمد الفاتح، دار البشير، القاهرة، 2013.
    6.محمود سالم، "حقيقة قانون قتل الأخوة ... الدولة العثمانية ... الجزء الثاني "، موقع اليوتيوب، نشر بتاريخ 19/10/2019
    7.مرعي بن يوسف الكرمي الحنبلي، قلائد العقيان في فضائل آل عثمان، تحقيق إبراهيم فاعور الشرعة، (2009)، إربد، الأردن.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!


مراجع المقال:

"حقيقة قتل الإخوة" من أجل العرش بالتاريخ العثماني (إضاءات عثمانية)"، إحسان الفقيه، شبكة الأناضول، 2020. انظر: https://cutt.us/k7EYf
تاريخ الدولة العثمانية المجهولية، أحمد آق كندوز، ترجمة: سعيد أوزتوك، مطبعة أتراك السعودية، 2008.
الدولة العثمانية: عوامل النهوض وأسباب السقوط، دار ابن كثير، بيروت، 2018م، وطبعة دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2001، انظر رابط: https://cutt.us/UNYoU
السلطان محمد الفاتح، محمد سالم الرشيدي، دار البشير، القاهرة، 2013.
شريعة قتل الإخوان وأثرها في نظام حكم آل عثمان(1520-1617)، بشرى ناصر هاشم السعيدي،  مجلة مركز بابل، العدد الثاني/ كانون الأول 2011.
العثمانيون، المؤسسات والإقتصاد والثقافة، عبد الرحيم بنحادة، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، 2008.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس