علي أبو هميلة - الجزيرة مباشر

كانت الأوضاع في قبيلة كايي بينما يشب عثمان بن أرطغرل متشبعة بالخطر من كل اتجاه، الفتى أصغر أبناء المقاتل العنيد أرطغرل بن سليمان شاه الثلاثة، وكان الأكثر ذكاءً وعقلًا، رؤيته الصافية تزن الأمور بميزان حساس، وقوة سيفه حاصدة لكل أعداء القبيلة.

جبهات الأعداء التي تحيط بالقبيلة كثيرة، المغول في الشرق يجتاحون المدن سفكًا للدماء المسلمة، وصلوا إلى قونيا وعسكروا فيها بعد أن أذلوا القبائل المسلمة وسفكوا دماء الرجال والنساء والأطفال، استطاع غيخاتو قائد المغول أن يكون صاحب اليد العليا على القبائل المسلمة، فصار حاكم الإقليم تابعًا له، بينما يميل عمه سيد القبيلة في غياب أرطغرل إلى التعامل السلمي مع المغول، تفاديًا لقتالهم وسفك دماء القبيلة، فيدفع الضرائب للمغول ويتاجر معهم.

الجانب الآخر الغربي الذي يحيط بقبيلة عثمان هي الدولة البيزنطية المسيحية التي تحتل القسطنطينية (إسطنبول)، وما حولها من مدن مسيحية هي عبارة عن قلاع تحمي القسطنطينية من الفتح الإسلامي. وعلى المنوال ذاته، يحاول عمه التعامل معهم بسياسة الاستسلام لهم وتجنب الحرب معهم، لكنهم رغم كل ذلك لا يأمنون خطر عثمان والمسلمين، ويُظهرون لهم السلم ولكنهم يتجسسون عليهم، ويخربون في المدن الإسلامية أملًا في استعادة القدس من المسلمين.

ما زالت الدراما التركية تبحث في التاريخ التركي الإسلامي، لتقدّم الدروس المستفادة منه في بناء وجدان شعبها وكذلك الشعوب الإسلامية، وحلقات (المؤسس عثمان) أحد الملامح التاريخية التي يستمر عرضها للموسم السادس على التوالي، المسلسل يعرض لبناء الدولة العثمانية على يد عثمان بن أرطغرل بن سليمان شاه، الذي كان على يده بدء فتح الأراضي التركية وانتشار الإسلام فيها.

استكمل أرطغرل فتح بعض المدن، وتبدأ أحداث العمل الدرامي من ظهور عثمان مقاتلًا فذًّا، وبناء الدولة التي شملت فيما بعد كل أراضي الإسلام من الهند وسمرقند وباكستان وأفغانستان حتى مصر والمغرب العربي، وصولًا إلى سيادتها على العالم في منتصف القرن الثامن عشر بامتدادها إلى الخليج العربي، والبحر الأحمر، والمحيط الهندي، والبحر المتوسط، والمحيط الأطلنطي، وليس الغرض من ذكر كل هذه البقاع للدولة العثمانية سوى أن نعي درس البناء، بناء الدول من أصغر قطعة أرض لا تتعدى قبيلة صغيرة حتى تصبح أمة يُحسب حسابها في العالم كله.

الدرس الأول في تلك الملاحم الدرامية هو وعي عناصر القوة التي يجب علينا أن نعتصم بها لكي نصل إلى إعادة بناء ما هُدم.

يشير العمل إلى عنصرين رئيسين، الأول هو الإيمان بالقضية التي تحملها، فهو المفتاح الأول فلا يستطيع قائد أن يحرك جنودًا حتى الموت بدون أن يقنعهم أن ما يحاربون من أجله مقدَّس، ويستحق أرواحهم التي يضحون بها.

فالقادة يسحبون جيوشهم تحت شعار المقدَّس (الحروب الصليبية من أجل المسيح وأرض الرب) وفي الظل هو الحفاظ على السلطة والنفوذ، والأموال الطائلة في أراضي الشرق، وهكذا سيجد كل محتل مبررًا لما يقوم به.

العنصر الثاني من عناصر البناء، الاستعداد والعمل بكل الطاقة من أجل النصر، والقدرة على التضحية بل الاستشهاد من أجل ما تحمله من قيم ومبادئ. عثمان ومحاربوه الدين يُمثلون القوة المقاتلة يستمدونها من إيمانهم بنشر العدالة والحرية، من إيمانهم بأن الإسلام هو دين العدل والمساواة والرحمة.

في الوقت ذاته، يُمثل الصوفيون الجزء الروحي في القضية، ويقودهم أحد الصوفيين الكبار في التاريخ العثماني الشيخ أديب علي، وللصوفيين في الدراما التركية مساحة كبيرة، فهم موجودون دائمًا كمكمل روحي للقادة الذين صنعوا مجد الدولة العثمانية، وهكذا لتبيّن الدراما التاريخية التركية أهمية الجانب الروحي وأنت تقاتل من أجل بناء الدولة، فالسيف أيًّا ما كان نوعه -أقصد هنا السلاح سيفًا أو نوويًّا- بدون قضية ولا إيمان، لا يكون إلا قطعة حديد صماء.

أحيانًا يصاب المناضل بالإحباط حينما ينظر حوله فلا يجد إلا طرقًا محبطة، يحيط به الشر من كل جانب، يمارسون كل أنواع القمع أمام أي صوت، لا يسمعون إلا لهم ولا يعملون إلا لمصالحهم، فيصاب المناضل باليأس، ويقول: لا أمل (مفيش فايدة).

لو كان الساعون لبناء دولهم استسلموا لتلك الأصوات التي تشير إلى واقع، لما قامت أمة في التاريخ قديمًا أو حديثًا، ولو فقدنا إيماننا بقوة ما نحمله من قيم ومعان لأصبحنا عبيدًا أبد الدهر.

الجزء الأول في ملحمة (المؤسس عثمان) يعطي أهمية كبرى لتلك النقطة، عثمان الرافض للانصياع والاستسلام لقوة الغزاة، من الشرق المغول، ومن الغرب إمبراطورية روما وبيزنطة، لا يكون في طريقه ومقاتليه فقط هؤلاء، ففي داخل القبيلة توجد أفاعٍ عليه التخلص منها.

أولها عمه سيد قبيلة كايي (قبيلة أرطغرل وأبنائه)، فهو يرى أن القبيلة لا طاقة لها في مواجهة القوتين، زوجة عمه وابنه اللذان يريان أن عثمان يهدد سيادتهم، ويعملان مع المغول للتخلص منه، حتى زوجة عمه الثانية تطمع أن تكون قبيلتها التي تتعاون مع المغول هي سيدة قبائل التركمان بالتخلص من أرطغرل وأبنائه وعلى رأسهم عثمان، بعض السادة من كبار تجار القبيلة الذين يجدون في التجارة مع الكنيسة والمغول ربحًا كبيرًا.

يواجه عثمان كل هؤلاء داخل أصغر قطعة أرض في حلمه بالدولة الإسلامية الكبرى، ليس فقط الأعداء بما لهم من قوة لا تستطيع نظريًّا قبيلة صغيرة مواجهتها، فضلًا عن قوة المعسكرين المغول والدول المسيحية.

بل إن العمل الدرامي يوضح لنا أن هناك من يوجدون بين المقاتلين أو الصوفيين، وهم جواسيس للراهب المسيحي (يانيز) الذي يطمع أن تكون ابنته (صوفيا) الإمبراطورة على القسطنطينية، والذي كان هو نفسه يرتدي زي الصوفيين كواحد منهم، وكان على عثمان أن يناضل مع مقاتليه خارج منظومة القبيلة، وبمعاونة الصوفيين لكي يطهر قبيلته أولًا من الخونة.

أيضًا يواجه مؤامرات الكنيسة، والمغول عبر جواسيسهم وفي المعارك، من أجل بناء أول جزء في الدولة التي تسيدت العالم أربعة قرون.

تلك الأحداث التي تبدو في عرف التاريخ صغيرة، أفرد لها العمل جزءه الأول، ليبيّن لنا أهمية نقاط البداية، فإذا توافرت لك عناصر الإيمان والقدرة على التضحية، فحينها سيكون النصر نهاية مشوارك، ولكي يكون هكذا لا بد أن تعمل بجد ومشقة لكي تكون جديرًا بالنصر، فعليك أن تدرك هدفك وطريقك، وتؤمن به، ثم تضحى من أجل تحقيق ما تؤمن به، وتنتصر.

عن الكاتب

علي أبو هميلة

إعلامي مصري


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس