ترك برس

شهد العالم الإسلامي دماراً كبيراً خلال القرنين الماضيين وتم احتلال أجزاء كثيرة من جغرافيته واستعمار شعبه، والأسوأ من ذلك كله، أن الحالة النفسية التي أوصله الاستعمار إليها، عطلت قدرته على التفكير والتحليل، وهو لا زال يعاني من فقدان شجاعته ورغبته بالعمل. وحتى اليوم، يبدو أن هذه الحالة النفسية مستمرة. فبعد الحرب العالمية الثانية، استمرت الدول التي نالت استقلالها جزئياً في العيش تحت تأثير القوى المستعمرة، ولم تتطور إرادة الاستقلال الثقافي والسياسي والاقتصادي قط بين أفراد المجتمع الإسلامي ولم يظهروا أي علامة على الإيمان بتحقيق هذا الهدف.

وأصبح العالم الإسلامي المنطقة الرئيسية التي شهدت الدمار والحروب الأكثر شراسة خلال الثلاثين إلى الأربعين سنة الماضية. وانتهت المعارك التي دارت جنوب آسيا وأمريكا الجنوبية وأفريقيا بطريقة أو بأخرى، ولكن بعد ذلك استهدفت صناعة الأسلحة الجغرافيا الإسلامية لإجراء مناورات عسكرية. فالغرب بعد أن عانى من جحيم الحربين العالميتين الأولى والثانية، بدأ يرتكب المجازر وكأنه ينتقم من المسلمين الذين لم يشاركوا في هاتين الحربين، ما أدى إلى زيادة التفرقة وتعميق الخلافات.

الصراع الداخلي في العالم الإسلامي

كانت الحرب التي وقعت بين الطائفتين الشيعية والسنية واحدة من أكبر الحروب في التاريخ الحديث. ولم نفهم مدى الخلفية الاجتماعية القوية لهذه الحرب إلا في نهايتها عندما قامت السلطات الدينية الإيرانية بإنهائها، حزناً على إراقة الكثير من الدماء، دون أن يعرف أحد سبب استمرارها لسنوات. وهذا دليل على أن العالم الإسلامي يمتلك قوة الإرادة، وعندما يتم التعبير عنها، يمكن أن تكون هناك حلول بناءة.

كما أن ما حدث في أفغانستان مليء بالمآسي التي ينبغي مناقشتها بمفردها. ولا يبدو أن الأفغان الذين قاوموا الغزو الروسي أولاً ثم الغزو الأمريكي قد سئموا من القتال فيما بينهم. لقد أصبحت أفغانستان مكاناً أصبح فيه القتال أسلوب حياة الآن، ويمكن للمرء أن يحلم بالسلام هناك ولكن لا يتوقعه في المستقبل القريب. وهناك حروب مستمرة في العديد من البلدان مثل سوريا والقوقاز والسودان. كذلك فإن الإبادة الجماعية البوسنية التي وقعت وسط الغرب، هي من أعظم مآسي هذا القرن، وهي بالوقت نفسه مأساةً عظيمةً للمسلمين. وهي تشبه المرحلة الأولى من الحرب في أذربيجان.

ومع ذلك لم تؤثر أيٍ من هذه الحروب على المجتمع الإسلامي بعمق كما حدث في فلسطين، ولم تشغل أجندتها بقدر ما احتلت أحداث فلسطين. ويبدو أن الحرب بين إسرائيل والعالم العربي، والتي يعود تاريخها إلى قرن من الزمان، قد اكتسبت أبعاداً جديدة وما زالت مستمرة في فلسطين. ولكن لماذا تمس فلسطين قلوب المسلمين أكثر من أي كارثة أخرى شهدوها حتى الآن؟

إن أول ما يتبادر إلى أذهاننا بالتأكيد ليس عدد القتلى أو الدمار. لأنه بالمقارنة مع الدول الإسلامية الأخرى، هناك عدد أقل من الضحايا، وكذلك الدمار لا يمكن أن يكون بنفس السوء الذي رأيناه في بلدان أخرى. وقد تم القضاء على أعظم مدن الحضارة الإسلامية مثل بغداد ودمشق، وفقد ملايين السوريين أرواحهم وبيوتهم وأراضيهم في حرب مستمرة منذ أكثر من 10 سنوات، وما مر به البوسنيون من تطهير عرقي وغيره. لذلك، لا يمكن أن تكون الخسائر البشرية ولا مستوى الدمار، هما السبب وراء وضع فلسطين على رأس جدول أعمال العالم الإسلامي. إذن لماذا أصبحت فلسطين في دائرة الضوء أكثر؟

الحرب التقليدية تكون بين أطراف متساوية

أعتقد أن السبب الأول هو أن هذه ليست حرباً عادية بين قوتين متساويتين، بل هي قمع منهجي لشعب محتجز في أرضه وتجري إهانته باستمرار. فالظلم والإهانة لهما تداعيات أخطر من القتل، ناهيك عن ترك المسلمين الآخرين عاجزين ومحبطين مع شعور قوي بالذنب، وفي المقابل يبدأون في البحث عن جهة يمكنهم إلقاء اللوم عليها وإدانتها. وربما كانت هذه هي الخطة قد اعتُمدت طوال الوقت: الإحباط الناتج عن العجز يولد الغضب، ومع هذا الغضب المتزايد، نبدأ في الابتعاد بتفكيرنا حتى عن المظلومين. ولأن البشر لا يستطيعون أن يعيشوا مع مثل هذه الفترة الطويلة من الدمار، ومن أجل التخلص من العبء عن عقولهم، يشعرون بالحزن أولاً، ثم يبحثون عن شخص آخر يلومونه، وأخيراً، يلجأون إلى الامتناع عن فعل أي شيء. وتمثل غزة مثالاً نموذجياً لكيفية جعل الناس يشعرون بالعجز.

لقد تعرض السكان المحتجزون في السجن المسمى غزة، للتعذيب والقتل والإهانة بشكل منهجي من قبل إسرائيل، كلما خطرت هذه الفكرة في ذهنها. ولا يوجد سبب أو قاعدة أو مقياس لقمعهم. ولو كانت الحرب بين طرفين متساويين، وكان لدى المضطهدين حد أدنى من القدرة على الدفاع عن أنفسهم، لكان الناس يشعرون بالاضطراب ولكن ليس باليأس.

الجانب الثاني من المشكلة يتعلق بصورة إسرائيل. فالمجتمع الإسلامي يحمل الغرب في شخص إسرائيل، مسؤولية كل ما يحدث من دمار واعتداءات وحروب، وذكرياتهم المليئة بمثل هذه الصدمات تتجدد في كل مرة تقوم فيها إسرائيل بعدوان جديد. وتذكرهم إسرائيل بالعلاقات والقيم المتعددة الأبعاد التي يريدون تقاسمها مع الغرب، وخاصة مع الولايات المتحدة. ويؤكد وقوف الغرب متحداً مع إسرائيل بدعم غير مشروط، عدم وجود أي معنى حقيقي لقيم العالم الحديث، وهذا الوضع يضعف علاقة المسلمين مع إسرائيل ويجعلهم أكثر وحدة وعزلة. وفي الواقع، لم تتآكل "قيم" العالم الحديث إلى هذا الحد ولم تكن المعايير المزدوجة واضحة كما هي اليوم. وفي مثل هذه الأجواء يتعامل المجتمع الإسلامي مع الصراع الفلسطيني باعتباره نفاق العالم الحديث الذي لم يتقدم ولو قليلاً منذ قرون، ويتزايد غضبهم مع ثبوت صحة حجتهم في كل مرة.

أما الجانب الثالث للمشكلة فهو ارتباطها بالدين. فهذه الحرب بالنسبة للإسرائيليين، هي حرب مقدسة. ولا يعتبرها المسلمون حرباً من أجل الدين فقط. وبالنسبة لهم، الإسرائيليون ليسوا عدوهم الأبدي، ولا هم مجتمع يجب محاربته وإخراجه من هذه المنطقة.

ومن ناحية أخرى، لا يمكن تبرئة الإسرائيليين من ردود أفعالهم التاريخية والعنصرية، وخصوصاً أن الغرب يصورهم وكأنهم "يدافعون عن الدين" لأسباب أخرى. ولهذا يغضب المجتمع الإسلامي لأن ما يسمى بالقيم ما هي إلا أداة تستخدم لتبرير المعتقدات الخرافية، وتصورات ومفاهيم غير دقيقة وباطلة. لذلك نجد الصراع الفلسطيني يرمي بأعباءٍ ثقيلةٍ على كاهل المجتمع المسلم ويؤثر عميقاً في وجدانه.


**مقال تحليلي للكاتب التركي أكرم دميرلي نشرته صحيفة ديلي صباح..

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!