د. علي محمد الصَّلابي - خاص ترك برس

اِستوعب القائد الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي أنَّ من أسباب تحقيق الانتصار ضد الخطر الباطني، والعدو الصليبي هو وجود القيادة الرَّبانية، فهي التي تستطيع أن تنتقل، بفضل الله وتوفيقه، بالأمَّة نحو أهدافها المرسومة بخطواتٍ ثابتة، وكان على قناعةٍ تامة بضرورة وجود العلماء والفقهاء العاملين على رأس القيادة الربَّانية، فهم قلب هذه القيادة، وعقلها المفكر، وأصحاب الرأي السديد، والقول الصادق. فصلاح الدين الأيوبي كان يُدرك بأنَّ تحرير الديار الإسلامية، وتوحيدها، ليس عملاً سياسياً أو عسكرياً فحسب، بل إنَّه أوسع من ذلك بكثير، وإنه بدون تأصيل «الذات العقائدية» للأمَّة المسلمة، فلن تكون انتصاراتهم على الخصم سوى أعمالاً جزئيةً، معرَّضةً دوماً للمدِّ والجزر، وللتغيير والتبدُّل كما كان يحدث دائماً، وما يقتضيه «الموقف»، هذا ليس مجرد انتصار خارجي في معركة، أو استرداد حصن، إنما هو بناء أمة مقاتلة، تعرف كيف تحمي وجودها العقائدي، وتحفظ حدود شخصيتها الحضارية من أن تتفتَّت، وتضيع، وتفقد بريقها، خصوصيتها العظيمة.

أولاً: من هو القاضي الفاضل؟

الإمام العلاَّمة البليغ، القاضي الفاضل، محيي الدين، يمين المملكة، سيد الفُصَحَاء، أبو علي عبد الرحيم بن علي بن الحسن العسقلاني، صاحب ديوان الإنشاء الصَّلاحيِّ، سمع في الكهولة من أبي الطاهر السِّلفي، وأبي محمد العثماني، وأبي القاسم بن عساكر، وأبي الطاهر بن عوف، وعثمان بن فرج العبدري، انتهت إلى القاضي الفاضل براعة الترسُّل، وبلاغة الإنشاء، وله في ذلك الفَنِّ اليدُ البيضاء، والمعاني المبتكرة، والباع الأطول، لا يُدْرَكُ شأوه، ولا يُشَقُّ غُبَارُهُ مع الكثرة، أخذ الصنعة عن الموفِّقِ يوسف بن الخَّلال صاحب الإنشاء للعاضد، ثم خدم بالثَّغر مدةً، ثم طلبهُ ولد الصالح بن رُزِّيْك، واستخدمه في ديوان الإِنشاء، قال العماد: قضى سعيداً، ولم يُبق عملاً صالحاً إلا قدَّمه، ولا عهداً في الجنة إلا أحكمه، ولا عَقْدَ برٍّ إلا أبرمه، فإن صنائعه في الرِّقاب، وأوقافه متجاوزة الحساب، لاسيما أوقافه لفكاك الأسرى، وأعان المالكية، والشافعية بالمدرسة، والأيتام بالكتَّاب، كان للحقوق قاضياً، وفي الحقائق ماضياً، والسُّلطان له مطيع، ما افتتح الأقاليم إلاَّ بأقاليد ارائه، ومقاليد غناه، وغَنائه، وكنت من حسناته محسوباً، وإلى الائه منسوباً، وكذلك كتابتُهُ كتائب النَّصر، ويراعاته رائعة الدَّهر، وبراعته بارية للبرِّ، وعبارته نافثة في عُقَدِ السِّحر، وبلاغته للدولة مُحَمِّلَةً، وللمملكة مُكَمِّلَةً، وللعصر الصلاحيَ على سائر الأعصار مُفَضِّلَةً، نسخ أساليب القدماء بما أقدمه من الأساليب، وأعربه من الإبداع. ما ألفيته كرَّر دعاءً في مكاتبةٍ، ولا ردَّد لفظاً في مخاطبة

وقال عنه أبو شامه: كان ذا رأي سديدٍ، وعقل رشيدٍ معظَّماً عند السلطان صلاح الدين، يأخذ برأيه، ويستشيره في المُلِمَّات، والسلطان له مطيع، وما فتح السلطان الأقاليم إلا بأقاليد ارائه، وكانت كتابته كتائب النَّصر (سير أعلام النبلاء، الذهبي، م21، ص339). وقد تولى القاضي الفاضل، وساهم في أعمالٍ كثيرةٍ في عهد صلاح الدين، والتي منها:

1 ـ القاضي الفاضل، ورئاسة ديوان الإنشاء

عندما كان صلاح الدين الأيوبي وزيراً للدولة الفاطمية في مصر؛ كان يعتبر بمنزلة السلطان، ويُلقَّبَ بلقبه، بينما كان القاضي الفاضل رئيساً لديوان الإنشاء، ويعتبر بمثابة وزيره، ظلَّ القاضي الفاضل يعمل في ديوان الإنشاء رئيساً له مع أنَّه حافظ على لقب نائب رئيس ديوان الإنشاء احتراماً لأستاذه، وراعيه، ورئيسه الشيخ الموفق أبي الحجَّاج يوسف بن الخلال وكانت رئاسة ديوان الإنشاء أقصى ما تمنَّاه القاضي الفاضل من مناصب، فبعد صراعٍ دام واحداً وعشرين عاماً في مصر ـ تعرَّض خلالها لشتى أنواع المعاناة ـ توصَّل إلى المنصب الذي كان بعضُ الكتَّاب المصريين يحاول الحيلولة دونه. وقد أصبح بعدما تولَّى المنصب يلقب بالسَّيد الأجل، وبالشيخ الأجل، كاتب الدَّست الشريف، وصاحب ديوان الإنشاء، وغلب عليه لقب القاضي الفاضل، الذي أصبح يعرف به أكثر من اسمه الأصلي عبد الرحيم البيساني العسقلاني، الذي يشير إلى موطنه، ومسقط رأسه وتولى القاضي الفاضل ديوان الإنشاء في مصر، وعلى الرغم من وجود كتّابٍ أكبر منه سناً؛ فقد قابلهم عند أول دخوله الديوان تلميذاً، وتدرَّب على يد بعضهم، مثل القاضي الأثير بن بيان، وعاصرهم، ثم عمل معهم، وهو يقفز في ترفُّعه، وهم ثابتون في أماكنهم، وهو ما أثار حفيظة بعضهم. وواضحٌ: أنَّ شخصية القاضي الفاضل الجيَّاشة، وقدرته على التكيُّف، وذكاءه الحادّ، وحدسه الشديد في معرفة مواطن القوَّة، والضَّعف في القادة من العوامل التي أدَّت إلى ارتقائه السريع، ولكن أسلوبه الفني فسح أمامه مجالاتٍ، وافاقاً، وهذا يدلُّ على أهمية الأدب في السياسة، وعلى تقدير رجالات الدولة في ذلك العصر للأدب، والأدباء، ورعايتهم لذوي المواهب منهم. وحالما تولَّى القاضي الفاضل رئاسة ديوان الإنشاء؛ راح يعمل مع صلاح الدين على الإعداد المتدرِّج للقضاء على الدولة الفاطمية، وكانت أولى الخطوات في هذا الاتجاه إعداد جيشٍ أيوبيِّ ينفَّذ به مخطَّط الانقلاب (القاضي الفاضل، هادية دجيل، ص124).

2 ـ القاضي الفاضل، وجيش صلاح الدين الأيوبي

أخذ صلاح الدين يعمل حال توِّليه الوزارة على إعداد جيشٍ أيوبيٍّ؛ ليكون نواةً لجيشٍ مصريٍّ، يدافع به عن مصر من الغزو الإفرنجي، ولم يَخْفَ عليه تدهور وضع الجيش الفاطمي؛ لأنه خبره في أثناء رحلاته الثلاث إلى مصر وعرفه معرفةً جيدةً من حيث مصادره البشرية، والمالية، والحربية، ومن حيث تنظيمه، وفرقه المبنية على أساسٍ عرقيٍّ، مثل السُّودان، والأرمن، والمصريِّين، والديلم، والأتراك، والعربان، وكان يعرف بالتفصيل وضع كلَّ فرقةٍ من هذه الفِرقَ وعرف القاضي الفاضل الكثير عن القوات المصرية عن طريق عمله معها في ديوان الجيش، وفي ديوان الإنشاء؛ الذي كان يتعامل مع ديوان الجيش، ويشرف على العيون، والرُّسل، فألمَّ بهذه القوات، وعرف دخائلها، وأطَّلع علىكلِ فرقةٍ منها، وعلى كلِّ قائد من قوَّادها، ولم يضنَّ بمعلوماتهَ عنها على صلاح الدين، بل وجَّهه في تنظيم جيشه الأيوبي، وإدارته، وظلَّ طوال مدَّة عمله مع صلاح الدين يشرف على عساكره، يراقب إعدادها، وتنظيمها، ومواردها المالية، يصحبها من مصر إلى الشام؛ لتحارب مع صلاح الدين، ومن الشام إلى مصر؛ لتستعدَّ، وتتجهَّز لحملاتٍ مقبلةٍ ضد الفرنج

ومع أن القاضي الفاضل كان رئيساً لديوان الإنشاء، ووزيراً لدولة صلاح الدين؛ إلا أنه كان يُلِمُّ بكلِّ صغيرةٍ، وكبيرة في الجيش بحكم علاقة ديوان الإنشاء بديوان الجيش، وكان يساهم في إعداد الخُطط الحربية، ويُشرف على تمويل الجيش، والأسطول، وتزويدهما، وتجهيزهما للجهاد، وقد واظب على هذه المسؤوليات طوال مدَّة عمله مع صلاح الدين.

3 ـ القاضي الفاضل، والقضاء على المعارضة الفاطمية

استمدَّ القاضي الفاضل أسس تحرُّكاته السياسية في بداية وزارة صلاح الدين من خبرته في القصور الفاطمية، وضمن الجيوش، ومع الوزراء، والمديرين، وأدرك: أنَّ هذه المؤسسات، وما تضمُّه من شخصيات وَكْرٌ للمؤامرات؛ التي لا تنتهي، ومعينٌ للدَّسائس؛ التي لا تنضب، وقد تعامل معها جميعاً، وشاهدها من قبل، وأيقن أيضاً: أنها لن تتوانى عن الاستنجاد بالفرنج على الرَّغم من كلِّ ما مرَّ بها، وبالشعب المصري من مصائب، ومِحَن في سبيل الحفاظ على نفودها، ولا سيَّما إذا رأت في سلطة صلاح الدين، أو في سلطة الأيوبيين عامَّةً خطراً عليها، ومن ثَمَّ فإنَّه أخذ حالما خوَّله صلاح الدين ما خوَّله من مسؤولياتٍ مطلقةٍ في الإدارة يبثُّ عيونه ضمن هذه المؤسَّسات، والمجموعات، والأفراد الذين عرفهم، وخاف شرَّهم. وأمَّا المؤسَّسات، والمجموعات هذه؛ فقد أخذت تخطَّط بدورها للقضاء على حكم صلاح الدين وقد كان اكتشاف المؤامرة من مسؤوليات ديوان الإنشاء، وبالذَّات القاضي الفاضل؛ الذي ظلَّ يراقب كتَّاب ديوان الإنشاء، والمسرَّحين منهم بصورة خاصة.

وقد ساهمت جهود القاضي الفاضل في كشف مؤامرة مؤتمن الخلافة، وتمَّ القضاء على شوكته، وفلَّ صلاح الدين شوكة الأرمن، وهم الفرقة التالية للسُّودان قوةً وعدداً، فأحرق داراً للأرمن بين القصرين، وفيها عددٌ كبير من الجنود الأرمن، معظمهم من الرُّماة، ولهم رواتب من الحكومة، وكان هؤلاء قد حاولوا أن يعرقلوا حركة قوَّات صلاح الدِّين في أثناء المعركة مع السُّودان برميهم بالنشَّاب، فلقوا جزاءهم، وأما من تبقى منهم؛ فنفاهم صلاح الدين إلى الصَّعيد،ولقد ساهم القاضي الفاضل في هذا التغيير؛ الذي مهَّد لحكم صلاح الدين المطلق في مصر، وتوليته هو (القاضي الفاضل) وزارة صلاح الدين، والقضاء على الخلافة الفاطمية (صلاح الدين الأيوبي، الصلابي، ص298).

4 ـ إعادة التنظيم الإداري في مصر

شرع القاضي الفاضل في تنفيذ مخطَّط قلب نظام الحكم الفاطمي بالتخلُّص من أصحاب الدَّواوين، والكتَّاب الموالين للفاطميين، وكان بحكم عمله في الدواوين على علمٍ برجالات الدولة، وأصحاب دواوينها، وكتَّابها، وبولاءاتهم السياسية، وميولهم المذهبية، ولقد صاحب بعضاً منهم، وعادى، أو نافس بعضاً اخر، وقد واتته الفرصة للتخلُّص، ممَّن يستطيع التخلُّص منه، ففعل، وتخلَّص من عددٍ كبير من الكتَّاب الشيعة الإسماعيلية، والمسيحيين، واليهود، وغيرهم خوفاً من أن يتامروا مع الفلول الفاطمية، أو أن يتَّصلوا بالفرنج باسم الدواوين التي يعملون فيها. ولقد ثبت صدق ظنِّه فيما بعد عندما راح هؤلاء يدبِّرون مؤامرةً لإحباط حكم صلاح الدين. وكما أنَّه سرَّح الكتَّاب، والإداريين؛ الذين شكَّ في ولائهم؛ فإنَّه أبقى الإداريين الذين ضَمِن ولاءهم، والذين كان بحاجةٍ إلى إدارتهم، ومعلوماتهم، ومساعدتهم في تطبيق مخطط الانقلاب وإن تكن فكرة إنشاء المدارس السنية مستوردةً من الشام على غرار ما فعله نور الدين فيها من إنشاء مدراس شبيهة بمناهجها، وموضوعات تدريسها في المدرسة النظامية ببغداد؛ فإن تمويل هذه المدارس، واختيار المدرسين فيها كان ضمن مسؤوليات القاضي الفاضل.

فمن ضمن إصلاحاته الإدارية في فترة وزارة صلاح الدين فصلُ ديوان الأحباس الفاطمي؛ الذي كان يشرف على إدارة المؤسسات الدينية، وتمويلها، وتزويدها عن ديوان الأموال، وجعله ديواناً مستقلاً تحت إدارة الوزير مباشرةً (أي: صلاح الدين) قبل القضاء على الفاطميين، وتحت إدارته هو بعد القضاء عليهم، ومن ثم فقد كان المسؤول الأكبر عن إدارة هذه المؤسَّسات المهمة، وعن اختيار المدرِّسين فيها، وقرَّاء القران، والحديث، والوعَّاظ، والأئمَّة، وكان هؤلاء جميعاً من وسائط التغيير. وكان من المعروف: أنَّ صلاح الدين كان يعتمد على خبرة القاضي الفاضل في اختيار هؤلاء؛ وهو في مصر، وظلَّ على ذلك عندما انتقل إلى الشام؛ إذ كان يستشيره في الناحيتين التربوية، والدينية (النظم المالية في مصر في زمن الايوبيين، حسنين ربيع،ص85).

5. القاضي الفاضل، والقضاء على الدولة الفاطمية

لقد أشار المؤرخ المصري المقريزي إلى الدَّور الذي قام به القاضي الفاضل في الانقلاب على الفاطميين بقوله: واستعان صلاح الدين به (أي: بالقاضي الفاضل) على ما أراد من إزالة الدَّولة الفاطمية؛ حتى تّم مراده، فجعله وزيره، ومستشاره، وإن كلمة استعان تشير إلى دور القاضي الفاضل في تنفيذ مخطَّط صلاح الدين في القضاء على الدولة الفاطمية، كما أن اختيار صلاح الدين القاضي الفاضل وزيراً له ما هو إلا تعبير عن تقدير صلاح الدين لدور القاضي الفاضل في هذا المخطَّط الخطير، وفي تأسيس قواعد الدَّولة الأيوبية؛ التي سبقت هذا المخطط، وهذا الاختيار يشير أيضاً إلى اعتراف واضح من صلاح الدين بدور القاضي الفاضل في إطاحة الفاطميين، وبأهمية القاضي الفاضل لخطط صلاح الدين المستقبلية، ولقد ظل صلاح الدين يجني ثمرة اختياره القاضي الفاضل وزيراً له حتى وفاته، ولقد كانت أعمال القاضي الفاضل في الإدارة المصرية منذ عهد أسد الدين، وأقواله في كتاباته في عهد صلاح الدين تشير إلى دوره الكبير في دعم الوجود السُّنِّي في مصر. وأدرك صلاح الدين: أنَّ القاضي الفاضل إنسانٌ عظيم عقلاً، وعلماً، ومكانة، وفي إمكانه أن يوصله إلى أهدافه في مصر من خلال مصادره الوافرة. وهكذا تضافر الرجلان على تحقيق غايةٍ كبرى أحسَّا بها، فعمل كلٌّ في ميدانه على تحقيقها فأصبح في دولة صلاح الدين وزير الدولة، والرجل الثاني فيها، فإنَّه حقق بذلك كل ما يطمح رجلُ السياسة إليه من نجاح أهدافه، وقضيته بمساهمته في التخطيط، والعمل، كما حقَّق نجاحه هو، وعلوَّ أمره، وتلك مطابقةٌ تشهد له بالمواهب العريضة، والدَّهاء الفائق كان القاضي الفاضل المتحدَّث الرسمي بلسان السُّلطان صلاح الدين في الدَّاخل، والخارج، وكان على حدِّ قول ابن كثير: أعزَّ عليه من أهله، وولده، وكان السُّلطان يشيد بفضله، فيقول: لا تطنُّوا أني ملكت البلاد بسيوفكم، بل بقلم الفاضل، وقد بلغ القاضي الفاضل مكانةً سامية في الدَّولة، فكان الساعد الأيمن لصلاح الدين؛ إذ جعله: وزيره، ومشيره بحيث كان لا يُصدر أمراً إلا عن مشورته، ولا ينفذ شيئاً إلا عن رأيه، ولا يحكم في قضيةٍ إلا بتدبيره (عيون الروضتين، أبي شامة، ص139).

6ـ القاضي الفاضل، والجهاد في سبيل الله

صحب القاضي الفاضل صلاح الدين في جميع غزواته ببلاد الشام، ثم أقام بمصر؛ ليشرف على الإدارة المالية، ويعمل على تجهيز الجيش، والأسطول، وبعدئذٍ عاد إلى بلاد الشام بجوار صلاح الدين، وظلَّ بالقرب منه حتى مرضه الأخير، ووفاته مع القاضي ابن شدَّاد سنة 589هـ/1193م، وهناك مواقف حاسمة للقاضي الفاضل تؤكِّد مكانته، وعلوَّ منزلته في الدولة الصلاحية، فعندما كان السُّلطان صلاح الدين مقيماً على مرج الصفر في بلاد الشام عام 571هـ/1176م طلب الصليبيون الهدنة منه، فأجابهم إلى ذلك مضطراً «لأنَّ الشام كان مجدباً» ثم أرسل جيشه في صحبة القاضي الفاضل إلى الدِّيار المصرية؛ حتى يستريح أفراد الجيش بها من ناحيةٍ، ولخوفه من حدوث أيِّ اضطرابات في مصر أثناء غيابه عنها من ناحيةٍ أخرى، ولذلك كان إرساله للجيش بصحبة القاضي الفاضل غاية الحزم، والتدبير، ليحفظ ما استجدَّ من الممالك خوفاً عليه ممَّن هنالك.

وإلى جانب ذلك كان القاضي الفاضل دائماً يلازم السُّلطان صلاح الدين في جهاده، ولعلَّ ما يؤكد ذلك تلك الرسالة التي بعث بها إلى السُّلطان صلاح الدين يعتذر فيها عن عدم مشاركته في الجهاد ضدَّ الصليبيين على حارم سنة 573هـ/1177م، لرغبته في أداء فريضة الحج.

7ـ وفاة القاضي الفاضل (رحمه الله)

كان للأمراض التي تراكمت على القاضي الفاضل أثرٌ في ابتعاده عن الجوِّ السياسي، فقد كان ضعيف البنية، كثير المرض، وكان هذا يؤخِّره عن الاشتراك في بعض الغزوات عندما كان صلاح الدين حياً، وفي رسائله كثيرٌ من الإشارة إلى مرضه، وضعفه اللذين ازدادا بعد وفاة صلاح الدين وقد توفي القاضي الفاضل بعد كلِّ هذه الالام الجسمية، والمعنوية في السَّادس من ربيع الأول 596هـ/1199م. قال العماد الأصفهاني في حوادث هذه السنة ناعياً إيَّاه: تمَّت الرزيَّة الكبرى، والبليّة العُظمى، وفجيعة أهل الفضل بالدِّين، والدنيا، وذلك بانتقال القاضي من دار الفناء إلى دار البقاء في داره بالقاهرة (مفرج الكروب، جمال واصل،مج2،ص68).

إنَّ هذا العالم والقاضي الرَّباني علِّمنا دروساً مهمة، ومنها:

-      عدم الانعزال عن الشأن العام، والعمل الاجتماعي، والحكومي

-      الحرص على كسب الخيرات

-      أهمية التميُّز في أداء العمل

-      التمسُّك بمنهج أهل السنة، والتعاون مع إخوانه في العقيدة الصحيحة

-      توظيف القدرات والإمكانات لخدمة المشروع السُّنِّي؛ إذ قدَّم لصلاح الدين النماذج السنية القيادية، والخطط العملية، ولم يبخل عليه برأيٍ، ولا مشورةٍ، ولا تجربةٍ.

-      كانت حياة هذا الرَّجل مدرسةٌ في فهم مقاصد الشريعة، وفقه المصالح والمفاسد، وبناء الدولة وزوالها، كما نتعلَّم منه ـ وهو الرَّجل المفكر، والمفتي، الكبير في دولة صلاح الدين ـ

-      أهمية معاملة عامَّة الشيعة بقوانين العدل، ومحبة الخير لهم، وعدم سفك دمائهم، والحرص على تعليمهم، وإنما يكون استخدام القوَّة ضدَّ المؤامرات العسكرية، ومع من لا يجدي معهم إلا استخدام لغة السلاح والقوَّة.  


المراجع:

1.    سير أعلام النبلاء، شمس الدين محمد أحمد الذهبي، مؤسسة الرسالة، ط7، 1990 م.

صلاح الدين الأيوبي، علي الصلابي، ط1، دار ابن كثير، دمشق، سورية، 2009م.

3.    عيون الروضتين في أخبار الدولتين، شهاب الدين أبو شامة، حققه أحمد البيسومي، وزارة إحياء التراث العربي، دمشق، 1991 م.

4.    القاضي الفاضل عبد الرحيم البيساني العسقلاني، هادية دجاني شكيل، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، الطبعة الثانية، بيروت، 1999 م.

5.    مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، جمال الدين محمد بن سالم بن واصل، مج2.

6.    النظم المالية في مصر في زمن الايوبيين، حسنين ربيع، دار النهضة العربية، القاهرة، 1990م.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس