يوسف قابلان - يني شفق

إن الشريعة هي المصدر الوحيد الذي يبقي المجتمعات حية وفعالة وذات قدرة على الاستمرار. وتلك الشرائع قد تكون ذات أصل ديني، أو علمانية أو لا دينية. إن النظام القانوني هو آلية عمل مطورة بدقة وعناية، مبنية على أساس شريعة المجتمع، تم بناؤها تدريجيا عبر التاريخ من خلال التجارب المتراكمة.

القانون يستمد وجوده ومعناه من روح المجتمع وقيمه، ومن الإرادة التي تراكمت عبر المعاناة من الماضي إلى المستقبل، لتشكل طابع المجتمع وقدره. فالنظام القانوني الذي لا يرتبط بروح المجتمع وقيمه وتجاربه التاريخية لا يفيد ذلك المجتمع بأي شيء، بل وأسوأ من ذلك، لا يساهم إلا في تقويضه.

باختصار النظام القانوني لأي مجتمع هو شريعته، الروح ومجموعة القيم والمبادئ التي تكون هذا المجتمع.

النظام القانوني في تركيا.. الأوليغارشية البيروقراطية الوصائية

إن القوة التي تبقي على نظام الأوليغارشية البيروقراطية، الذي يشكل أساس نظام الوصاية في تركيا، هي النظام العلماني المستورد الذي تم فرضه على هذا المجتمع من الخارج ومن الأعلى باستخدام الأساليب الجاكوبية. وقد كان الهدف الأساسي للنظام القانوني العلماني المستورد هو ابتكار نظام دولة و سياسة خال من الإسلام وتشكيل مجتمع بعيد عن الإسلام.

بعبارة أخرى لا يعتمد النظام القانوني في تركيا على روح المجتمع وقيمه وإرادته التاريخية في البقاء ومبادئه. بل على العكس، فإنه يرتكز على الرغبة في إقصاء الإسلام، المصدر الوحيد الذي يشكل روح المجتمع وقيمه وإرادته التاريخية في الظروف العادية، وعلى إلغائه وتدميره في الظروف غير العادية، أي في ظل الانقلابات العسكرية.

أود أن ألفت انتباهكم إلى أن الجمهورية التركية حتى عام 1928، كانت تسعى لتأسيس شرعيتها على أساس نظام قانوني إسلامي. ولكن منذ عام 1928، انحرفت في الاتجاه المعاكس تماما، حيث أصبح مصير الدولة والمجتمع التركي يحددهما بالكامل نظام قانوني علماني مستورد بالكامل من الغرب، يقصي الإسلام.

إن مصدر مساعي بناء دولة علمانية ومجتمع علماني هو هذا النظام القانوني العلماني المستورد، والذي نطلق عليه اسم "نظام الوصاية، الأوليغارشية البيروقراطية".

فالدولة لا تبنى على النظام السياسي، بل على النظام القانوني، الذي يشكل بدوره نظامها السياسي.

والمجتمع الذي يفقد نظامه القانوني يفقد روحه وقيمه وإرادته في البقاء، كما يفقد دولته التي تم بناؤها وتطويرها على أساس روحه وقيمه وإرادته في البقاء، والتي تحافظ على روحه وقيمه وتبقيها حية.

هل نواجه انقلابا قضائيا؟

حكمت المحكمة الدستورية بتجريد رئيس الجمهورية من صلاحيات إقالة محافظ البنك المركزي وتعيين رؤساء الجامعات، وهذا قرار خطير للغاية.

إنه قرار مثير للقلق للغاية ومثير للجدل، حيث يظهر كيف تم رهن إرادة الشعب لذهنية مستوردة.

ما هذا؟ هل هو انقلاب قضائي؟ وإن لم يكن انقلابا قضائيا، فما هو إذن؟

يجب التحقيق في مصدره بدقة. فالمحكمة الدستورية موجودة لحماية حقوق الشعب.

وليس لحماية وصيانة النظام الأوليغاركي البيروقراطي الذي يعد نظام وصاية ذا جذور وأوتار خارجية، ولا لحماية مصالح ما يعرف بالأتراك البيض، الذين ليسوا أتراكا ولا مسلمين بل ذلك مجرد أسطورة حضرية، والذين يعملون كأتباع للنظام العالمي، والذين قاموا بالقضاء على أبناء هذا الشعب العزيز واحدا تلو الآخر، مثل قطع معصمي عبد العزيز، وخلع عبد الحميد من العرش، وإرسال مندريس إلى منصة الإعدام، وتنظيم اغتيال أوزال، وقتل محسن يازجي أوغلو أمام أعيننا، وتدبير محاولة الانقلاب الخائنة في 15 يوليو باستخدام شبكاتهم الداخلية ضد أردوغان. باختصار ليس لضمان مصالح حفنة من الأقلية الطاغية التي تضمن مصالحها عبر نهب موارد البلاد لصالح أسياد النظام العالمي.

كل الانقلابات في هذا البلد بدأت أولا بانقلاب قضائي وقانوني، فقد حاولوا إضفاء الشرعية على جميع الانقلابات العسكرية بقولهم "نستخدم حقنا الدستوري بموجب سلطة القانون".

جميع الانقلابات العسكرية في هذا البلد كانت موجهة ضد الشعب بهدف إخضاعه، ولوقف توجه الشعب نحو الهوية والحساسيات الإسلامية. فعندما تبين أن الشعب يتبنى الهوية الإسلامية وحساسياتها، تم تنفيذ الإنقلابات سعيا لوقف هذا التوجه.

بمعنى أكثر وضوحا وصراحة، وقعت كل الانقلابات في هذا البلد، عندما بدأت تركيا كمجتمع تظهر مؤشرات على التحرك نحو مسار واتجاه إسلامي، من أجل منع هذا التوجه الإسلامي. خشية أن يؤدي توجه المجتمع نحو المسار والاتجاه الإسلامي إلى توجه الدولة نحوه أيضا. تعرض المجتمع للانقلاب على يد جلادين متنكرين في زي عسكري، جذورهم في الخارج ورؤوسهم في الداخل، يعشقون جلادهم ويخضعون له.

إن لم يكن سلب سلطات رئيس الجمهورية المنتخب بإرادة الشعب، إنقلابا، فما هو إذن؟

لنفترض أن تصرفكم قانوني. لماذا خطر على بالكم الآن؟ أكان قانونيا بالأمس، وأصبح غير قانوني اليوم؟ ألا يوجد تناقض وعبث في ذلك؟

إن الجامعات والبنك المركزي هما مؤسستان أساسيتان تسهمان في توجيه استقلال ومستقبل البلاد. ألا يعتبر سحب هذه الصلاحيات من رئيس الجمهورية المنتخب بإرادة الشعب انقلابا وتدخلا قانونيا في استقلال ومستقبل البلاد؟ من سيحمي قانون هذا الشعب إن لم تحميه المحكمة الدستورية؟ هناك الكثير من الأسئلة المحيرة تدور في ذهني وتصيبني بالأرق.

عن الكاتب

يوسف قابلان

كاتب تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس