يوسف قابلان - يني شفق

تعتمد السياسة الأوروبية على القانون الروماني، والقانون الروماني هو شريعة روما الوثنية، ونظرا لتأسيس القانون الأوروبي على "الشريعة" الرومانية الوثنية، فقد شكلت ثلاثة تقاليد وثنية المسيحيةَ، وبالتالي أوروبا، أكثر من أن تكون المسيحية قد شكلت أوروبا، فمن الناحية الفكرية، الوثنية اليونانية. ومن الناحية القانونية، الوثنية الرومانية. ومن الناحية الدينية، اليهودية الوثنية.

تعد هذه المصادر الثلاثة التي أسست أوروبا الحديثة، الدعائم الثلاث الأساسية التي لا تقبل الجدل ولا غنى عنها في مسيرة الحضارة الغربية من الماضي إلى المستقبل، ولا تزال مستمرة في عملية تكوينها.

الدور المُغفَل لليهودية الوثنية في تأسيس الغرب

يمكن أن يتيح لنا تتبع سؤال كهذا فرصة لدراسة ممتعة توسع آفاقنا، من بين هذه الأعمدة الثلاثة المؤسسة، أيها هو المصدر الذي أضفى على الحضارة الغربية لونها وروحها بشكل أكبر؟

لطالما كانت الإجابة على هذا السؤال حتى يومنا هذا هي "الحضارة الإغريقية الرومانية". ولكن هذه الإجابة، كما يمكنكم التوقع، باتت مكررة ومبتذلة. فمن المؤكد أن الإغريق والرومان تركوا آثارا عميقة في نفسية الأوروبيين. لكن هناك وجها آخر للقضية، لا ينال نصيبه من الشرح والبيان، ألا وهو: دور اليهودية.

لذلك، عند طرح السؤال حول أي من الدعائم الثلاثة منحت الروح واللون لأوروبا، أجيب بأن اليهودية هي التي فعلت ذلك. فقد لعبت اليهودية المحرفة دورا محوريا كقوة دافعة لمسار الإنسان نحو التعلم والعلمانية والوثنية عبر التاريخ. وبنى العقل اليوناني والقانون الروماني، تحت تأثير ودفع هذه القوة الوثنية لليهودية، الحضارة الغربية الوثنية التي أصبحت رأسمالية.

كانت المسيحية التاريخية دينا داخليا، بل انطوائيا، وروحانيا إلى حد ما. أجبرت قسوة روما الوثنية المسيحيين الأوائل، والحواريين على الاختباء في كهوف على قمم الجبال، مما عزز سمة العزلة وشخصية المسيحية. ولذلك كانت الكنائس الأولى هي أديرة تأسست على قمم الجبال معزولة عن المجتمع. ويمثل الدير رمزا قوية للهروب من العنف ومن قذارة العالم وصدئه إلى الداخل، إلى العالم الداخلي للإنسان.

هنا يأتي التقليد اليهودي المحرف الوثني، الذي قلب عالم المسيحية المنغلق رأسا على عقب ودفعه نحو قطب معاكس، ليصبح علمانيا. فقد لعب الاقتصاد المالي العلماني المادي القائم على المال والذي نشأ وترسخ في المدن الإيطالية، وكذلك الخدمات المصرفية التي شرعنت الفائدة التي كانت محرمة في المسيحية، دورا حاسما في إغواء الكنيسة وبالتالي المسيحية نحو الرأسمالية.

كان هذا الميل اليهودي نحو العلمانية أحد المصادر الرئيسية التي لعبت دورا حاسما في علمنة أوروبا، وابتلاع المسيحية وجعلها دنيوية ووثنية. كما أن الميل اليهودي اليهودية نحو العلمانية كان له دور حاسم في علمنة المسيحية، وتهميشها عن الحياة وتحويلها إلى مسألة إيمانية فردية. وكان لهذا الميل أيضا دور بارز في تشريع القانون الغربي كقانون يناصر الأقوياء ويخدم النخب والطبقات المميزة.

أود هنا أن أفند سردية مألوفة عن نشأة الحضارة الغربية، تلك السردية التي تصور لنا هذه الحضارة وكأنها ثمرة حصرية للثقافتين الإغريقية والرومانية. لقد تم إغفال دور اليهودية المحرفة في تشكيل هذه الحضارة بشكل كبير، بل إن الأمر يتعدى ذلك، فقد غيرت اليهودية الفكر اليوناني والقانون الروماني وجعلتهما شبها لها.

في بناء الروح الوثنية الأوروبية، أدى ميل اليهودية نحو الدنيوية والعلمنة والوثنية إلى محاصرة الفكر اليوناني والقانون الروماني في فخ الثنائية. كان الميل نحو اليهودية مدفوعا برغبة في السيطرة على المال والعالم؛ وهذه الرغبة في السيطرة على كل شيء هي التي منحت الحضارة الغربية شخصيتها.

القانون الغربي: قانون الامتيازات، والقانون الإسلامي: قانون الحقوق والشعوب

لذلك فإن القانون الغربي، حتى في مجال الحقوق، لا يهدف إلى تحقيق العدالة، بل إلى توسيع الامتيازات وتوزيعها. فالنظام الليبرالي الغربي ليس نضالا من أجل الحرية، بل هو نضال من أجل تقاسم الامتيازات. وقد شرح كل من فرناند بروديل في كتابه الرائد "تاريخ وقواعد الحضارات" وويليام ماكنيل في كتابه "إعادة التفكير في التاريخ الأوروبي" هذه الفكرة بوضوح وبشكل جميل جدا.

القانون الغربي هو قانون أصحاب الامتيازات. ولذلك رغم الخطاب المغري الذي طوره القانون الأوروبي الوثني حول "حقوق الإنسان، والحريات، وسيادة القانون"، إلا أنه لم يشرع كقانون لحماية الحقوق والشعوب، بل لضمان وحماية امتيازات مراكز القوة.

على النقيض من ذلك، فإن الشريعة الإسلامية، كقانون إسلامي، ليست قانونا للامتيازات وأصحاب الامتيازات، بل هي قانون يضمن العدل والحقوق والحقوق الطبيعية للشعوب.

لذلك، لا أعلم ما إذا كان ممكنا لمن تحولت عقولهم إلى مقبرة للخرافات المعاصرة في تركيا، والذين ينتابهم الرعب عند سماع كلمة "الشريعة" ويعشقون جلادهم، أن يفهموا أن الشريعة الإسلامية، كقانون إسلامي، هي واحدة من أقوى التجارب القانونية التي تدافع عن الحق والعدالة ضد القوة، وذلك وفقا لفلاسفة القانون الغربيين أنفسهم.

ولكن ما قاله وائل حلاق، وهو المرجع الأول في العالم في هذا المجال، والذي يعرف القانون الإسلامي والقانون الغربي الحديث وما بعد الحديث بشكل جيد، يحتوي على ملاحظات مهمة من شأنها أن تزعزع راحة مثقفينا العلمانيين المساكين الذين تحولت أذهانهم إلى مكب للنفايات من الخرافات المعاصرة. يقارن حلاق بين القانون الغربي والشريعة الإسلامية، ويشرح بإسهاب كيف أن القانون الغربي لا يرقى إلى مستوى القانون الإسلامي في مجال الحقوق.

تمثل الشريعة الإسلامية قانونا للحقوق والواجبات، حيث يتم رفع الامتيازات، ويصبح إرساء العدالة الهدف الأساسي. ويمثل الفقيه ـ ممثل الشريعة الإسلامية ـ نموذجا لعالم الدين، حيث يقف في منتصف الطريق بين الحاكم والشعب، حاميا إياهم من ظلم القوة. لا يوجد في الغرب شخصية مشابهة للفقيه.

لم يتمكن الشعب التركي حتى الآن من صياغة دستوره الخاص. آمل أن تساهم هذه المقارنات التي أجريتها، استناداً إلى تاريخ وفلسفة القانون، في عملية صياغة الدستور، وتقدم فائدة للحقوقيين ورجال الدولة.

عن الكاتب

يوسف قابلان

كاتب تركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس