صالحة علام - الجزيرة مبااشر

في تمام الساعة الرابعة إلا عشر دقائق فجر الثلاثاء الماضي، وفي أجواء اتسمت بالكثير من العصبية والتوتر بين نواب الائتلاف الحاكم -العدالة والتنمية والحركة القومية- وأحزاب المعارضة، ووسط حالة من الرفض والغضب الشعبي اختتم البرلمان التركي مناقشات استمرت على مدى ثلاثة أيام بإقرار قانون جديد لحماية الحيوان.

وينص هذا القانون على ضرورة قيام البلديات بحملة واسعة النطاق لجمع أعداد كبيرة من كلاب الشوارع، والشروع في إخصائها، ووضع شرائح إلكترونية في آذانها، وتصويرها تمهيدا لعرضها على المواطنين لتبنّيها، وفي حال لم يتقدم أحد خلال ثلاثين يوما لتبنيها يتم إعدامها باستخدام حقنة لا تسبب ألما للحيوان، وهو ما يطلق عليه مصطلح “القتل الرحيم”.

تبدو المسألة في ظاهرها مجرد إجراء تنظيمي، ومحاولة من جانب الحكومة لإيجاد حل لمشكلة بدأت التفاقم من وجهة نظر شريحة من المواطنين الذين تعرض بعضهم لتجارب مؤلمة تمثلت في مطاردة الكلاب لهم واعتدائها عليهم؛ مما أصبح يثير الخوف والفزع في نفوسهم.

وهو إجراء طبيعي يجب ألا يؤدي إلى هذه الحالة من الغضب والرفض والاحتجاجات التي تجتاح أوساطًا عدة في المجتمع التركي بدءًا من محبي الحيوانات، ومنظمات المجتمع المدني، ومرورا بأحزاب المعارضة، وانتهاءً بنقابة الأطباء البيطريين، التي أعلنت في بيان لها أن أعضاءها من الأطباء لن يكونوا ملتزمين ببنود هذا القانون، ولن يقوموا بعمليات القتل الرحيم المنصوص عليها فيه، لتنافي ذلك بشدة مع الأخلاق والإنسانية والضمير، وأن نقابتهم قدمت العديد من التوصيات التي يمكن بتطبيقها من جانب الجهات المعنية تقليص عدد الكلاب في الشوارع.

لكن التشكيك في النيات، الذي بدأ يتم تداول أسبابه، ربما يرسم جزءا من الحقيقة لما هو مستتر وراء تعجل الحكومة، وإصرارها على إقرار القانون بهذه السرعة من جانب البرلمان قبل بدء عطلته الصيفية، ورفضها التريث في الأمر، والاستماع إلى وجهات النظر المتباينة حول الموضوع، خاصة أن العديد من شركات الاستطلاع قامت بإجراء استفتاءات شعبية حول وجهة نظر الشارع فيما يحمله القانون من بنود، فأبدى 2.7% فقط من المشاركين في أحد هذه الاستطلاعات موافقتهم على مسألة القتل الرحيم.

وهو ما يعني أن النسبة الكبرى من المواطنين ترفض هذا التوجه الذي تصر عليه الحكومة، ولا تؤيد الإجراءات التي تفضي إليه، خاصة مسألة جمع الكلاب، والزج بها في ملاجئ خاضعة لسلطة البلديات، حيث يعلم القاصي والداني أن الحيوانات التي توضع في هذه الملاجئ تعدّ في عداد الموتى، إما لسوء المعاملة والإهمال، وإما بسبب الجوع.

هذا إلى جانب عدم وجود عدد كاف من الملاجئ يتسع لهذا العدد من الكلاب الذي يتجاوز أربعة ملايين وفق تصريحات المسؤولين أنفسهم، فضلا على ضعف الميزانيات المخصّصة لهذا الأمر وسط ديون تحاصر البلديات، وتعيقها عن تطوير هذه الملاجئ، وتلبية احتياجات قاطنيها.

فلماذا العجلة الآن، والإسراع في إقرار قانون كان يمكن التريث فيه، بل وتحميل مسؤولية تطبيقه للبلديات -ومعظمها تديره المعارضة- من خلال تكليفها بمهمة العمل على تطبيق بنوده التي ترفضها أحزابها، ولماذا لم يتم السعي بكل هذه الهمة والعزيمة لإقرار مثل هذا القانون خلال عقود من سيطرة الحكومة على معظم البلديات داخل الدولة، بالنظر إلى كونها تتبوأ السلطة داخل البلاد منذ أكثر من اثنين وعشرين عاما؟!!

تبدو المسألة إذن أعمق من مجرد حل مشكلة اجتماعية، وإلا لما انبرت أحزاب المعارضة لتعارض هذا القانون بكل هذه الشراسة والحدة، إذ أعلن حزبا الشعب الجمهوري، والديمقراطية ومساواة الشعوب أن البلديات الخاضعة لإشرافهما لن تقوم بتطبيق هذا القانون.

بل ذهب أوزغور أوزيل زعيم الشعب الجمهوري أكبر أحزاب المعارضة إلى أبعد من هذا، حيث صرح بأن حزبه سيقوم بتصعيد الأمر إلى المحكمة الدستورية للنظر في مدى مخالفة هذا القانون لبنود الدستور التركي تمهيدا لإلغائه.

ترى أحزاب المعارضة الرافضة للقانون أن الائتلاف الحاكم يسعى بهذا القانون للانتقام منها بعد هزيمته أمامها في الانتخابات المحلية، وخسارته الكثير من البلديات الكبرى التي كانت تحت سيطرته لعقود طويلة.

فالقانون المشار إليه يعاقب من جهة مسؤولي البلديات في حال فشلهم في تنفيذ بنوده بالسجن مدة تصل إلى عامين مع عزلهم من مناصبهم، وفي حال انصياعهم لتنفيذ بنوده سيكونون هدفا لحملات ملاحقة غاضبة من جانب محبي الحيوانات، ومنظمات المجتمع المدني المدافعة عن حقوق الحيوانات؛ مما يعني حدوث مواجهة بين هذه الأحزاب ومؤيديهم الذين صوتوا لهم.

وفضلًا عن ذلك، يأتي إقرار هذا القانون متزامنا مع ممارسة الحكومة ضغوطا كبيرة على قيادات البلديات لتحصيل مديونيات الضمان الاجتماعي التي ورثتها معظم البلديات عن رؤساء بلديات سابقين تابعين لحزب العدالة والتنمية، وفي هذا الإطار تتحمل كل من إسطنبول وأنقرة -التابعتين حاليا لحزب الشعب الجمهوري- أعلى نسبة مديونية تصل إلى 67% من إجمالي 3 مليارات دولار وفق تصريح لوزير الضمان الاجتماعي، وهو ما يفرض عبئًا غير طبيعي على البلديات.

بينما جاء تصريح الرئيس أردوغان الذي أدلى به حول موضوع حيوانات الشوارع أواخر عام 2021، بعد تعرض طفلة في محافظة غازي عنتاب لهجوم كلبين، حيث طالب البلديات بجمع الكلاب سواء تلك التي يملكها أفراد أو الضالة، وإيداعها في الملاجئ، داعيا من وصفهم بـ”الأتراك البيض” بالاهتمام بحيواناتهم الأليفة، وعدم التخلص منها بتركها في الشوارع، لكونهم الطبقة الأكثر تقدما ورقيا في المجتمع كما يدعون.

ومصطلح “الأتراك البيض” يطلق في تركيا على العلمانيين، والكماليين، واليساريين، وكل من يتبنى الأفكار الغربية داخل المجتمع، وهو ما عد حينذاك نوعا من تصفية الحسابات بين التيار العلماني والإسلامي.

وانطلاقًا من تعاليم الإسلام الذي يدعو إلى الرحمة بالحيوان، وتوفير سبل العيش له، يوجه الكثيرون انتقادات إلى الحكومة ذات التوجه الإسلامي، ويعربون عن استنكارهم لتعاملها بهذه القسوة مع أرواح لا حول لها ولا قوة.

وقد أتت تصريحات فاتح أربكان زعيم حزب “الرفاه من جديد” ذي التوجه الإسلامي لتخفف من وطأة الحملة على الإسلاميين، إذ وجه انتقادات شديدة إلى الحكومة، مؤكدا أن القانون الذي صاغه وأقره حزب العدالة والتنمية “ينتهك روح تعاليم النبي محمد صلى الله عليه وسلم”، مشيرا إلى أن “الحياة التي منحها الخالق سبحانه وتعالى لا يمكن أن يأخذها إلا هو، يتساوى في هذا جميع الأرواح سواء في ذلك الإنسان والحيوان”.

لكن الرئيس أردوغان رفض أية محاولة للتشكيك في رحمة الحكومة ورأفتها مشيرا إلى أن الحلول التي تم اعتمادها من قبل لم توفر حلا يجعل الشوارع آمنة للجميع.

يربط بعض المتابعين بين هذا القانون والزلزال المدمر الذي يتنبأ الجولوجيون بوقوعه في إسطنبول، ويحذرون من كارثته التي ينتظر أن تقضي على الأخضر واليابس في المدينة، ويشيرون إلى حادثة وقعت عام 1910 حينما جُمعت آلاف من الكلاب الضالة في جزيرة نائية ببحر مرمرة، وتُركت هناك لتموت بسبب الجوع والعطش؛ لتنهار بعد هذه الحادثة الدولة العثمانية بكاملها، فهل من رابط بين الأمرين؟!

عن الكاتب

صالحة علام

كاتبة وصحفية مصرية مقيمة في تركيا


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس