د. باسل الحاج جاسم - الحياة

بدأ الجيش التركي عملية عسكرية في سورية سميت درع الفرات، في خطوة تتصدى بها أنقرة للتهديدات والتأثيرات بسبب غياب الدولة في الجارة سورية، والأهم في كل ذلك، دعم المجموعات السورية المعتدلة، وبالتالي تحرير المناطق التي تضرر سكانها، وكسب ودهم، وإعادة المهجرين منها، بعد سيطرة الميليشيات الكردية و"داعش" عليها، وهذا التغير السياسي والعسكري في سورية من شأنه دعم الاستقرار الإقليمي.

صحيح أن خطوة تركيا جاءت "متأخرة" في الوقت الذي أخذت ميليشيات انفصالية التمدد لقطع أوصال سورية، وتهديد الأمن القومي التركي مباشرة، إلا أنه يمكن تفسير التأخر بأن أنقرة لم تكن ترغب في القيام بأي تحرك عسكري خارج أراضيها من دون غطاء دولي، وعرقل ذلك أيضاً التوتر التركي - الروسي الذي ساد خلال 8 أشهر، إلا أن مسارعة الجانب الكردي لتحقيق مشروعه باستغلال الفوضى التي تجتاح سورية، جعل أنقرة تجد ألا مفر لها من التدخل بنفسها.

وقال الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في مؤتمر صحافي عقب بدء العمليات العسكرية: "بدأنا عملية ضد تنظيم داعش الإرهابي، وتنظيم ب. ي. د الكردي الإرهابي شمال سورية"، وأضاف: "نفد صبرنا تجاه التنظيمات الإرهابية التي تستهدفنا من داخل سورية".

تأخر تركيا بالتدخل جاء لمصلحتها في شق كبير منه، وجعل الخريطة السورية مكشوفة أمامها سياسيًا وعسكريًا، وباتت تميز صديقها من عدوها هناك، وإسراعها بالتدخل بعد المصالحة مع موسكو مباشرة كان موفقًا، وباتت اليوم قادرة على المناورة أكثر من أي وقت مضى، وهو ما عبر عنه أردوغان بقوله: "بعد اليوم، لن نقبل أي سيناريو لا تشارك تركيا فيه".

لا يخفى أن خطَّي حلب عاصمة الشمال السوري، والموصل هما دِرعا الدفاع الأولان لتركيا في حدودها الجنوبية، وستبذل أنقرة كل ما في وسعها لمنع تنامي أي خطر إرهابي على طول الخطين، وأي كيان قومي يسعى إلى تغيير الحدود الجغرافية أو الديموغرافية للمنطقتين سيكون العدو الأول لتركيا وسيقع في نطاق الأهداف التركية.

ويمكن تلخيص أهداف تركيا التي تريد تحقيقها بعملية درع الفرات: إيقاف تمدد «داعش» وتأمين حدود تركيا، وإجبار حزب العمال الكردستاني في امتداده السوري على التراجع إلى شرق نهر الفرات «مبدئياً»، ومنعه من تنفيذ مخططه بمحاصرة تركيا من الجنوب الشرقي، وبالتالي تقسيم سورية، ووضع حد للتنظيمات الإرهابية في سورية المدعومة من جانب أميركا وبعض الدولة الأوروبية، ودعم المجموعات المعتدلة الصديقة على الأرض، وكسب تعاطف الناس هناك، وعلى صعيد سياسة تركيا الداخلية فإن هذه العملية ستشغل الجيش بحماية الأمن القومي التركي خارج الحدود.

مدة تحقيق الأهداف أعلاه متعلق بالحرب الداخلية السورية، وإمكانات الأطراف المتقاتلة، أهدافها ونيات داعميها، والمؤكد أن عملية «درع الفرات» ستستمر حتى ضمان إجماع كل الأطراف السورية على تشكيل نظام سياسي.

لا يخفى أن تركيا استطاعت جمع المتناقضات لتتبدل مواقف مختلف الأطراف تجاه تدخلها العسكري المباشر في سورية، فلم تعد روسيا تعارض تحليق الطيران التركي في الأجواء السورية (للمرة الأولى بعد أزمة إسقاط المقاتلة الروسية)، وأيدت واشنطن العملية العسكرية التركية، وشاركت فيها طائرات التحالف الدولي والطائرات من دون طيار التي تتبع له، كما تخلت بعض فصائل المعارضة السورية عن موقفها الرافض قتال تنظيم «داعش» وحصر نشاطها بقتال النظام السوري.

صحيح أن الأتراك يغيرون مواقفهم بسرعة وسلاسة، وهنا تعتبر عودة العلاقات التركية - الروسية التغيير الأهم في الشأن السوري، إلا أن التغيير الحقيقي الذي يمكن أن تحققه تركيا في شأن الحرب في سورية، والمنطقة في شكلٍ عام هو أن تكون جسراً بين كل الأطراف، وصعوبة المرحلة أن على عاتق أنقرة مهمة إثبات قدرتها على إحداث فرق في مسار الأحداث في سورية، بعد أن باتت كل الأطراف تدرك استحالة فوز طرف واحد دون الآخرين.

يمكن القول أن التحركات العسكرية التركية الأخيرة في سورية في شق منها، نتيجة للتقارب التركي - الروسي، بالنظر إلى حقيقة أن نظام الأسد بات تحت حماية موسكو وأن العلاقات الروسية - التركية آخذة في التحسن، فروسيا تتفهم مصالح تركيا في المناطق الشمالية السورية، وهي تشبه مصالح روسيا في شرق أوكرانيا، وليس من الصعب التكهن بأن الذي يدعم الموقف التركي في شأن حزب العمال الكردستاني الآن أكثر، سيكون لديه أفضل العلاقات مع أنقرة.

الواضح أن تركيا لا تحافظ على المكون الديموغرافي للمناطق المحيطة بها من خلال العمليات العسكرية فقط، وإنما تستخدم القوة الناعمة أيضاً لتحقيق ذلك، من خلال المساعدات الإنسانية الخدمية المقدمة للاجئين السوريين والعراقيين والمساعدات الخدمية التي ستقدم لسكان جرابلس أيضاً، والتي باتت نقطة تحول استراتيجية، وذلك في إطار جهود تركية للحفاظ على المكون الديموغرافي (العربي – التركماني)، الذي يمنع تشكل مكون ديموغرافي آخر يؤثر في الأمن الاستراتيجي لتركيا، ويوقف تمزيق سورية.

مساعدة أنقرة في عودة من يرغب من اللاجئين والنازحين السوريين إلى مناطقهم التي فروا منها، إن كان بسبب سيطرة «داعش» أو الميليشيات الكردية، تجعلنا نتوقع عودة عشرات آلاف السوريين الذين لجأوا إلى دول الجوار، بعد أن يتم تحرير منبج والباب وتل رفعت بعملية درع الفرات، (خير مثل جرابلس وبدء عودة المئات إليها بعد تحريرها)، حيث ليس لتركيا أي مصلحة في استمرار الحرب في سورية، فلم تنل أنقرة منها، سوى المشكلات طوال السنوات الخمس الماضية.

على مدى السنوات القليلة الماضية، سيطرت الميليشيات الكردية - السورية المرتبطة بحزب العمال الكردستاني، على أجزاء واسعة من شمال سورية، واستفاد الأكراد من اتفاق عدم اعتداء (متعثر حالياً) مع حكومة الأسد، فضلًا عن تاريخ من العلاقات مع روسيا وإيران، والسبب الأهم هو دعم الولايات المتحدة في إطار استخدامها في الحرب ضد «داعش»، ولكن احتمال وجود كيان حزب العمال الكردستاني الممول بالنفط والمدعوم من واشنطن على الحدود الجنوبية لتركيا هو شيء في غاية الخطورة.

تتصدر منع تركيا ميليشيات كردية من إنشاء كيان عازل على حدودها، أولويات الحكومة التركية، حيث تخشى تركيا نجاح جهود الأكراد إقامة منطقة حكم ذاتي في سورية على غرار المنطقة الكردية في شمال العراق، وهو ما قد يحفز طموحات الأكراد بإقامة دولة انفصالية مماثلة في تركيا.

وليس مستبعداً حصول أردوغان على تعهد من بوتين خلال زيارته الأخيرة إلى سان بطرسبرغ، بأن موسكو لن تدعم أي وجود كردي مستقل على الحدود التركية - السورية، ولكن إلى اليوم لا يمكن اعتبار الأكراد من الخاسرين... فالحسكة وأهم منابع البترول السورية ما زالت في أيديهم، وهذا يعني أن هناك أكثر من معركة مؤجلة آتية في إطار الحرب السورية.

أظهرت الأحداث الأخيرة عجز أميركا عن إدراك «حدود المساومة» عند شركائها ومنافسيها، والسؤال هنا عن مدى جدية واشنطن في الحرب ضد «داعش»، فإذا لم تكن هناك حلول سياسية – عسكرية تعالج الخلل والأسباب التي مكّنت «داعش» من الظهور والازدهار، فستولد الحرب الحالية حروباً عدة، ومعظمها سيكون بين حلفاء واشنطن في سورية والعراق.

تحاول واشنطن استدراج أنقرة إلى حرب واسعة ضد «داعش»، بعد أن سبق وضللتها في مخططاتها لدعم الامتداد السوري للعمال الكردستاني، وأن دوره لن يتعدى كونه أداة للحرب على "داعش"، إلا أن الواقع أثبت عكس ذلك.

يبقى القول: "عملية درع الفرات شمال سورية، عملية دفاعية بحتة وليست حرباً، بينما تحاول واشنطن من خلال دعوتها أنقرة إلى توسيع نطاق تحركها العسكري نحو الرقة، إسقاطها ربما في فخ".

عن الكاتب

د. باسل الحاج جاسم

كاتب وباحث في الشؤون التركية الروسية، ومستشار سياسي، ومؤلف كتاب: كازاخستان والآستانة السورية "طموحات نمر آسيوي جديد وامتحان موسكو"


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس