ميخائيل موشكين - فزغلياد - ترجمة وتحرير ترك برس

مؤخرا، شهد العالم حربا كلامية طاحنة بين الساسة الأتراك والعديد من السياسيين في مختلف الدول الأوروبية، على غرار ألمانيا، وهولندا، والنمسا وغيرها من البلدان الأوروبية، التي ترفض سياسة أردوغان "الاستبدادية" على حد زعمها، في حين تنادي أغلبها بمكافحتها. في المقابل، وفي ظل هذه الأحداث، تظهر موسكو على أنها الشريك الموثوق بالنسبة لأنقرة والمستعد لدعمها ضد هذا العدوان الأوروبي.

وكرد فعل دبلوماسي، دعت روسيا كلا من الاتحاد الأوروبي والسلطات التركية إلى مزيد ضبط النفس. ومن جهة أخرى، وجهت روسيا نداء لكل من هولندا وتركيا بضرورة تجنب التصعيد في المواقف السياسية، على خلفية الصراع بينهما.وفي هذا الإطار، قال المتحدث باسم الرئاسة الروسية، ديمتري بيسكوف، إنه "من المستبعد أن يكون هناك حاجة لتدخل وسطاء بين الدولتين لفض الخلاف، إلا أن على كل من هولندا وتركيا ضبط النفس لتجاوز هذه الأزمة".

 وفي الأثناء، وجهت وزارة الخارجية التركية، يوم الاثنين، مذكرة شديدة اللهجة لهولندا، تتهمها من خلالها بانتهاك حقوق الإنسان على خلفية الإجراءات التي اتخذتها الشرطة الهولندية ضد الأتراك ووزيرة الأسرة والشؤون الاجتماعية التركية، فاطمة بتول كايا، في مدينة روتردام. وفي هذا السياق، أعلن ممثل وزارة الخارجية التركية عن مطالبة بلاده بضرورة تقديم تعويض فعلي عن هذه الانتهاكات، فضلا عن كتابة اعتذار رسمي عن ممارستها الأخيرة تجاه الوزراء الأتراك.

"الفاشيون" من "جمهورية الموز"

في الحقيقة، انتقلت وزيرة الأسرة والشؤون الاجتماعية التركية، فاطمة بتول كايا من ألمانيا إلى روتردام الهولندية حتى تشارك في تجمع سياسي مؤيد للرئيس التركي أردوغان، بغية مناقشة الأسباب الكامنة وراء قرار إجراء تعديلات على الدستور التركي وإقناع الجالية التركية بالتصويت لصالح القرار في الاستفتاء. في المقابل، قامت الشرطة الهولندية بفض الاجتماع وطرد الوزيرة، الذي اعتبرته أنقرة تصرفا غير لائق. 

من جانب آخر، رفض رئيس الوزراء الهولندي الاعتذار عن قرار حظر نزول طائرة وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو على الأراضي الهولندية. ومقابل إصرار السلطات الهولندية على مواقفها المعادية لتركيا، وصف الرئيس التركي أردوغان الحكومة الهولندية "بالفاشية"، ونعت هولندا "بجمهورية الموز".

وفي الوقت ذاته، نددت وسائل الإعلام التركية بهذا الوضع، حيث اعتبرت أن الأمر عبارة عن "إحياء للفاشية على نطاق واسع" في أوروبا، كما أوردت أن "بعض الدول الأوروبية قد اتخذت قرارات ليس لها أي علاقة بحرية الفكر والتعبير".

علاوة على ذلك، تداولت وسائل الإعلام التركية تصريحات الرئيس التركي، الذي أقر بأن "أوروبا قد كشفت عن وجهها الحقيقي للعالم وسقط قناعها، وذلك في ظل تنامي الممارسات الفاشية والعنصرية وتفشي ظاهرة الإسلاموفوبيا خاصة بين قادة أوروبا الغربية".

في الواقع، يبدو أن هولندا تسير على خطى ألمانيا، التي ألغت ثلاث اجتماعات كان من المقرر أن يعقدها ثلاث وزراء من الحكومة التركية على أراضيها. والجدير بالذكر أن العلاقات الألمانية التركية قد شهدت مؤخرا بعض التقلبات، حيث وجه أعضاء الحكومة التركية العديد من الانتقادات الحادة لألمانيا باعتبارها المسؤولة عن إطلاق الحملة المعادية لتركيا في أوروبا، إلا أن الحكومة الألمانية اعتبرت ذلك إهانة وتشويها لسمعة ألمانيا.

وخلافا لألمانيا وهولندا، سمحت السلطات الفرنسية بزيارة السياسيين الأتراك لألمانيا وتنظيم لقاءات مع المواطنين الأتراك المقيمين هناك. ونتيجة لذلك، تعرضت الحكومة الفرنسية إلى موجة من الانتقادات، من قبل الشعب الفرنسي والسياسيين. وفي هذا الصدد، نشرت مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان تغريدة على التويتر تساءلت فيها "لماذا علينا أن نتسامح مع سياسات رفضتها ديمقراطيات أخرى؟ لا نريد حملات انتخابية تركية في فرنسا".

بالإضافة إلى ذلك، اعتبر المرشح المستقل، إيمانويل ماكرون أن تصريحات أردوغان غير مقبولة، كما أنه من غير الصائب استقبال الوزراء الأتراك على الأراضي التركية والسماح لهم بالترويج لأجنداتهم السياسية، بينما رفضت بقية الدول الأوروبية استقبالهم. علاوة على ذلك، دعا ماكرون بلاده إلى دعم هولندا.

أوروبا أمام مخاطر جسيمة

انطلقت موجة التوتر بين تركيا والبلدان الأوروبية من ألمانيا، عندما أغلقت "الأبواب" أمام السياسيين الأتراك، بعلّة أنها ترفض أن تسمح بإجراء حملات انتخابية تروج للاستبداد التركي. ونظرا للمكانة الرائدة التي تتميز بها ألمانيا في قلب الاتحاد الأوروبي فقد تأثرت بقية بلدانه، وحذوا حذو ألمانيا في معاداة تركيا، إلا أن ذلك لا يخدم مصالح القارة العجوز.

من جهة أخرى، ووفقا لبعض الخبراء، تسعى ألمانيا وبقية الدول الأوروبية للتأكيد على ضرورة احترام تركيا للديمقراطية، وتنصيب نفسها وصية على الالتزام بالحقوق والحريات، إلا أنها تفعل العكس. في الواقع، لا يمكن حماية الحريات بقمعها ومنع حرية التعبير، خاصة وأن الوزراء الأتراك كانوا يرغبون فقط في تفسير أسباب الاستفتاء للجالية التركية بالخارج، على حد تعبير العديد من المحللين. وفي السياق ذاته، وصف العديد من الخبراء السياسة الأوروبية "بسياسة الكيل بمكيالين".

 في الواقع، نشب الخلاف بين أوروبا وتركيا، منذ حزيران/ يونيو الماضي، إثر إعلان البرلمان الأوروبي عن اعترافه بالإبادة الأرمنية، التي اعتبرتها أنقرة خطأ تاريخيا ومحاولة لتشويه التاريخ العثماني.

وعلى ضوء هذه المعطيات، ونظرا للتراكمات العديدة، فمن الممكن أن يقوم أردوغان بخرق الاتفاقية التي تنص على إغلاق الحدود أمام اللاجئين من عدة بلدان، أهمها سوريا وبلدان شمال أفريقيا. وفي حال أقدمت أنقرة على هذه الخطوة، سيترتب عن ذلك تدفق موجة جديدة من المهاجرين باتجاه الدول الأوروبية، مما سيضع الاتحاد الأوروبي في مأزق حقيقي.

وتجدر الإشارة إلى أن التوتر بين أنقرة والدول الأوروبية قد يستمر حتى إثر انتهاء الاستفتاء، وقد تتعمق الهوة أكثر بين الطرفين. ففي أعقاب  الاستفتاء، ستجد أوروبا نفسها أمام تحديات جديدة، خاصة في ظل الخلاف القائم مع روسيا حول العديد من القضايا، فضلا عن العلاقات الغامضة مع ترامب ونواياه تجاه أوروبا التي من الصعب التنبؤ بها. ومن المثير للاهتمام أن كلا من ترامب وبوتين يعتبران أردوغان حليفا مهما لهما في منطقة الشرق الأوسط.

العمل على المصالح الروسية

وفي هذا الإطار، أقر الأستاذ والخبير في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، كيريل كوكتوش، بأن "كل هذه الأحداث والخلافات من شأنها أن تضعف حجم التأثير الأوروبي على تركيا، مما قد يخدم مصالح روسيا". على العموم، تزامن تدهور العلاقات الأوروبية التركية مع عودة العلاقات الروسية التركية. وقد تجلى ذلك من خلال الزيارة الأخيرة التي أداها الوفد التركي إلى العاصمة الروسية لخوض محادثات مع فلاديمير بوتين حول العديد من القضايا الهامة.

وفي شأن ذي صلة، لم تعد العلاقات الروسية التركية إلى الوتيرة التي كانت عليها قبل الأزمة التي شهدتها، إلا أن كلا البلدين قد وضعا أهداف جديدة بغية تنمية التعاون بينهما في العديد من المجالات. خلافا لذلك، لطالما مثل التقارب الروسي التركي تهديدا كبيرا بالنسبة لأوروبا خاصة وأن علاقاتها مع تركيا لم تكن في أحسن حالاتها.

وفي هذا السياق، أورد بعض المحللين، أن "الوضع الذي تعيشه البلدان الأوروبية في الآونة الأخيرة، يعكس السياسات العشوائية للقادة في الدول الأوروبية الذين لا يدركون حقا ما هم بصدد القيام به". وفي الإطار ذاته، أكد المحلل السياسي التركي، طلعت جتين، أن "التقارب بين موسكو وأنقرة لن يعود بالنفع على الاتحاد الأوروبي، بل على العكس تماما سيؤثر ذلك سلبا على مصالحها، وربما هذا ما يفسر العصبية وردود الفعل العنيفة تجاه أنقرة، من قبل دول الاتحاد الأوروبي على خلفية الاستفتاء الذي ستقوم به تركيا والذي يعد شأنا داخليا".

اللعبة في بدايتها

وفقا للخبير في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية، كيريل كوكتوش، فإن السياسيين الأتراك يعتبرون أن منعهم من مخاطبة مواطنيهم في ألمانيا وهولندا، بمثابة خطأ جسيم ارتكبه السياسيون الأوروبيون ليس فقط في حق أردوغان بل وأيضا في حق أنفسهم، إذ أن التصعيد في الحوار المعادي لتركيا سيكلف أوروبا الكثير. ظاهريا، ترفض الحكومات الأوروبية الاعتراف بشرعية حكومة أردوغان، الذي تجمعه علاقات جيدة مع روسيا التي من المرجح أن تتطور أكثر. وعلى أرض الواقع، تخشى أوروبا من خطر هذا التعاضد التركي-الروسي وتبعات ذلك على المستوى السياسي والاقتصادي، في حال بقي أردوغان في السلطة لفترة أخرى.

وفي هذا الصدد، أكد  كوكتوش أن الاستفتاء يعد بالنسبة لأوروبا بمثابة وسيلة حتى يتمتع أردوغان بالمزيد من القوة والحرية في اتخاذ قراراته، وهذا في حد ذاته يعتبر تهديدا حقيقيا لأوروبا. وأضاف كوكتوش أنه من غير المحتمل أن تعترف أوروبا بشرعية الاستفتاء.

وفقا لهذه القراءة، فإن الخلاف التركي مع الدول الأوروبية لن ينتهي في أعقاب الاستفتاء، بل على العكس ستحاول الدول الأوروبية المناورة وذلك من خلال المماطلة في الاعتراف بمشروعية الاستفتاء، مما يعني أن هذه اللعبة لا زالت في بدايتها. وفي الأثناء، أوضح كوكتوش أن أردوغان يمتلك الوسائل الكفيلة بالرد على العدوان الأوروبي، بل ومن الممكن أن تصل المواجهة التركية الأوروبية إلى مستويات أشد حدة. والجدير بالذكر أنه وفي حال قرر أردوغان إلغاء اتفاق اللاجئين، فسيخدم ذلك مصالح روسيا التي ستستفيد للغاية من حالة الفوضى التي سيشهدها  الاتحاد الأوروبي في المستقبل القريب. 

في الواقع، تدرك البلدان الأوروبية أن سياسة التصعيد مع تركيا ستؤثر سلبا على مصالحها، مما قد يدفعها لاتباع سياسة المناورات، خاصة وأنها تعي جيدا أن هذا الخلاف سيضر بسياستها الداخلية والخارجية. في المقابل، توقن الدول الأوروبية أن عدوها الاستراتيجي القديم، أي روسيا سيحسن استغلال الوضع لخدمة مصالحه الشخصية. ويبقى السؤال المطروح ما الذي بوسع أوروبا فعله للخروج من هذا المأزق؟ خاصة وأن البلدان الأوروبية تواجه تحديات كبيرة وقد يترتب عن هذا الصراع القائم عواقب وخيمة على المستوى الاجتماعي والسياسي وحتى على المستوى الاقتصادي.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس