ترك برس

أجرى مركز "ميتروبول للأبحاث" (MetroPOLL) استطلاعا للرأي حول موقف المواطنين الأتراك من الأحزاب السياسية حسب أعراقهم وإثنيَّاتهم، ويعتبَر هذا الاستطلاع واحداً من الاستطلاعات النادرة التي تدرس توَجهات الشارع التركي تجاه الأحزاب حسب الإنتماءات القومية والعرقية. 

ولأهمية هذا الإستطلاع، تَطلَّبَ تَحليلَه وبيانَ ما فيه من المؤشرات السياسية والاجتماعية، والوقوفَ على نَبَض الشارع وما يَحمله من إمكانيات إستشراف المستقبل السياسي التركي.
ولإجراء تحليل متكامل، لا بدَّ من الرجوع الى بعض الإحصَاءات حول آخر تعد د للسكان ونتائج آخر إنتخابات برلمانية تمَّ إجراؤها في تركيا.

الكلمات المفتاحية:

* اليمين القومي المحافظ: الإسلامي القومي، والإسلامي المتدين، معظم قواعد حزب العدالة والتنمية (AKP)، وبعض قواعد حزب الخير (IYI Parti)، وقليل في حزب الحركة القومية (MHP).

* اليمين القومي الأتَاتوركي: قومي، تركي، طوراني، معظم قواعد حزب الحركة القومية.

* اليَسار الأتَاتوركي العلماني: عَلمانية الجمهورية الحديثة الإشتراكية الاجتماعية، التيار اليَساري العولَمي العلَوي داخلَ حزب الشعب الجمهوري (CHP).

* اليَسار الاتَاتوركي الوطني: اليَسارية الوطنية التي يمثلها الحرس القديم والقيادة الكلاسيكية لحزب الشعب الجمهوري.

* القومي اليَساري: القَوميون الأكراد اليَساريون، معظم قيادات وقَواعد حزب العمال الكردستاني (PKK) وحزب الشعوب الديمقراطي (HDP).

1 - تعداد السكان والعدد التخميني لنفوس الإثنيات:

ليس هناك تعداد رسمي لنفوس القوميات القاطنة في تركيا، ولكن يمكن تخمينها بالمقارنة ببيانات تدل عليها كنتائج الانتخابات ومعلوما ت مراكز الأبحات المحلية والعالمية، والتعداد السكاني للمحافظات حسبَ الكثَافَة القومية. لذلك ستكون الأرقام تقريبية، ولكنها مقاربَة للواقع.

* عدد سكان تركيا حسب إحصاء 2019 = 83,154,797 ، ولنَقل أنه الآن = حوالي 84 مليون نَسمة.

* عدد مَن يَعتبرون أنفسهم من القومية التركية حوالي 62.4 مليون نسمة، وبما يعادل 75 % من السكان.

* عدد السكان الأكراد ومن ضمنهم "الزازا" حوالي 16.63 مليون نَسمة، وبما يعادل 20 % من السكان.

* عدد السكان العرب حوالي 0.83 مليون نَسمة، وبما يعادل 1% من السكان، من غير السوريين المتجنسين مؤخَّراً .

* عدد مهاجري القوقاز (من أواسط آسيا) حوالي 1.66 مليون نَسمة، وبما يعادل 2% من السكان.

* عدد مهاجري البَلقَان (شرق أوربا) حوالي 2.5 مليون نَسمة، وبما يعادل 3% من السكان. 

و لعدم وجود إحصاء رسمي تركي بخصوص نفوس الإثنيَّات القاطنة في تركيا، لذا تمَّ الاعتماد على الأسس التاليَة في تَخمين نفوس هذه القوميات، وهي أرقام تقريبيَّة قريبة من الواقع:

- تعداد سكان كل محافظة، وتَخمين الكثافَة السكانية العرقية فيها.

- الارقام الرسمية وشبه الرسمية بخصوص مهاجري القوقاز ومهاجري البَلقَان

- مجموع الأصوات التي حصلَ عليها حزب الشعوب الديمقراطي، إذ دخلَ الحزب الانتخابات بمفرده، والذي يعتبَر جل اصواته من الأكراد، وإضافة هذه الأصوات الى أصوات الأكراد الذين صَوتوا لحزب العدالة والتنمية والتي تكون عادةً قريبة من الأصوات التي حصلَ عليها حزب الشعوب الديمقراطي؟

- الأخذ بنَظر الاعتبار، رايَ المواطن نفسه في إنتمائه القومي، إذ يَعتبر بعضهم نفسه منتميا للقومية التركية وهو ليس كذلك في الأصل.

- نتائج آخر انتخابات جرت في 24 حزيران 2018:

جرت في تركيا إنتخابات برلمانية عامة بتاريخ 24 حزيران 2018 ، حيث كان عدد الناخبين هو 59354840 ناخب، وحصلت الأحزاب الرئيسية الخمسة على النتائج التالية:

حزب العدالة والتنمية 21335581 صوت، وهي تعادل 42.56 % من مجموع الأصوات الصحيحة المَحسوبَة

حزب الشعب الجمهوري 11348878 صوت، وهي تعادل 22.64 % من مجموع الأصوات الصحيحة المحسوبة

حزب الشعوب الديمقراطي 5865977 صوت ، وهي تعادل 11.7 % من مجموع الأصوات الصحيحة المحسوبة

حزب الحركة القومية 5564514 صوت، وهي تعادل 11.1 % من مجموع الأصوات الصحيحة المحسوبة

حزب الخير 4990710 صوت، وهي تعادل 9.96 % من مجموع الأصوات الصحيحة المحسوبة

علما بأن حزب العدالة والتنمية وحزب الحركة القومية كانا قد شكلا إتفاقا قبل الانتخابات باسم " إتفاق الجمهور"، الذي حصل على 26900095 صوت، وبما يعادل 53.66 % من مجموع الأصوات، كما وأن حزب الشعب الجمهوري وحزب الخير وحزب السعادة، شكلت إتفاقا إنتخابيا باسم "إتفاق مللت" الذي حصل على 17013319 صوت، وبما يعادل 33.94 % من مجموع الأصوات، أما حزب الشعوب الديمقراطي، فقد خاض الانتخابات لوحده منفرداً.

وكانت نسبة عدد الناخبين الى عدد السكان هي: 59354840 / 83154797 = 71.38 %.

3 - تحليل بيانات مؤسسة ميتروبول:

البيانات تشير الى تَوجه منتمي القوميات والأعراق الرئيسية القاطنة في تركيا، وهي كالآتي:

A - الأتراك، أو الذين يَعتبرون أنفسهم ينتمون الى القومية التركية:

لدى الأتراك ثلاثة توجهات رئيسية:

* التوجه الإسلامي، بنوعَيه العربي الكلاسيكي، والعثماني القومي الوطني. وغالبية هذا التوجه يصوتون لحزب العدالة والتنمية. وينتشر هذا التوجه في كل انحاء تركيا، وتزداد كثافته في وسط وشرق الأناضول إضافة الى البحر الأسود، وتقل كثافته في السواحل الغربية والجنوبية من تركيا.

* التوجه القومي، بنوعَيه القومي الإسلامي المحافظ، الذي يصوت أكثريته لحزب الخير ومنهم جماعة فتح الله غولن، والبعض الآخر يصوت لحزب العدالة والتنمية، ومناطق تَمركزه هي غرب الأناضول.. والقومي الأتاتوركي الوطني اليميني، الذي يصوت أكثريته لحزب الحركة القومية بشكل رئيسي، والبعض الآخر يصوت لحزب العدالة والتنمية، وهم
من يديرون شؤونَ الدولة الداخلية والخارجية في الوقت الراهن، و يَتمركَز هذا التوجه في وسط الأناضول.

* التوجه العلماني الأتاتوركي، بنوعَيه العلماني الأتاتوركي الوطني، و يمثله الحرس القديم داخل حزب الشعب الجمهوري، وهو التيار الضعيف داخل الحزب.. والعلماني الأتاتوركي العولَمي اليساري المعادي للتيار القومي الوطني، وهي الشريحة العلَوية التي تسيطر على زمام الأمور داخل حزب الشعب الجمهوري. ويعتبَر هذا التوجه القاعدة الأساسية لحزب الشعب الجمهوري، وينتشر هذا التوجه بالخصوص في السواحل الغربية والجنوبية لتركيا وأسطنبول وأنقرة، إضافة الى مدينة تونجالي العلوية اليسارية في شرق الأناضول.

* قليل جداً من الأتراك يصوتون لحزب الشعوب الديمقراطي، وتأتي هذه الأصوات القليلة من الإسلاميين الأتراك المساندين للقضية الكردية، والتيار التركي العلوي العولَمي اليساري المناهض لسلطة نظام الحكم والمساند للقضية الكردية.

B - الأكراد والزازا:

لدى الأكراد توجهان سياسيان رئيسيان، فحوالي 90 % من أصواتهم تذهب مناصَفة (تقريبا) الى حزب الشعوب الديمقراطي وحزب العدالة والتنمية. فالتيار الإسلامي الكردي المحافظ يصوت دوما لحزب العدالة والتنمية، أما التيار اليساري القومي، فهو يصوت دوما لحزب الشعوب الديمقراطي، ويقف الى جانب هذا التيار في تصويته لحزب الشعوب الديمقراطي، تيا ر آخر هو التيار القومي المحافظ (المتَدين).

هذان التوجهان يمثلان ثلثَي عدد الناخبين الأكراد، والذي يتناصَفه (تقريبا) حزب الشعوب الجمهوري وحزب العدالةوالتنمية. أما الثلث الآخر فمعظمه من التيار الرافض للسلطة وللانتخابات وممن يصوتون للأحزاب السياسية الأخرى .ويتمركَز تواجد الأكراد في شرق وجنوب شرق تركيا، ومدن: أسطنبول وأزمير وأنطاليا وأنقرة وأدنه ومرسين.

C - القومية العربية:

العرب في تركيا، محافظون متدينون على العموم، وتشكَّلت توجهاتهم السياسية حسب المحيط الذي تواجدوا فيه، ويتواجَدون بكثافة في مدينتي ماردين وسييرت، بالإضافة الى إنتشارهم في المنطقة بين أضنة وديار بكر على الحدود السورية، فالعرب الذين يعيشون في قرى هذه المناطق، يصوتون عادة لحزب الشعوب الديمقراطي، بحكم جوارهم للأكراد (حوالي 7% من الناخبين العرب)، والعرب القاطنون في مراكز المدن الرئيسية في المنطقة، ينقَسمون عموما الى قسمين: الإسلاميون المحافظون الذين يصوتون لحزب العدالة والتنمية (حوالي 39 % من الناخبين العرب)، والقوميون المحافظون، وهم الذين يصوتون لحزب الحركة القومية التركي (19.5 % من الناخبين العرب)، وهناك تو جه يساري عربي في مراكز المدن، وهو توجه سياسي أكثر مما هو توجه فكري، ويتمركَز عادة في المدن الساحلية كإزمير وأنطاليا التي تعتبَر قلاعا لليسار، ويصوت هذا التيار لحزب الشعب الجمهوري بحكم المعايشة والجوار (حوالي 17 % من الناخبين العرب).

D - مهاجروا البلقان:

وهم الذين هاجروا أوهجروا من دول البلقان كبلغاريا واليونان ويوغسلافيا والبانيا إبَّان الحرب العالمية الأولى وما بعدها، بسبب أصولهم التركية، والذين سكنوا المناطق الغربية من تركيا، وبالأخص إزمير وأدرنه وبورصة وما جاور هذه المدن.

وهم في العموم علمانيون، يساريون، ولكن هذا لا يعني عدم وجود شريحة متدينة محافظة بينهم . ويمتاز هؤلاء بعزوفهم عن السياسة وعدم مشاركتهم في الانتخابات (حوالي 36.8 % منهم من الرافضين)، ويصوت حوالي 26.3 % من ناخبيهم لصالح حزب الشعب الجمهوري، بينما يصوت حوالي 15.8 % من ناخبيهم لصالح حزب العدالة والتنمية، وكذلك يصوت 10.5 % من ناخبيهم لصالح حزب الخير، وهم الشريحة التي تؤيد وتناصر جماعة فتح الله غولن. أما حزب الشعوب الديمقراطي، فنصيبه من هذه القومية هو حوالي 5.3%.

E - مهاجروا القفقاس:

وهم القفقاس والشركَس والأبخاز المهاجرون والمهجَّرون من أواسط آسيا الى تركيا، والذين إستقروا في شرق ووسط الأناضول وبعض الأجزاء من البحر الأسود، وهم قاطبة قوميون، وكثير منهم إسلاميون قوميون، يذهب جل أصواتهم الى تلاتة أحزاب، حزب الحركة القومية (حوالي 33 % من أصوات الناخبين)، وحزب العدالة والتنمية (حوالي 22 % من أصوات الناخبين)، وحزب السعادة (حوالي 22 % من أصوات الناخبين)، أما العازفون عن السياسة فهم يمثلون حوالي 22 % من ناخبيهم.

4 - تحويل هذه التوجهات والمعلومات الى لغة الأرقام: يمكن ترجمة التوجهات القومية الى لغة الأرقام، وكالآتي:

- لما كان مجموع نفوس سكان تركيا هو 83154797 نسمة وعدد الناخبين هو 59354840 ناخب، وبالتالي فإن نسبة عدد الناخبين الى العدد الكلي للسكان سيكون 71.38 %، لذا وجَب إيجاد عدد الناخ بين لكل شريحة قومية على حدَة، ومن ثَمَّ توزيع أصوات الناخبين على الأحزاب، وكالآتي:

أولا: إيجاد عدد الناخبين لشريحة القومية التركية:

النفوس التَّخميني للقومية التركية هو حوالي 62400000 نسمة.. وبالتالي فعدد ناخبيهم المخمَّن سيكون: 62400000 × 0.7138 = 44541120 ناخ . وتتو زع أصوا تهم على الأحزاب الرئيسية كالاتي:

حزب العدالة والتنمية: 44541120 × 0.297 = 13228712 صوت

حزب الشعب الجمهوري: 44541120 × 0.192 = 8551895 صوت

حزب الخير: 44541120 × 0.106 = 4721358 صوت

حزب الحركة القومية: 44541120 × 0.082 = 3652371 صوت

ثانيا: إيجاد عدد الناخبين لشريحة الأكراد (الأكراد والزازا):

النفوس التَّخميني للأكراد (مع الزازا) هو حوالي 16630000 نسمَة، وعدد الناخبين سيكون: 16630000 × 0.7138 = 11870494 ناخب، 90 % من أصوات الناخبين الأكراد ذهبت الى حزب الشعوب الديمقراطي، وحزب العدالة والتنمية، والباقي ذهبت لبقية الأحزاب. وعلى هذا الأساس سيكون نصيب الحزبين من الأصوات هو 10683444 صوت، وقد حصل حزب الشعوب الديمقراطي فعليا في هذه الانتخابات على 5865977 صوتا،ً فيكون حزب العدالة بذلك حاصل على: 10683444 - 5865977 = 4817467 صوتا كرديا.

ثالثا: إيجاد الناخبين للقومية العربية وتوزيعها على الأحزاب:

النفوس التخميني للشريحة العربية هو 830000 نسمة، وعدد الناخبين للشريحة العربية = 830000 × 0.7138 = 592454 ناخب، وتتو زع أصواتهم على الأحزاب كالآتي:

حزب العدالة والتنمية: 592454 × 0.39 = 231057 صوت

حزب الشعب الجمهوري: 592454 × 0.171 = 101309 صوت

حزب الحركة القومية: 592454 × 0.195 = 115528 صوت

حزب الشعوب الديمقراطي: 592454 × 0.073 = 43249 صوت

رابعا: إيجاد عدد الناخبين لمهاجري البَلقان:

النفوس التخميني لشريحة مهاجري البَلقان هو 2500000 نسمة، وعدد ناخبيهم هو 2500000 × 0.7138 = 1784500 ناخب، وتتو زع أصواتهم على الأحزاب كالآتي:

حزب العدالة والتنمية: 1980000 × 0.158 = 312840 صوت

حزب الشعب الجمهوري: 1980000 × 0.263 = 520740 صوت

حزب الخير : 1980000 × 0.105 = 207900 صوت

حزب الشعوب الديمقراطي: 1980000 × 0.053 = 104940 صوت

خامسا: إيجاد عدد الناخبين لشريحة مهاجري القَفقاز:

النفوس التخميني لشريحة مهاجري القَفقاز هو 1660000 نسمة، وعدد ناخ بيهم هو 1660000 × 0.7138 = 1184908 ناخب، وتتوزع أصواتهم على الأحزاب كالآتي:

حزب العدالة والتنمية: 1184908 × 0.222 = 263049 صوت

حزب الحركة القومية: 1184908 × 0.333 = 394574 صوت

حزب السعادة: 1184908 × 0.222 = 263049 صوت

5 - التحليل السياسي للبيانات:

يَتبيَّن من البيانات أنه هناك قوميَّتَين أساسيَّتَين تؤثران في السياسة التركية ونظام الحكم فيها، القومية التركية والقومية الكردية، أما القوميات الأخرى، كالقَفقازوالشركَس والتركمان ومهاجروا البَلقان واللَّاز (القاطنون في سواحل البحر الأسود) وغيرهم، فهم يَعتبرون أصولَهم تركية، كما أن الكثافة السكانية للعرب في تركيا قليلة، ومَحدودَة في بقعة صغيرة، إضافة الى أنها ذائبة ثقافيا داخل الشرائح الاجتماعية الأخرى. ولم يدرج المركز في إستطلاعه موقفَ العرق الأرمَني السياسي في تركيا، وأظنه بسبب قلة عدد السكان، وإنقسامهم السياسي بين فئة راضخة واقعة تحتَ سلطة الدولة، وفئة مضربة عن السياسة ورافضة للسلطة، كما لم يدرج بقية الإثنيَّات، كاليهود ويهود الدونمَة والروم، لقلة عددهم، وعزوفهم عن السياسة.

ومع قيام الجمهورية التركية بقيادة أتاتورك، نشبَ صراع إثنيٌّ بين القوميَّتَين، وإنتهت بذلك فترة التَّحالف التركي الكردي الذي أسسه الشيخ إدريس البتليسي بين أمراء الأكراد والسلطان سليم الأول سنة 1515 م، أي بعد سنة من معركة جالديران التي إنتصر فيها السلطان سليم الأول على الشاه إسماعيل الصفوي، هذا التَّحالف الذي حمَى شرقَ الدولة العثمانية، وفتحَ
أبوابَ الشام ومصر لها بعد إسقاط المماليك، وحقَّق التوازن بين الفرس والأتراك.

جَلبَت الجمهورية ، بعدَ معاهدة لوزان التي ألغَت حقَّ تقرير المصير للكرد الذي نَصَّت عليه معاهدة سيفر، الصراع والاضطرابات مع الأكراد، فقامت ضدها عدة حركات مناهضة، أشهرها، حركة الشيخ سعيد بيران، وآ خرها حركة حزب العمال الكردستاني بقيادة عبدالله أوجلان، الذي أسَّس أول قاعدة عسكرية له في شمال العراق سنة 1983 م.

يمتاز المجتمعان التركي والكردي بكونهما مجتمَعين محافظَين على العموم، فأكثرية أبنائهما من اليمين المحافظ (حوالي 70 %)، الى جانب اليسار العلماني (حوالي 30 %)، علما بان اليمين المحافظ ينقسم الى قسمين: يمين قومي محافظ، ويمين إسلامي محافظ، وأن اليسار العلماني ينقسم الى قسمين: يسار عَلماني أتاتوركي، ويسار عَلماني قومي، الذي يشكل الأكراد اليساريون معظمَه.

بدأَ المَد القومي التركي المحافظ بالظهور والتَّرعرع في الستينات من القرن الماضي، فتَمَّ تحريك المشاعر القومية التركية المحافظة، وإستغلالها ضدَّ التوجهات الشيوعية التي توغَّلت الى تركيا ضمن مخطَّط تصدير الاتحاد السوفيتي لفكره الماركسي في ذلك الوقت ومحاولات إحتوا ئها، فأسس العميد المتقاعد، وأحد قادة الأنقلاب العسكري في 27 أيار 1960 م،
"ألب أصلان توركيش" حزبَ الأمة القروي الجمهوري سنة 1965 م.. وفتح بابَ الصراع الساخن بينَه وبين اليسار الماركسي، بشقَيه التركي والكردي، والملفت للنَظر أن هذا الحزب كان يَنظر الى الأكراد على أنهم يساريون ماركسيون.

جَرت أحداث عنف كبيرة، بَدأً من أواخر الستينات، والمسمَّاة بـ"أحداث السبعينات الدامية"، بين اليمين القومي المحافظ، واليسار الماركسي، بشقَّيه الأتاتوركي والقومي الكردي، ولعدم قدرة اليمين القومي التركي من مقاومة المَد الشيوعي وحدَه، والتخوف من دخو ل تركيا تحت المَظلة السوفيتية، تمَّ السماح للتيار الإسلامي من تَشكيل حزب سياسي، لإسناد اليمين مَعنويا ضدَّ المَدَّ اليساري، فقامَ "نجم الدين أربكان" بتأسيس حزب "مللي نظام" سنة 1969م .

بعد الإنقلاب العسكري سنة 1970 م، وإغلاق حزب"مللي نظام"، أ سس نجم الدين أربكان حزب" مللي سلامت" سنة 1971 م. وكان الأكراد والأتراك الإسلاميون هم اللَّبنَة الأساسية لهذا الحزب، فتَشكَّلت بذلك ومنذ ذلك التأريخ، آليَّة التَّعامل التركي الكردي داخل الحزب، وتأثيرها على تَحالفات الحزب مع الأحزاب الأخرى.

أوَّل فكرة تَحالف مع التيار الكردي ظَهر ت داخل حزب الرفاه، قبَيلَ الانتخابات البرلمانية سنة 1991 م، حيث كان الحزب أمام خيارين: إما التَّحالف مع حزب "الجهد الشعبي الكردي" والإستحواذ على معظم الصَّوت الكردي في المدن التي فيها كثافة سكانية كردية عالية، أو ال تَّحالف مع حزب الحركة القومية والحزب الاصلاحي الديمقراطي القومي، وهما حركتان تركيتان قوميتان، وحدثَ في حينه نزاع شديد داخل الحزب بين وجهتي النَّظر، تَطوَّر الى تَضارب بالأيدي بين بعض أعضاء قيادة الحزب. وبعد جدال طويل قرر الحز ب الدخول في تحالف مع التيار القومي التركي، وحصل على 17.4 % من أصوات الأكراد قي تلك المدن، بينما تحالفَ الحزب الاجتماع ي الديمقراطي الشعبي (التركي اليساري) مع حزب الجهد الشعبي الكردي فحصل على 32.7 % من أصوات الناخبين، في حين لا يحصل في العادة من تلك المناطق الا على ما دون 5%.

إستمر الجناحان المتعارضان داخل حزب الرفاه، الجناح الموالي للتَّحالف مع التيار السياسي القومي الكردي، والجناح الموالي للتَّحالف مع التيار القومي التركي، بالصراع والجَدل، حتى تاريخَ غلق الحزب من قبل السلطات الحاكمة، وإنتقال معظم كوادر الحزب الى حزب العدالة والتنمية الذي تأسس في 2001 م.

تَهيَّأت الظروف أمام حزب العدالة والتنمية، في ظل النظام العالَمي الجديد، ليكونَ الحزبَ الحاكم بلا منازع في تركيا مع بداية القرن الحادي والعشرين، فتصَدَّى مع بداية حكمه لأربع قضايا مهمة، تَحييد الجيش وعزله عن السياسة، عملية السلام مع الأكراد، تَوازن العلاقة مع إيران، السعي لأن تكون تركيا قوة إقليمية فاعلة في بؤَر الصراع وذلك للمساهمة في ضَمان
أمن إسرائيل.

إختيار حز ب العدالة والتنمية لحَل القضية الكردية كان موفَّقا،ً كما أن إختياره لإدارة الحكم وجعل تركيا قوة إقليمية كان موفَّقا أيضا،ً فحزب العدالة والتنمية يَمتاز عن بقية الأحزاب التركية الأخرى، بأنه يَحكمه جناحان، جناح كردي وجناح تركي، وهما الجناحان اللذان جَعلا الدولة العثمانية تَحلق فوقَ أوربا الشرقية وأواسط آسيا والشرق الأوسط.

بدأَ حز ب العدالة والتنمية مشروع حَل القضية الكردية سنة 2009 م من أوسلو، وإنتهى المشروع بالفشل سنة 2015 م، وأسباب الفشل متعددة ومتناقضة، إلا أ ن الذي أطلقَ رصاصة الرَّ حمة على حل القضية الكردية هو الأنقلاب العسكر ي في 15 تموز سنة 2016 م، فَقد إرتَمى الحز ب والحكومة والدولة في حضن التيار القومي الأتاتوركي المحافظ داخل الحزب وخارجَه، وذلك بسبب تَوليه مهمة تَصفية جماعة فتح الله غولن من مَفاصل الدولة، فمَسكت هذه العصبَة بزمام أمو ر الدولة وتوغَّلت فيها، وتَرجَّحت كفَّة التيار القومي التركي، وتمَّت عمليات تصفية لقيادات الجناح الكردي من الحزب والدولة.

إستطاع الرئيس التركي إردوغان أن يحققَ التَّوازنَ الإثنيَّ داخل الحزب والحكومة والدولة منذ توليه السلطة في تركيا، ولغاية تَعرض سلطته للإنقلاب، إذ تَولى بعد ذلك التيار القومي الأتاتوركي السلطة داخل الدولة العميقة التركية، ولكن ليس بعيد اً عن سلطة وإرادة الرئيس إردوغان. الأمر الذي يجعله مؤهلا من جديد لقيادة التوَازن الإثني والسياسي داخل الحزب
والدولة.. وقد لا تكو ن قيادة هذا التوازن سهلا كما كانت في السابق، وذلك لوجود عامل خطير خارجَ الحزب والحكومة متحَكم فيهما، وهو وجود شريك حكم قومي تركي متمثل بحزب الحركة القومية، على الرئيس اردوغان التعامل السلس معه وضمان إنسجامه مع منظومة التوازن هذه.

وأعتقد أن النظامَ العالَميَّ الجديد الذي يسعى لجعل تركيا قوة أقليمية، سيَفرض على تركيا وعلى الرئيس التركي التعاملَ مع القضية الكردية بمنطق الرابح للطَّرفَين، وهذا يَستوجب صياغة جديدة للعلاقات التركية الكردية في كل المنطقة، تتشارك فيها كلٌّ من تركيا وأمريكا وإسرائيل والطرف الذي يمثل الجانبَ الكردي، وجَل المسؤولية تقع على الجانب الكردي، الذي يجب عليه: * طَمئَنة التيار القومي التركي بعد مسعيه للإستقلال وإستقطاع الأراضي، * ونَزع سلاح حزب العمال الكردستاني، * وحَل حزبه السياسي في تركيا، * وإنشاء حزب سياسي كردي مستقل وغير مصطَنع، ومن صميم الشعب الكردي.. ويَبدو أنه هناك بوادر واقعية تشير الى هذا الإتجاه، فالضغوط العسكرية التركية على قنديل وسنجار بدعم أمريكي
قد تَعاظَمت، والأصوات المنادية لغلق حزب الشعوب الديمقراطي الموالي لقنديل قد تصَاعَدت في تركيا، في موازاة حراك شعبي كردي في المناطق ذات الكثافة الكردية العالية لتأسيس حزب كردي مستقل من قبل شخصيات كردية معروفة.

هذه المسؤولية الجَسيمة واقعة على عاتق حكومة إقليم كردستان، بإعتبارها الطرفَ الرسمي المعترف به دوليا،ً وأنها حاز ت على أكثرية أصوات الأحزاب السياسية في البرلمان الكردستاني، إضافة الى إمكانية تَفَرغ السيد مسعود البرزاني صاحب العلاقات الدولية الجيدة، الى جانب وجود وزير خارجية كردي في الحكومة العراقية.

الخاتمة

قَسمَ الإستطلاع المجتمعَ الإثنيَّ في تركيا الى ست شرائح: الأتراك، والأكراد، والزازا، والعرب، ومهاجروا البَلقان، ومهاجروا القَفقاز.. ولو إعتبَرنا الزا زا من الأكرا د - وهم فعلاً كذلك- فإننا سنكون أمام خمس شرائح. أما مهاجروا البَلقان والقفقاز، فهم أقوام من أصول تركية قطنت دول القَفقاز والبَلقان، هاجر أو هجرَ قسم منهم الى الأناضول قبل حوالي 200
عام، وإنسجَ موا مع المجتمع الأناضولي وأصبَحوا جزءاً منه. ولم يَذكر الإستطلاع شرائحَ إثنيَّة أخرى في تركيا، كالأرمَن والروم واليَهود ويَهود الدونمَة (اليَهو د الذين أعلووا إسلامَهم بعد تهجيرهم من السيلانيك وتَوطنهم في الأناضول)، إما بسبب قلة عددهم، أو بسبب ضَعف ثقَلهم السياسي.

أما الأتراك، أو لنقل الذين يَعتبرون أنفسهم أتراكا،ً كالتركمان والآذر واللاز، والمنحدرين من أصو ل الأوغوز والسلاجقة، فهم يعتبرون أنفسهم من سكَنة الأناضول الأساسيين. وهم يمثلون حوالي 75 % من السكان، ويَمتازون بالطابع المحافظ عموما وعلى مر التاريخ، ولكن ومع سقوط السلطنة العثمانية ونشوء الجمهورية التركية على يد مؤسسها أتاتورك، غَطَّى الطابع العلماني اليميني القومي على الساحة السياسية في تركيا، ثم أخذ هذا الطابع في التوَجه نحوَ اليسار في عَهد "عصمت إينونو"، وأصبحَ حز ب الشعب الجمهوري الحاكم حزبا عَلمانيا قوميا يساريا،ً ويَبدو أن هذا التوَ جه قد أقلقَ الغربَ الرأسمالي، مما حَدى به الى دفع الن ظام السياسي في تركيا الى تَبَني نظامَ تَعدد الأحزاب، فتأسَّس الحز ب الديمقراطي على "مندرس" الذي وصلَ الى السلطة سنة 1950، وبدأَ العد التَّصاعدي للتيار المحافظ من جديد.. ومنذ ذلك الحين تَتنافَس التيارات الثلاثة: اليميني القومي بشقَّيه المحافظ والأتاتوركي، واليساري العلماني بشقَّيه الأتاتوركي والعلوي، والإسلامي بشقيه المحافظ والقومي، تتَنافَس على توسيع قاعدتها الشعبية، حتى وصَلت اليومَ الى ما يشير اليه الإس طلاع وكالآتي:

29.7 % من الناخبين صوتوا لصالح حزب العدالة والتنمية، وغالبيَّتهم من التيار الإسلامي بشقَيه المحافظ والقومي التركي.

19.2 من الناخبين الأتراك صوتوا لحزب الشعب الجمهوري، ومعظمهم من اليسار العلماني بشقيه الاتاتوركي والعلَوي.

10.6 % من الناخبين صوتوا لحزب الخير، وغالبيَّتهم من التيار القومي المحافظ مع خليط من التيار القومي الأتاتوركي.

8.2 % من الناخبين الأتراك صوتوا لحزب الحركة القومية، وكلهم من التيار القومي الأتاتوركي.

وللتوضيح، يَجدر أن نشيرَ هنا الى التَّشظي الذي عانَى منه التيار القومي التركي، فقد أنشأ "ألب أصلان توركيش"، حزب الحركة القومية، على أسس قومية أتاتوركية يمينية بَحتة، لكن في صراع الحزب مع اليسار ظهرت الحاجة عنده الى دعم اليمين الإسلامي المحافظ والمعادي لليسار، فتوغلَ هذا التيار داخل الحزب، حتى إنفصال "محسن يازجي اوغلو" في
التسعينات من القرن الماضي وتأسيسه لحزب الإتحاد الكبير، وهو حزب قوميٌّ محافظ يميل الى الإسلام، فإستقطبَ هذا الحز ب غالبيةَ الإسلاميين المحافظين داخلَ حزب الحركة القومية، فتأسَّسَ بذلك تيار قوميٌّ جديد، يحمل التوجه المَحافظ القوميَّ، ثم إنفصلت "ميرال أقشنر" لتؤسسَ حزب الخير مستقطبة عدد اً كبيراً من التيار القومي الأتاتوركي من داخل
حزب الحركة القومي، إضافة الى قواعد جماعة "فتح الله غولن"، وبعض القوا د من التيار القومي التركي المحافظ، وتأسسَ بذلك تيار قومي محافظ آخر، يحمل السمة المحافظة بصبغَة أتاتوركية، وقد عانَى هذا الحزب من صراع داخلي بين التيار الأتاتوركي، وجماعة فتح الله غولن، حيث أنتصرت فيه الجماعة، بعد طرد "أميد اوزداع" من الحزب، والذي كان من أهم أقطاب الأتاتوركية الطورانية داخل الحزب.

كما يجب أن نشير هنا الى أن التيار اليساري في تركيا، إنحصَر بشكل رئيسي بين شريحة الأتراك القاطنين على السواحل الغربية والجنوبية من تركيا، مستقطبا عدد اً كبيرا منهم، لكنه فشلَ بشكل كبير في إستقطاب الأتراك في المقاطعات التركية الأخرى، وتراجعت نسبة تمثيله لدى الأتراك خصوصا،ً ولدى عموم الشعب التركي خلال التسعين سنة الماضية من عمره بشكل كبير، حتى إست رت قريبا عند حاجز الـ(20 %) ، وليس هناك في الأ فق على المدى القريب ما يشير الى تزايًد نفوذه وتاث ره السياسي على الساحة التركية.

أما الأكرا د، وأكراد الزازا، فَهم بين إسلامي محافظ لا يَميل الى القومية، وقوميٌّ محافظ، لا يَفصل تَدينَه عن قوميته، وقوميٌّ يساريٌّ يناهض الإسلامَ والمسلمين.. التيار اليساري القومي المتمثل بحزب العمال الكردستاني المسلَّح وإمتداده السياسي المتمثل بحزب الشعوب الديمقراطي، أصبحَ عالة على القضية الكردية، ولم يَعد في نظر الأمريكان وإسرائيل حليفا مناسبا،ً وحَصلت القناعة لديهما بضرورة إنهاء هذا الوجود العسكري وتصفية تياره السياسي، وبناء نموذج جديد يَشمل كلَّ الوضع في تركيا وسوريا والعراق، وقد نشطت أمريكا بهذا الإتجاه منذ عدة سنوات في سوريا والعراق، على أمل إقناع الأتراك لإبرام صيغة التَّعاون التركي الكردي في المنطقة وتَحقيق سلام كامل فيها. وأعتقد أنه لا مَفر لأطراف النزاع إلا سلوكَ هذا الطريق، طريقَ السلام ، على منوال الإتفاقية التي أبرمت بين الأكراد والدولة العثمانية برعاية الشيخ البتليسي سنة 1515 م.. فهذه هي الفرصة المؤاتية الوحيدَة للطرفَين، فمن جهة هناك حزب تركيٌّ ثلثه من الأكراد المحافظين القوميين، وثلثه الآخر من الأتراك المحافظين القوميين، يرأسه رئيس تركي، يؤمن بالقضية الكردية بحكم تَدينه، وهو كان أول من لفظَ كلمة "كردستان" المَمنوعَة في تركيا، ومن جهة أخرى، هناك حكومة معترف بها دوليا في إقليم كردستان، وقيادات كردية تدعَمها، وقواعد من الشريحة الكردية تساندها في كل من تركيا وسوريا والعراق.

هذا ما يشير إليه إستطلاع الرأي، من تَعارض التَّوجهات الإثنية، وتشابك مصالحها، وتخَوفاتها، وهواجسها، التي ترسم الخارطة السياسية في تركيا، وضرورةَ السَّعي الى تأسيس حالة السلم الوطني، وتَحقيق المَصالح المشتَرَكة، وتخفيف المَخاوف والهَواجس، وتشكيل بنيَة داخلية مَتينَة قادرَة على بَسط النفوذ المشترَ ك في المنطقة، وبؤَر الصراع فيها .

ولم تَسقط الدو ل والإمبراطوريات والأنظمَة السياسية الحاكمَة على مَر التأريخ، إ لا بعدَ أن إنفَرَطَ عَقدها الداخلي، وتَشَظَّى بنيَتها، ودبَّ الخلاف بين أهلها، وستَبقى هذه القاعدة قائمةً الى يوم القيامة.


الكاتب شوان زنكنة.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!