سعيد الحاج - عربي 21

ثمة سمة أساسية للسياسة الخارجية التركية في العقدين الأخيرين، هي سعيها لسياسة خارجية مستقلة قدر الإمكان لتحقيق مصالح الدولة التركية أكثر من كونها منخرطة في تحالف ما ضد تحالف آخر كما كانت الحال خلال عقود الحرب الباردة.

ولئن كانت نهاية الحرب الباردة سبباً رئيساً في ذلك، فإنها لا تكفي لوحدها إطاراً تفسيرياً للتغير الجذري في توجهات السياسة الخارجية التركية، بل ينبغي إضافة اختلاف إدراك تركيا لذاتها ومشروعها ومكانتها من جهة وتعاظم قدراتها الذاتية من جهة أخرى.

لذلك، وخلافاً لكثير من الدول الأوروبية، نسجت تركيا وبالتدريج علاقات أكثر من جيدة مع روسيا، الخصم التقليدي والعدو التاريخي لها وللمنظومة الغربية في العموم. بل إن العلاقات بينهما وصلت لمراحل متقدمة وأبعاد استراتيجية، من مشاريع الطاقة العملاقة للاقتصاد والسياحة، ومن إبرام التفاهمات في مناطق النزاع لشراء منظومة S400 الدفاعية والتلميح بإمكانية تكرار الصفقة وشراء مقاتلات سوخوي. فضلاً عن العلاقة الخاصة بين أردوغان وبوتين والتي مكّنت البلدين من تجاوز العديد من المحطات الحرجة في العلاقات دون الوصول لدرجة الصدام المباشر.

بيد أن هذا النهج لم يلق قبولاً لدى الولايات المتحدة الأمريكية على وجه التحديد، وظلت العلاقات المتقدمة لأنقرة مع موسكو مثار اعتراض من واشنطن وصل لمرحلة فرض عقوبات عليها لا سيما بعد صفقة S400. المفارقة أن مواقف الولايات المتحدة (وبعض الدول الأوروبية) من هذا التقارب التركي – الروسي ودعم للمنظمات الانفصالية في سوريا دفع أنقرة أكثر فأكثر نحو موسكو، إذ ترى أن حلفاءها الغربيين غير حريصين على أمنها القومي بل ويضرون به.

وعلى مدى سنوات عديدة كانت تركيا قادرة على موازنة علاقاتها مع الجانبين، روسيا وحلف الناتو بقيادة الولايات المتحدة، بل كانت الخلافات بينهما تمنحها مساحات رحبة للمناورة استفادت منها لا سيما في الملف السوري. بيد أن زيادة الهوة بين الجانبين وحدّة الخلافات بينهما ضيّقا على تركيا تلك المساحات الرمادية وصعّبتا عليها الخيارات.

من هذه الزاوية، كانت الحرب الروسية – الأوكرانية اختباراً مهماً وصعباً في الآن ذاته للسياسة الخارجية التركية ومحاولتها التوازن. إذ هي، ورغم الخلافات مع الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية، عضو مهم في حلف الناتو والجيش الثاني فيه، وقد قرر الأخير خوض الحرب مع روسيا بشكل غير مباشر من خلال دعم أوكرانيا وتسليحها.

كان الخيار صعباً، وتبنت أنقرة “الحياد الإيجابي” في الحرب وسعت للتمايز عن الموقف الغربي شيئاً ما. دانت تركيا الهجوم الروسي على أوكرانيا وطالبت بالحفاظ على وحدة الأراضي الأوكرانية من جهة، لكنها من جهة ثانية لم تنخرط في العقوبات الغربية على روسيا. وقد أعلنت دعمها لكييف ولم توقف التعاون الدفاعي معها، لكنها لم تقطع العلاقات مع موسكو ولقاء مسؤوليها.

وقد استفادت من العلاقات الجيدة مع الجانبين للعب دور الوساطة بينهما، وهو ما أثمر اتفاقاً لتصدير الحبوب وتفاهماً لتبادل الأسرى، وما زالت تأمل في أن تستأنف وساطتها سعياً لإنهاء الحرب، رغم إدراكها لتعذر ذلك وفق المعطيات الحالية، إذ تشير التطورات الأخيرة لتعقد الأوضاع الميدانية وبالتالي ليس فقط صعوبة المسار السياسي ولكن كذلك ضيق الخيارات التركية.

فمن جهة كان تسليم تركيا زيلينسكي الضباط الأوكران خلال زيارته لها ثم إحالتها ملف انضمام السويد للناتو للبرلمان (بعد الموافقة على انضمام فنلندا له) مثار غضب موسكو التي عبرت عنه بالانسحاب من اتفاق تصدير الحبوب وتأجيل زيارة بوتين لها وتفتيش سفينة تعود لشركة تركية في البحر الأسود وغيرها من التصريحات والإشارات.

في المقابل، فإن الولايات المتحدة لا تخفي انزعاجها من “تأخر” أنقرة في الموافقة على عضوية السويد في الحلف فضلاً عن استمرارها في علاقات جيدة مع روسيا وما سبق ذكره من تعاون في مجالَيْ الدفاع وأمن الطاقة تحديداً.

وعليه، تسير تركيا في علاقاتها مع كل من روسيا وحلف الناتو على حبل رفيع جداً وتجد صعوبة أكثر من السابق في الحفاظ على حالة من التوازن بينهما.

ما تخشاه تركيا بشكل حقيقي هو تمدد الحرب وتوسّعها لتشمل انخراطاً مباشراً من الحلف في مواجهة روسيا، إذ سيطالب البعض بتفعيل المادة رقم خمسة من نظامه الأساسي لدفع جميع الأعضاء للتدخل، رغم أنها مادة قابلة للنقاش في حالة الحرب الروسية – الأوكرانية ولا شك. ولعل أحد أهم المؤشرات على وجود مخاطر من هذا القبيل التطورات الأخيرة في حوض البحر الأسود مثل انسحاب روسيا من اتفاق تصدير الحبوب، وسعي أوكرانيا للتصدير دون ضمانات روسية، وتهديد موسكو لها في هذا الإطار، وتفتيش الأخيرة سفينة متجهة لموانئها، وغيرها من التفاصيل.

وما دون وصول الحرب الحالية لحالة من المواجهة المباشرة والرسمية والشاملة بين روسيا وحلف الناتو، ستبقى تركيا قادرة على الاستمرار في “التوازن قدر الإمكان” بين الطرفين، إذ أن مصلحتها تقتضي ذلك وتدفع باتجاهه. مع مرور الوقت، سيكون من الصعب على أنقرة الحفاظ على الحياد وستضطر لمواكبة التطورات بمزيد من الانحياز دون الوصول لنقطة استعداء روسيا أو مواجهتها. لكن التوازن النسبي ما زال ممكناً حتى اللحظة وفي المدى المنظور، بل وتعمل أنقرة في الاتجاه المعاكس لتهدئة الأمور وإقناع موسكو بالعودة لاتفاق تصدير الحبوب. لكن من الواضح أن الذي سيحكم بوصلة علاقات تركيا مع الجانبين في المدى المنظور هو مسار الحرب الروسية – الأوكرانية ومآلاتها.

 

عن الكاتب

سعيد الحاج

باحث في الشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس