د. ياسر سعد الدين - خاص ترك برس

توقع كثيرون بأن الانتخابات الرئاسية والبرلمانية الأخيرة ستكون علامة فارقة في الحياة السياسية التركية، وأنها ستمكن الرئيس أردوغان وحزبه من تحقيق إنجازات في السنوات القليلة القادمة، تتجاوز ما حققوه في عقدين كاملين وعلى كافة الأصعدة سياسيا وصناعيا وسياحيا وغير ذلك. كانت فرحة مؤيدي تركيا في الفوز الأخير كبيرة جدا بعد أن شخصت الأنظار إلى ذلك البلد الذي يسكن في قلوب غالبية الشعوب العربية والإسلامية، وهي تراقب معركة إنتخابية حامية الوطيس، وكأنها شأن خاص بها وعلى درجة كبيرة من الأهمية والحساسية. 

غير أن ما تلى الانتخابات من حملة أمنية على اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين، وبعض الصور الغريبة عن المزاج التركي والذي عهدناه في السنوات الأخيرة، وترحيل حتى بعض العرب – على قلة تلك الأحداث- بالخطأ للشمال السوري، والخلط الرسمي غير الموفق بين الترحيل القسري والعودة الطوعية، أصاب كثيرون من محبي تركيا بالصدمة البالغة وخصوصا في صفوف السوريين. فحين تتوقع نتائج إيجابية للغاية بعد الانتصار الأنتخابي الكبير ثم تحصد عكس ذلك تماما، فلا يُستغرب من ردود الفعل المستهجنة خصوصا من العوام والذين لم يجدوا من يشرح لهم حقيقة الأمر سوى محرضين من هنا وهناك ممن يصبون الزيت على نار مشتعلة.

هل ما زال للدولة العميقة السابقة ومن أنصار غولن رجالات في مستويات مختلفة في الدولة التركية؟ وهل تعمد أولئك تنفيذ الأوامر بشكل تعسفي يعصف بسمعة تركيا ومواقفها السابقة ومكانتها عربيا وإسلاميا ودوليا فيما يخص مواقفها الإنسانية والأخلاقية؟ ولماذا تأخرت الدولة في الرد بل وغابت أحيانا، تاركة المجال للمحرضين والعنصريين يصولون ويجولون كيفما يشاؤون؟ وهل لتواصل أردوغان مع نتيناهو في نيويورك والحديث عن المشاريع المشتركة بين الدولتين علاقة فيما يحدث وتواجهه تركيا؟ وهل يشكل تراجع الإقتصاد والليرة التركية جزءا من الصورة المتراكبة؟

هناك قراءة تقول أن جزءا من المعارضة التركية "المتطرفة" ليس عندها ما تخسره في مرحلة ما بعد الإنتخابات، فتحركت بالتناغم مع توجهات وتوجيهات عربية ودولية لزرع الألغام السياسية والاقتصادية والشعبوية في طريق تركيا أرودغان لتنهي الحياة السياسية للزعيم التركي بطريقة سلبية لكي لا يكون نموذجا تركيا ملهما للإجيال القادمة. يلاحظ أن إعلاما عربيا –وإن كان العلاقة بين الأنظمة العربية الممولة له وتركيا تحسنت كثيرا- بدت مواقفه مما يحدث في تركيا شامتة ومحرضة لدرجة واضحة وفاقعة. ولا يستبعد أن هناك ضغوطات إقتصادية من وراء ستار تستهدف  الإقتصاد التركي خصوصا بعدما فشل أو :افشال" نموذج أردوغان في بديل اقتصادي عن النظام الربوي العالمي.

أردوغان وحزبه تجاوزو مراحل صعبة وعصيبة في مسيرتهم السياسية الطويلة، من التعامل مع العسكر والغرب ومواجهة روسيا والعقوبات الأمريكية وغيرها، وكان أردوغان كالذئب السياسي والذي يتراجع حين يشعر بالضغوط الكبرى في ملفات معينة بل ويعكس مساره في بعضها، خشية وقوع خسائر كبرى لا يمكن تعويضها إن تعددت الجبهات وتراكمت الضغوط. من هنا فإن هناك من يرى أن الغزل التركي مع الدولة العبرية يقع في هذا الإطار، وإن هناك ضغوطات كبيرة غير مرئية على تركيا على أصعدة مختلفة خصوصا مع تراجع مصر السيسي عن التقارب مع تركيا وإلغاء السيسي –والذي لا يملك قراره السياسي على الأغلب مع ما تعانيه مصر من أزمات إقتصادية وسياسية كبيرة – زيارته لتركيا وبشكل مفاجيء.

الهجمة على تركيا وصدور بعض الفيديوهات والتي قد يكون بعضها مبرمج، وردات الفعل الشديدة والمبالغ فيها والمتشنجة، والدعوة للإبتعاد عن تركيا ومقاطعتها سياسيا وسحب الاستثمارات منها، ردا على مواقف العنصريين فيها، قد تكون مفهوما إذا وجدنا لإصحابها نفس المواقف مع دول غربية تبالغ في عنصريتها كفرنسا ضد الفرنسيين من أصول مهاجرة وتمنع حتى السائحات من لبس النقاب أو أرتداء ملابس معينة على شواطىء البحر. عزل تركيا عن بعديها العرب والإسلامي يضرب مشروع تركيا الناهض في الصميم، كما يؤثر على إقتصادها بشكل سلبي وحرج، ويهدد أسواق بضائعها المرغوبة في تلك الأسواق، خصوصا مع صدور دعوات المقاطعة لها.

هل هناك ما منع الدولة من التحرك الحازم ضد المحرضين طوال الفترة الماضية؟ والذي تبين بعد أن تحركت الحكومة أن أحد قادة التحريض العنصري إيراني؟ وهل تأثر جهاز الاستخبارات التركية برحيل زعيمه فيدان إلى الخارجية؟ وهل الخوف على الانتخابات البلدية في ربيع العام القادم، أمر كبل يد الدولة مما زاد من سعار المحرضين؟ صبر الدولة دفع بالعنصريين لإستهدف المحجبات التركيات في حملة تبدو مبرمجة، خصوصا وأن جل المهاجمات من العلمانيات كبيرات السنة، وهو أمر يهدد الأمن الإجتماعي في دولة يفترض أن حل الإشكاليات فيها يتم عبر صناديق انتخابات لا يشكك أحد في صدقيتها ومصداقيتها، لا داخليا ولا خارجيا.

بتقديري أن تركيا أردوغان تواجه التحدي الأصعب والأقسى في تاريخها، والذي يستهدف مصداقيتها الأخلاقية والسياسية ومن ثم يستهدفها إقتصادا ومجتمعا ودولة وكيانا. على الدولة التركية التعامل مع التحديات الكبيرة بجدية مطلقة وبعقلية حالة الطوارئ ضمن صيغ قانونية واضحة وشفافة وحاسمة. هناك قصص غير منطقية بالتعامل مع المستثمرين والسياح خصوصا العرب، يجب فتح خطوط ساخنة لتلقي الشكاوي باللغات المختلفة ودراستها أمنيا وتمحيصها للتأكد من وجود روابط بينها من عدمه، ومن ثم الوصول لمهندسي تلك الحملات إن وجدوا! التأخر في التعامل بحزم وحسم ومن خلال إطر قانونية واضحة يتخذها البرلمان التركي، مع التحريض على الكراهية والاعتداءات خصوصا قتل وطعن المهاجرين، ستكون له أثمانا فادحة وتكلفة باهظة. على الرئيس التركي تغيير الواجهات والقيادات الأمنية والتي أخفقت في التعامل مع تلك التحديات إن لم نقل أنها ربما ساهمت من خلال قراراتها وطرق تنفيذها في تأجيجها، وعلى الدولة التعامل مع موظفيها خصوصا من الأمن والجندرمة ممن يسيئون تطبيق الأوامر ويتعاملون بفظاظة ومن غير إنسانية مع اللاجئين والمهاجرين، بحسم وحزم وشفافية.

للتأخر أثمان فادحة، ولغياب الرئيس التركي لفترة من الزمان عن هذه الأحداث وإن كانت قصيرة ولكن تبعاتها قد تكون كبيرة. التدمير أسهل بكثير من الإعمار، وإشعال الحرائق أيسر بكثير من إطفائها. على الدولة ومن خلال الأرقام والمعطيات الدقيقة مخاطبة الجماهير عن الفوائد الإقتصادية والسياسية لوجود المهاجرين اللاجئيين والمستثمرين بالحقائق والأرقام. وأن اللاجئ والمهاجر السوري وغيره يشارك في بناء نهضة تركيا كما فعل الاتراك بعد الحرب العالمية الثانية في أوربا عموما والمانيا خصوصا، وأنه من المعيب أن نرفض العنصرية الالمانية ضد المهاجرين ونمارسها في تركيا ضد السوريين.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس