ترك برس

بغض النظر عن المسار الذي ستسلكه الأحداث بعد اليوم، فإنّ إسرائيل في مأزق عظيم. ما وقع قد وقع مزلزلا أركانها وهادماً أقوى عنصر في استراتيجية البقاء الإسرائيلية ألا وهو عنصر الردع. انهيار عنصر الردع يعني أنّ الإسرائيليين لم يعدوا آمنين، وإذا ما عرفنا أنّ معظمهم يحمل جوازات سفر غربية ولم يعد حقيقية مهتماً بالدفاع عن مصالح الطبقة السياسية أو تحقيق أطماع توسعية بقدر ما هو مهتم بتحقيق أحلامه الخاصة، فهذا يعني انّ إسرائيل باتت معرّضة للإنهيار الداخلي في غياب عنصر الردع. ولعل هذا السبب هو أحد أسباب الهستيريا غير المسبوقة في الدعوة علنا لإبادة الشعب الفلسطيني.

الجيش الإسرائيلي استدعى أكثر من 300 ألف من عناصر الاحتياط، وطلب دعماً مالياً عاجلاً من الولايات المتّحدة قدره 10 مليار دولار فضلاً عن الذخائر والقنابل والأسلحة. وعلاوة على ذلك، أرسلت الولايات المتّحدة عدداً من قواتها الخاصة لدعم الجيش الإسرائيلي ونشرت قطع عسكرية في المنطقة من بينها أكبر حاملة طائرات ي العالم لدعم النفسية المنهارة للجيش الإسرائيلي وإرسال رسالة ردع للمعنيين.

بالرغم من ذلك، فإنّ الجيش الإسرائيلي أجّل الغزو البرّي الشامل عدّة مرات بحجّة "الطقس"، لكن الجنرال الإسرائيلي المتقاعد يتسحاق بريكس يقول في تقييم له ما معناه أنّ الجيش الإسرائيلي ليس جاهزاً، ولا يستطيع أن يربح حرباً بشكل منفرد دون دعم خارجي، وأنّ الدخول في حرب عسكريّة برّية سيكون نتيجته إيقاع خسائر بشرية فادحة بالجيش الإسرائيلي لا يمكن تحمّلها.

على المستوى الأمريكي، ستسرّع هذه الحرب من تراجع الدور والتأثير الأمريكي في الشرق الأوسط بشكل كبير، كما ستقضي على ما تبقى من أي صورة أو تصوّر جيد عن الولايات المتّحدة في المنطقة. إستمرار العملية العسكرية الإسرائيلية والاستمرار في قتل المدنيين الفلسطينيين، قد يؤدي الى إستهداف مواقع و/او مصالح الولايات المتّحدة في المنطقة والعالم. وبخلاف ما يعتقده بعض الأمريكيين، فانّه إذا ما تمّ جر واشنطن الى الحروب الإسرائيلية لن تكون قادرة على الاستمرار في أوكرانيا. فضلاً عن ذلك، سيدفع بايدن على الأرجح ثمن مواقفه غالياً، اذ تسير بعض التوقّعات الا انّ مهمته في الفوز في ولاية ثانية أصبحت أصعب الأن مما كانت عليه.

أمّا الاتحاد الأوروبي، فقد أظهر إزدواجيّة غير مسبوقة، ونفاقاً لا حدود له، وسيدفع ثمن ذلك على عدّة جبهات ليس أقلّها تقويض القضية المحقّة لأوكرانيا في دول الجنوب وفي المنطقة العربية والإسلامية بطبيعة الحال. كما ستجني روسيا والصين أرباحاً مجانّية في المنطقة بسبب الموقف الأوروبي حيث سترتفع أسهم الطرفين على حساب أوروبا. لن يأخذ أحد أوروبا على محمل الجد في المنطقة، وقد يضطرون الى دفع أثمان إقتصادية وسياسية إذا ما إستمرت الحرب لفترة طويلة، وسيخسرون على الأرجح أي أفضلية يعتقدون انّهم يتمتعون بها ضد روسيا.

أمام هذا الوضع، فإنّ الصين وروسيا ستحقق تقدّماً على مستوى العلاقة مع دول الجنوب. الغرب في تراجع مهول رغم الإنكار الذاتي للعديد من النخب السياسية والفكرية. هذا لا يعني بطبيعة الحال أنّ الصين أو روسيا أفضل أو انّهما ستنجحان في ملئ الفراغ بالضرورة، لكن يعني انّ مساحة النفوذ لديهما في المنطقة ستزداد وهو ما سيصعّب مهمّة الغرب في كبع جماح تراجعه فضلاً عن استعادة زمام المبادرة.

الدعم المطلق لإسرائيل سيزيد أيضاً من الضغط الشعبي الداخلي في العديد من الدول العربية التي تخشى حكومتها إنتفاضات او أعمال تؤدي الى زعزعة سلطتها. هذا الوضع يعني كذلك أنّ الدول التي طبّعت مؤخراً ستترقب نتيجة المعركة قبل أن تفكّر في عواقب التفاعل مع إسرائيل مجدداّ. ومع تراجع نفوذ ودور الولايات المتّحدة وإشتداد النقمة الشعبية عليها، ستقوم العديد من الدول العربية بالاعتماد المتزايد على إستراتيجية التحوّط والإنفتاح على خيارات أخرى في ظل فراغ متزايد تقوم دول أخرى بملئه كالصين وروسيا والعديد من القوى الإقليمية.

اللاعب الوحيد الذي يبدو أنّ التطوّرات الحالية خدمته بشكل جيّد وستخدمه بشكل أكبر إذا لم تتطور الحرب الإسرائيلية ضد الفلسطينيين هو إيران وميليشياتها في المنطقة العربية. معسكر إيران وبعد أن فرغ من الملف السوري ومن تقاطع المصالح مع إسرائيل والولايات المتحدة في محاربة "داعش"، أعاد فتح التفاوض مع الولايات المتّحدة حول البرنامج النووي ويريد إعادة رسم قواعد اللعبة مع تل أبيب وواشنطن من جديد.

العدوان الإسرائيلي على الفلسطينيين يساعد في تبييض صفحة إيران وميليشياتها في المنطقة والعالم الإسلامي كما يُحسّن من أوراقها الاستراتيجية ومن وضعها التفاوضي مع أي إدارة أمريكية قادة بعد رحيل بادين. وبالرغم من الحديث الإعلامي عن حرب مع إسرائيل، إلاّ انّه ليس من مصلحة إسرائيل أو إيران شن حرب مباشرة على بعضهما البعض، ولذلك نرى أنّ معاركهما لتوسيع نفوذهما تتم على أراضي العرب وعلى حساب العرب.

المثير للإهتمام أنّ دخول إسرائيل في عملية عسكرية برّية واسعة في غزة سينهك الجيش الإسرائيلي بشكل كبير ويضعفه بشكل غير مسبوق، ولا شك انّ ذلك سيفيد إيران إستراتيجياً في المرحلة القادمة، كما سيزيد من قوّة إيران على طاولة المفاوضات مع الولايات المتّحدة. أمّا إمتناع إسرائيل عن إطلاق الحملة العسكرية البريّة الواسعة فسيسمح لإيران بالإدّعاء الكاذب بأنّها وميليشياتها نجحت في ردع إسرائيل، وهو إدّعاء تستطيع من خلاله أن تحصد مكاسب مجانية كبيرة في العالم العربي والإسلامي، لكنّه في المقابل سيحفز إسرائيل على التحضير لحرب جديدة لتثبت عكس ذلك (أي انّه لم يتم ردعها)، وسيدفع العرب مرّة أخرى الثمن.


**مقال تحليلي للكاتب والباحث علي باكير، نشره موقع عربي21 الإخباري

عن الكاتب

د. علي حسين باكير

مستشار سياسي - باحث في العلاقات الدولية والشؤون الاستراتيجية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!