ترك برس

قال عمر أونهون، آخر سفير تركي بدمشق، إن الانفجارات العرضية داخل حلف شمال الأطلسي "ناتو"، تحولت إلى فرص خلال السنوات الأخيرة.

جاء ذلك في مقال له بعنوان "كيف يحتفل الناتو باليوبيل الماسي لتأسيسه؟" بالتزامن مع عقد رؤساء الدول والحكومات الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، البالغ عددهم 32 دولة، اجتماع قمتهم في واشنطن خلال الفترة بين 9-11 يوليو/تموز الجاري، مع حلول الذكرى الخامسة والسبعين للتحالف.

الدبلوماسي التركي السابق قال إن هذه الذكرى تحل "في بيئة أمنية عالمية بائسة، شبيهة بما كان عليه الحال في عام 1949. في ذلك العام، وخوفا من شراهة الاتحاد السوفياتي الذي كان مستعدا لابتلاع الدول الأوروبية المنهكة من الحرب، تفاوضت عشر دول أوروبية مع الولايات المتحدة وكندا ووقعت على معاهدة شمال الأطلسي في 4 أبريل/نيسان في واشنطن".

وفيما يلي النص الكامل للمقال:

أوضح الرئيس الأميركي في ذلك الوقت، هاري ترومان، أغراض هذه الهيئة العسكرية العابرة للمحيط الأطلسي، قائلا: "في هذا الاتفاق، نأمل في إنشاء درع ضد العدوان وضد الخوف من العدوان أيضا، إنشاء حصن يسمح لنا بمواصلة العمل الحقيقي كحكومة ومجتمع، من أجل العمل على تحقيق حياة أكمل وأكثر سعادة لجميع مواطنينا".

وقد ارتفع عدد أعضاء "الناتو" منذ تأسيسه إلى 32 دولة، مع موجات من التوسع امتدت على مر السنين. حيث انضمت تركيا واليونان عام 1952، وألمانيا الغربية عام 1955، وإسبانيا عام 1982، وبولندا والمجر وجمهورية التشيك عام 1999، وبلغاريا وإستونيا ولاتفيا وليتوانيا ورومانيا وسلوفاكيا وسلوفينيا عام 2004، وألبانيا وكرواتيا عام 2009، والجبل الأسود (مونتينيغرو) عام 2017، ومقدونيا الشمالية عام 2020، وفنلندا عام 2023، وأخيرا السويد عام 2024".

تتمحور الفلسفة الرئيسة لحلف شمال الأطلسي حول الدفاع الجماعي، وهو هيئة شعارها "الواحد للكل والكل للواحد"، بهدف ردع المعتدي والدفاع عن الحلفاء في حال فشل الردع. حيث تمثل المادة (5) جوهر الوثيقة التأسيسية لحلف شمال الأطلسي، وتنص على أن "الهجوم المسلح ضد واحد أو أكثر من أعضاء الحلف يعتبر هجوما عليهم جميعا وسوف تُتخذ كافة الإجراءات الضرورية، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة".

ولم تُفعّل المادة (5) إلا مرة واحدة، عند وقوع الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر/أيلول 2001، وجاءت كعمل تضامني مع الولايات المتحدة.

وقد نجا حلف شمال الأطلسي وخرج منتصرا من الحرب الباردة، وأصبح خصومه، الاتحاد السوفياتي وحلف "وارسو"، جزءا من التاريخ. واستعادت جمهوريات البلطيق الثلاث استقلالها، وانسحبت القوات السوفياتية من دول شرق ووسط أوروبا، واتحدت ألمانيا.

كانت التساؤلات الكبرى في الفترة التي تلت الحرب الباردة مباشرة تدور حول شكل البيئة الأمنية الجديدة، وما إذا كان الحلف سيظل ضرورياً ومهماً. ومع ذلك يستمر "الناتو" في كونه ذا أهمية كبيرة، مؤكدا صحة المثل الشائع "ما لا يقتلك يجعلك أقوى".

لقد تحولت الانفجارات العرضية من داخل الحلف، مثل إعلان الرئيس إيمانويل ماكرون أن "عقلية حلف شمال الأطلسي ميتة"، أو تهديدات دونالد ترمب بتعديل مشاركة الولايات المتحدة، تحولت إلى فرص. حيث قام حلف شمال الأطلسي بمراجعة للذات وتجديد نفسه.

ويمكن متابعة تطور الحلف من خلال مفاهيمه الاستراتيجية المتعاقبة، التي تخضع للمراجعة كل 8 إلى 10 سنوات تقريبا باعتبارها وثيقة التوجيه الأساسية، حيث توضع الاستراتيجية من خلال تحديد الغرض من الحلف والمبادئ والمهام الأساسية له.

حددت المفاهيم الاستراتيجية لعامي 1991 و1999، وهما أول مجموعتي مفاهيم لفترة ما بعد الحرب الباردة، مخاطر وتحديات جديدة– ومن ضمنها الخصومات العرقية والنزاعات الإقليمية والإرهاب وعدم الاستقرار السياسي وانتشار أسلحة الدمار الشامل- وسعت أيضا إلى تحسين الأمن من خلال الشراكة والتعاون مع الخصوم السابقين.

وقام الحلف بتطوير نماذج تعاون عديدة مثل برنامج الشراكة من أجل السلام، ومجلس الشراكة الأوروبية الأطلسية، والحوار المتوسطي، ومبادرة إسطنبول للتعاون، وإدخال حوالي 40 دولة شريكة من جميع أنحاء العالم في الحوار والتعاون العملي في مجموعة من القضايا السياسية والقضايا المتعلقة بالأمن.

وشكلت إدارة الأزمات مهمة بالغة الأهمية في العصر الجديد، وأطلق "الناتو" عمليات لدعم السلام في عدة مناطق، بينها البوسنة وكوسوفو ومقدونيا الشمالية، ومهام مساعدة في العراق، وعمليات مكافحة القرصنة في خليج عدن والمحيط الهندي، بالإضافة إلى عدد من المهمات في كل من أفغانستان وليبيا.

وكان انهيار يوغوسلافيا والحرب التي تلت ذلك في وسط أوروبا اختبارا رئيسا لحلف شمال الأطلسي، لأن الحلف كان قد انخرط في عمل عسكري مباشر ولعب دورا رائدا في إنهاء الصراع، ثم ساعد في تنفيذ "اتفاق دايتون" للسلام من خلال نشر قواته بتفويض من الأمم المتحدة.

وفي أعقاب هجمات 11 سبتمبر، انخرط حلف شمال الأطلسي في أعمال عسكرية، إلى جانب تحالف مع عدد من البلدان في أفغانستان، ضد تنظيم "القاعدة" وبقي هناك، في إطار قوات المساعدة الدولية لإرساء الأمن في أفغانستان (إيساف). 

كان التركيز الرئيس لحلف شمال الأطلسي منصبا على الاتحاد الروسي، الذي وصف في المفهوم الاستراتيجي بأنه "التهديد الأكثر أهمية ومباشرة لأمن الحلفاء وللسلام والاستقرار". ومع ذلك، لم تكن العلاقات بين حلف شمال الأطلسي وروسيا بعد نهاية الحرب الباردة عدائية دائما. في البداية، انخرط الجانبان في بناء علاقة مستقرة، وقاما بتأسيس مجلس "الناتو وروسيا المشترك" (NRC) في عام 2002.

ومع ذلك، حافظت روسيا منذ ذلك الحين على شكوكها الدائمة في نوايا حلف شمال الأطلسي تجاهها، واعتبرت توسيع الحلف عبر ضم الدول التي كانت سابقا أعضاء في حلف "وارسو" دليلا على نيته الحقيقية في تطويق روسيا وإضعافها.

من جانبه، كان لدى "الناتو" مخاوف بشأن سياسات روسيا تجاه الجمهوريات السوفياتية السابقة ودول حلف "وارسو" (WP)، ومفهوم "الخارج القريب" (المستخدم من قبل الاتحاد الروسي للإشارة إلى الدول الأربع عشرة التي نتجت عن انهيار الاتحاد السوفياتي).

وبعد أن ضمت روسيا شبه جزيرة القرم في عام 2014، توترت علاقاتها مع الحلف بشكل خطير ثم انقطعت تماما بعد غزوها لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022. ويساعد "الناتو" أوكرانيا في الدفاع عن نفسها، بينما صرح مسؤولون روس رفيعو المستوى أن روسيا وحلف شمال الأطلسي في مواجهة مباشرة الآن. وتحدث الأمين العام ينس ستولتنبرغ عن السبب الكامن وراء هذا الدعم معربا أنه لا ينبغي اعتباره عملا خيريا، بل استثمار في أمن أوروبا.

ويشير مسؤولو "الناتو" إلى أن الحلف لا يقدم سوى "المساعدات الإنسانية وغير الفتاكة" لأوكرانيا، وأن الدول الأعضاء منفردة هي التي ترسل الأسلحة والذخيرة، وتدرب القوات الأوكرانية. وتجدر الإشارة إلى أن هذا لا يعني أن الغرض من هذه الإفادة هو تغيير طريقة تفكير روسيا.

وقد اتفق الحلفاء على قبول أوكرانيا في حلف "الناتو"، ولكن تفاصيل كيفية هذا الانضمام وتوقيته، بل وحتى ما إذا كانت عضوية أوكرانيا ستتحقق لا تزال غير مؤكدة، على الرغم من التصريحات العلنية للدعم والإجراءات مثل إلغاء شرط خطة عمل العضوية لأوكرانيا.

ذلك أن العضوية الفورية لأوكرانيا في ظل الظروف الحالية من شأنها أن تستدعي المادة 5 وتجرّ "الناتو" إلى الصراع. وقد دفع العدوان الروسي والبيئة الأمنية المتطورة "الناتو" إلى تكييف استراتيجياته وهياكله العسكرية. ومن بين التدابير الأخرى، زاد الحلف من عدد مجموعات القتال ومستويات جاهزيتها وطوّر نماذج جديدة للقوات.

وتعزز الوجود المتقدم لـ"الناتو" على امتداد الجناح الشرقي لدول الحلف، من بحر البلطيق في الشمال إلى البحر الأسود في الجنوب، من خلال زيادة حجم قوات الاستجابة التابعة لحلف "الناتو" ثلاثة أضعاف. هذه القوات متعددة الجنسيات متقدمة تكنولوجياً وعلى أهبة الاستعداد. كما تم نشر مجموعات قتالية متعددة الجنسيات في دول البلطيق وبولندا، وإنشاء مجموعات قتالية إضافية على أراضي الحلفاء في أوروبا الوسطى والشرقية.

وبالإضافة إلى قوته التقليدية، يبقى حلف شمال الأطلسي حلفا نوويا، وتشكل الأسلحة النووية "الضمان النهائي والأعلى لأمن الحلفاء"، ما يعني أنه يمكن استخدامها، إذا دعت الحاجة.

كل هذه القضايا مثيرة للجدل إلى حد كبير، ويعتبر التوصل إلى قرارات تسوية في هيكل يتألف من 32 دولة أمرا صعبا، حيث تمتلك كل دولة صوتا متساويا ولاتخاذ القرارات يجب الحصول على الإجماع. والسياسات الوطنية لكل دولة تختلف بشأن مجموعة من القضايا أحيانا، بما في ذلك القضايا الحساسة مثل الحرب في أوكرانيا والعلاقات مع الصين، وفي بعض الأحيان تكون الاختلافات حادة.

كما أن المنافسات والنزاعات طويلة الأمد بين بعض الحلفاء، مثل تلك الموجودة بين تركيا واليونان أو بين مقدونيا الشمالية واليونان، تجعل الأمور صعبة أيضا. إذ تم حظر طلبات العضوية الهامة سياسيا وعسكريا التي تقدمت بها فنلندا والسويد من قبل تركيا والمجر، واستغرق الأمر شهورا من المفاوضات للتغلب على هذه المشاكل والسماح للدولتين البلطيقيتين بالانضمام.

ويحسب لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، كما هو الحال في جميع هذه الحالات، أن الحلفاء تمكنوا دائما من تسوية اختلافاتهم والمضي قدما.

وتتمثل إحدى الأولويات الرئيسة لحلف شمال الأطلسي في الحفاظ على الموارد المالية الكافية لدعم عمليات مستمرة بهذا الحجم. فقد دفعت شكاوى الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب وتهديداته بشأن تقاسم الأعباء حلف شمال الأطلسي إلى البحث عن سبل جديدة لمعالجة الإنفاق الدفاعي. ومنذ ذلك الحين، وافق كل حليف على تخصيص ما لا يقل عن 2 في المئة من ناتجه المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي، وحتى يومنا هذا أوفت 23 دولة فقط بهذا الالتزام.

ويمثل هذا إنجازا مهماً، إذ يُذكر أنه في عام 2014، عندما تم اتخاذ القرار، كان هناك ثلاث دول فقط من الحلفاء القادرين على تحقيق حاجز الـ2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق الدفاعي.

لقد أدت الحرب في أوكرانيا إلى فرض ضغوط جديدة على الموارد المالية. واقترح الأمين العام ينس ستولتنبرغ في البداية إنشاء صندوق بقيمة 100 مليار دولار لمساعدة أوكرانيا على مدى خمس سنوات، لكنه اضطر إلى التراجع بسبب الخلافات بين الحلفاء، واستبدل به اقتراحا بإنفاق ما لا يقل عن 43 مليار دولار سنويا على المساعدات لكييف، وهو موضوع ستتم مناقشته ووضع اللمسات النهائية عليه في قمة واشنطن المقبلة.

ومع توسع النظرة الأمنية لحلف شمال الأطلسي إلى ما هو أبعد من منطقة مسؤوليته التقليدية، برزت جمهورية الصين الشعبية باعتبارها مصدر قلق كبيرا. وقد أعلن "الناتو" أن "طموحات الصين وسلوكها الحازم يشكل تحديات نظامية للنظام الدولي القائم على القواعد والمجالات ذات الصلة بأمن التحالف".

إلى ذلك، سلط بيان قمة فيلنيوس لعام 2023 الضوء على مخاوف من نوع آخر تتعلق بالعمليات الإلكترونية والتضليلية التي تقوم بها الصين ومحاولاتها السيطرة على القطاعات الصناعية وسلاسل التوريد الحيوية. إن الشراكة الاستراتيجية المتعمقة بين الصين وروسيا، والتي تشمل مساعدة الصين في المجهود الحربي الروسي ومساعدتها على التهرب من العقوبات الغربية، تثير القلق بشكل خاص بالنسبة لحلفاء "الناتو". وهم يراقبون عن كثب التقارب بين الجهات الاستبدادية العالمية، بما في ذلك روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية.

ولا تشكل الصين تهديدا عسكريا مباشرا لحلف شمال الأطلسي، ولكن بما أن التطورات الأمنية عالمية- وخاصة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، ويمكن أن تؤثر بشكل مباشر على الأمن الأوروبي الأطلسي- لذلك نرى أن الحلف قد جدد اهتمامه بالمنطقة، فتشكلت شراكات جديدة مع أستراليا واليابان ونيوزيلندا وكوريا الجنوبية.

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!