ولاء خضير - خاص ترك برس

شهد العقد الماضي تصاعدًا في التعبير عن هوية الأقلية العلوية في تركيا، والتي تُعد الأكثر ارتباطًا بموضوع العلمانية والإسلام في البلاد، فمنذ أن وصل حزب العدالة والتنمية إلى سدة الحكم عام 2002م، سعى إلى تبني سياسة جدية، قوامها حلُّ المشكلات ذات التكوين القومي كالمسألة الكردية، والتكوين الديني كالمسألة العلوية، وهي مشكلات تتعلق بالهوية، ورثتها حكومة العدالة والتنمية من الدولة التركية المعاصرة، التي نشأت في عام 1923م، جراء تفكك الخلافة العثمانية، وبهذا فإن المسألة العلوية، تُعد أحد مصادر القلق والتمزق الاجتماعي في تركيا.

تمثل الطائفة العلوية حالة فريدة في تركيا، التي تبلغ نسبة المسلمين فيها 97%، فهي موجودة منذ بدايات القدوم التركي إلى الأناضول.

ويتوزع العلويون في تركيا على ثلاث مجموعات إثنية على الأقل: تركية وكردية وعربية، وبسبب عدم وجود إحصاءات على أساس مذهبي، فإن عدد العلويين يشكل عاملا ضاغطا جدا، فهم أنفسهم يقدرون عددهم بما يقارب 25 مليونا، فيما تقدر أوساط شبه رسمية أنهم يقاربون الستة أو السبعة مليون، لكن التقديرات المستقلة والخارجية، ومنها الاتحاد الأوروبي وتقارير أمريكية، تُرجح أن يتراوح عدد العلويون بين 16وعشرين مليونا.

ويُعرف فقهاء الطائفة العلوية، بأنهم مسلمون دينيًّا مثل الشيعة، يعطون مكانة كبيرة للإمام علي رضي الله عنه وآل البيت، لكنهم يختلفون في كثير من التفسيرات والممارسات الدينية التي تحوي طقوسًا قريبة من الصوفية، هذه التباينات دفعت بعض علماء المسلمين إلى إتهام العلويين بـ"الهرطقة".

وينقسم علويو تركيا إلى مجموعتين، الأولى امتداد لعلويي سوريا، وهم الجزء الأصغر، ويقدر عددهم بـ 250 ألفا، ومكان إقامتهم في لواء إسكندرون، ويطلق الأتراك على هؤلاء (أي علويي الإسكندرون) لتمييزهم عن علويي تركيا الآخرين اسم "النصيريين"، في إشارة إلى أنهم جزء من علويي سوريا، حيث تقع جبال النصيرية إلى الجنوب من لواء الإسكندرون.

والمجموعة الثانية علويو الأناضول، وهم مجموعات من الأتراك والأكراد وبعض التركمان وهي الفئة الكبرى، وتشكل الأخيرة كيانا علويا مستقلا، بمؤسساته وقومياته وشخصياته، رغم وجود تشابه مع العلويين في سوريا فيما يتعلق بالعقائد والعبادات.

كما تشكل الأقلية العلوية بين 15% و20% من مجموع سكان تركيا، وينظر اليها بوصفها بندا أساسيا في النزاع العلماني - الإسلامي، وهي تطال ذهنية متجذرة في الدولة التركية، لم تستطع التجربة العلمانية أن تمحوها، أو أن تخفف من غلوائها، إذ ينتاب تركيا بين الحين والآخر تمزق اجتماعي، ناتج عن أعمال العنف بين الأغلبية السنية، والأقلية العلوية.

ومع أن العلويين هم جزء من الشيعة، يعد العلويون أنفسهم ممثلين للتفسير الأناضولي التركي للإسلام، أي أنهم مجرد طريقة دينية، يمثلون مجموعة مذهبية، وليس مجموعة عرقية متجانسة، حيث يتوزعون بين جماعات عرقية، أبرزها وكبراها الأكراد (30% من أكراد تركيا علويون) إلى جانب أعداد من العرب، كما أنهم مختلفو اللغات، حيث يتحدثون التركية والعربية والظاظا والكرمانجية، وللغتين الأخيرتين صلة باللغة الكردية والفارسية، فضلا عن تعدد الفرق العلوية (البكتاشية، الديدقان والشيلبين).

وفي ثلاثينات القرن الماضي، تم اعتماد النظام العلماني، كأساس لحكم الدولة التركية الناشئة حينها، وكان موضع ترحيب وتأييد مطلق من جانب العلويين الأتراك، الذين وجدوا في هذه السياسة الجديدة فرصة مهمة لأداء دورهم في الحياة السياسية والاجتماعية، وأصبحوا الدعامة الأساسية للنظام العلماني، وهم يرفعون صورة أتاتورك إلى جانب صورة علي بن أبي طالب، وحاجي بكتاش، وهو مؤسس الفرقة العلوية المعروفة باسم بيكتاش، في جميع مناسباتهم الوطنية والدينية.

ومع تزايد الصراع على الهوية في مرحلة الستينيات والسبعينيات من القرن المنقضي، فقد أصبحت العلوية يسارية الطابع، وتبنى كثير من العلويين الفكر الماركسي في مواجهة الفكر اليميني القومي المتطرف، والإسلام السياسي الصاعد.

كما ظهرت انقسامات خطيرة بين اليمين واليسار من المنظمات المتطرفة والمتنافسة، انعكس أثرها على المجتمع التركي ككل، حتى إنه أخذ صورة هجمات متبادلة بين السنة والعلويين، ومصادمات للأكراد مع القوات التركية، وعاد من جديد الطابع السياسي للعداء العرقي والطائفي الذي سبق أن أخُضع للسيطرة.

وسياسيًا ينتمي معظم "العلويين" إلى الأحزاب "العلمانية" اليسارية والقومية، وعلى رأسها حزب "الشعب الجمهوري"، المعارض الأبرز للحزب الإسلامي الحاكم.

أسهم الشقاق السني– العلوي في الانقسام بين الحزبين الرئيسين، حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه أتاتورك لضمان العلمانية، وحزب العدالة والتنمية، وبينما كانت شعبية حزب الشعب الجمهوري ناجحة إلى حد ما بين صفوف فقراء المدن، فإنه أخفق في إثارة الدعم الريفي.

وقد ألحق انقلاب سبتمبر/ أيلول 1980م، بالغ الأذى بأحزاب اليسار العلماني، الذي يشكل العلويون فيها القاعدة الأساسية والعريضة، في مقابل دعم الحركة الانقلابية للاتجاهات الإسلامية السنية، وتأكيدها على البعد الديني للهوية السياسية.

ولا يشار إلى العلوي على أساس قوميته، بقدر ما يوصف بأنه علوي ينحاز للعلمانية والحركات اليسارية، لا سيما المتطرفة منها، فالتأييد العلوي التقليدي يذهب دائما إلى الأحزاب الأكثر علمانية، فهم المدافعون الرئيسون عن العلمانية.

ويعد انفتاح الدولة على الإسلاميين أو عدمها، مقياسا لتقدم العلاقة أو تراجعها بينها، وبين العلويين الذين يقفون في وجه التيار المتدين، محاولين إيجاد حساسيات في التوازن بين فئات المجتمع التركي.

ويمارس النظام التركي عموما تشددا علمانيا حيال الحركات الإسلامية، ويتحرك في الوقت نفسه بذهنية إسلامية حيال العلويين، بما يشعرهم بأنهم مواطنون من الدرجة الثانية، فمعظم المسؤولين الأتراك يتعاطون بحذر مع الصحوة العلوية، فهم من جهة علمانيون يجدون في الأصوات العلوية مصدرا أساسيا لدعم العلمانية، ولكنهم في الوقت نفسه لا يستطيعون الخروج من الذهنية الإسلامية السنية، وريثة قرون من السيطرة على السلطة.

وتقترب الدولة والأحزاب التركية العلمانية التي تكون في السلطة من العلويين ومطالبهم، بقدر تعاظم قوة التيار الإسلامي، وتبتعد عنهم كلما ابتعد شبح ما يسمى (الخطر الإسلامي)، أي أن النظام العلماني التركي ينظر إلى العلويين بوصفهم مجرد أداة تستخدم عند الحاجة لحماية نفسه من الإسلاميين.

وبرغم تأييد العلويين للعلمانية، فأن هناك من يتهمهم بالتعاطف السياسي مع حزب العمال الكردستاني التركي "بي كي كي"، لا سيما أن زعيم هذا الحزب عبد الله أوجلان هو كردي علوي، لكن العلويين ينفون هذه التهمة.

ويعتقد العديد من الباحثين الأتراك أن العلويين واقعون تحت تأثير الفئات اليسارية المتطرفة، وأنهم أنشؤوا جمعيات متطرفة، لا سيما مجموعة الممر الأحمر (كيزل يول)، التي اتخذت من ألمانيا مركزا لها، وهي تدعو إلى إقامة دولة للعلويين، على غرار محاولة الأكراد الانفصالية تأسيس دولة كردية، ليشكل العلويين بذلك أكثرية أعضاء المنظمات الانفصالية، فضلًا عن أن معظم الحركات اليسارية في تركيا، تعتمد الآن في وجودها ونشاطها على العلويين.

أما فيما يخص القضية السورية، فإن علويي تركيا من الأكراد والأتراك، يبدون القلق من سياسة الحكومة التركية، التي برأيهم تدعم "القسم السني في المنطقة"، وان قسم منهم لا يدعمون نظام بشار لأنه ديكتاتور، لكنهم يخافون من نتائج التدخل التركي، فيما يخص الصراع المذهبي في سوريا.

وكما أن العلويين العرب خاصة في أنطاكيا، يعارضون الحكومة التركية بشكل علني، كونهم لديهم علاقات عائلية بالعلويين بسوريا، ويرون أن الرئيس أردوغان يريد الإطاحة بنظام الأسد لأنه "علوي" - على حد تعبيرهم.

إلا أن العلويين بتركيا، منقسمون وليسوا يدا واحدة، وهذا يجعلهم ضعفاء ودون تأثير في السياسة بتركيا، كونهم أيضًا لا يتوفرون على حزب سياسي يمثلهم ويطالب بحقوقهم رسميًا، وبسبب مكوثهم الطويل في الداخل التركي ما جعلهم- في غالبيتهم- أتراك الانتماء أولًا، في حين لا يرتقي المتعاطفون منهم مع النظام السوري إلى حد القيام بردة فعلٍ أكثر من التعاطف النظري.

بينما كان لهؤلاء القلة من المؤيدين بقوةٍ للنظام السوري، فرصة الإنضمام إليه سابقًا مع اندلاع الثورة السورية، فقاموا بالتوجّه إلى الساحل السوري للدفاع عن الطائفة العلوية وحُكمها، ومنهم من قتل، ومنهم من بقي في الساحل السوري إلى اليوم يدافع عن الطائفة، وعن ما تبقى منها من النظام السوري.

عن الكاتب

ولاء خضير

كاتبة وصحفية فلسطينية


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس