محمد حامد - خاص ترك برس

بين ليلة وضحاها فاجأتنا القيادة التركية بتقديم مبادرات للتصالح مع دول قطعت علاقتها معها إسرائيل سوريا مصر وروسيا وكل دولة من هذه الدول انقطعت علاقتها بتركيا لأسباب عديدة يطول شرحها ولكن من المؤكد أن تركيا شرعت في ترميم سياستها الخارجية وتسعى لإعادة تأهيل نفسها وتحسين صورتها أمام دول الإقليم (الدول المطلة على البحر المتوسط والبحر الأسود) فتركيا تبحث الآن عن مهندس جديد لعلاقتها الخارجية بعد أن خرج أحمد دواد أوغلو من عالم السياسة، ويعد نهج المصالحات الحالي أمرًا جيدًا قد يبدو عشوائيًا بغرض إعادة العلاقات الدبلوماسية وقد يتحول إلى مخطط بغرض إعادة بناء الدور التركي الجديد في المنطقة.

أولا: المصالحة التركية الإسرائيلية 

ستناول المصالحة من جانب المكاسب والخسائر التركية من المصالحة مع تل أبيب:

(أ) المكاسب التركية: ففي 26 من الشهر الماضي أتمت الحكومة التركية اتفاق عودة العلاقات مع تل أبيب أو إعادة التطبيع مرة أخرى، هذه العلاقات التي تجمدت بسبب الاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة في 2010. يبدو الاتفاق شكليا لأن لا رابح ولا خاسر فيه، ولكن يمكن القول إن تركيا اقتنصت ما تريد وما يحفظ ماء وجهها أمام مناصريها من العرب وهي أن تصبح لحكومة أنقرة اليد الطولى في دعم قطاع غزة إنسانيا وهذا سيعزز شرعية حكومة حماس التي استولت على القطاع منذ 9 سنوات وأكثر كما سيحرج القاهرة التي لديها حدود برية وبحرية معها.

استطاعت تركيا أن تحصل على تعويضات تقدر بـ20 مليون دولار لأسر ضحايا سفينة مرمرة.

وجوهر المصالحة بين أنقرة وتل أبيب أو إعادة الدفء للعلاقات يأتي في إعادة ترتيب أوراق المنطقة بغرض مواجهة المحور الإيراني الممتد من ايران إلى سوريا، فالمصالحة التركية الإسرائيلية سينتج عنها تنسيق أمني لمكافحة الإرهاب المستشري على الأرض السورية وسيصب في صالح السعودية التي ترغب في تطبيع مع الدولة العبرية ولا تريد ذلك إلا من خلال إطار كبير يشمل دولًا أخرى تجتمع على تقليم النفوذ الإيراني في المنطقة، كما سينعكس التطبيع التركي الإسرائيلي على الملف الأذربيجاني في جنوب القوقاز حيث دعمت الطائرات الإسرائيلية سلاح الجو الأذري في مواجهة أرمينيا في أبريل/ نيسان الماضي، ومن المعروف أن أنقرة تدعم أذربيجان على حساب أرمينيا.

(ب) الخسائر التركية: اهتزاز صورة تركيا أردوغان في الشارع العربي كونه مطبع مع دولة تحتل أراض عربية، ولكن يمكن الرد بالقول إنه يبحث عن مصالح بلاده.

التنازل عن الرفع الكامل للحصار على غزة كان مطلبا تركيا أصيلا والاكتفاء بالمساعدات الإنسانية فقط، فرفع الحصار يعنى إقامة ميناء بحري وفتح مطار غزة وهذا لن تقبله إسرائيل ولكن ما لا يدرك كله لا يترك جُلّه، وهذا ما تم إطلاع حركة حماس عليه، والتي تحكم قبضتها على القطاع من خلال لقاءات لرئيس المكتب السياسي خالد مشعل مع رئيس الجمهورية رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء على بن يلدرم.

رفضت هيئة الإغاثة التركية لاتفاق التطبيع ورأت ان الحكومة تراجعت عن وعودها بعدم التطبيع إلا بعد رفع الحصار الكامل عن غزة، وهذا الرفض جعل رئيس الجمهورية يشن عليها هجوما حادا، واعتبر ان الهيئة لم تحصل إذنًا حكوميًا من أجل إرسال المساعدات، كما أصبحت الحكومة التركية في مأزق حيث عليها أن تسن تشريعا جديدًا من أجل إسقاط التهم في القضايا التي رفعت من المجتمع المدني التركي ومن ذوي الضحايا ضد من ارتكب اعتداء سفينة مرمرة، وهم عسكريون إسرائيليون بالإضافة لمسؤولين حكوميين وهذا تنفيذا لاتفاق التطبيع المبرم حديثا.

ثانيا: الاعتذار التركي لموسكو

(أ) وسط انتقادات الراي العام التركي للتطبيع مع إسرائيل قامت القيادة التركية بالتأسف إلى موسكو من أجل تطبيع العلاقات مرة أخرى مع روسيا، ويبدو للوهلة الأولى أن تركيا قدمت اعتذارًا مجانيًا لموسكو، ولكن بنظرة أكثر عمقًا نجد أن روسيا فرضت في كانون الأول/ ديسمبر من العام الماضي عقوبات وصفت بالرادعة على أنقرة من أجل الاعتذار عن إسقاط مقاتلة روسية في الداخل السوري، وتجلت هذه العقوبات في انخفاض عدد السياح الروس إلى الشواطئ التركية، وكان ذلك من أحد العوامل الضاغطة لإقرار مصالحة سريعة، وهذا فسر الرفع الروسي الفوري للعقوبات السياحية على أنقرة فعودة السياحة مكسب رئيسي للاقتصاد التركي خاصة أن تركيا شهدت 17 عملية إرهابية منذ أواخر عام 2015 حتى الآن منها حوادث في مناطق سياحية بالكامل.

إنهاء الخصومة السياسية مع روسيا يفتح الباب لعودة التفاهمات بين البلدين من أجل حل الأزمة السورية المستمرة منذ 6 سنوات

التصدي المشترك لخطر الإرهاب، فالدوافع الروسية لدخول أتون الحرب الروسية هي منع مقاتلي القوقاز من الانضمام للجماعات الإرهابية في سوريا، وألا تكون سوريا مصدرا للإرهاب في منطقة القوقاز ولعل حادث مطار أتاتورك الأخير أوضح مدى خطورة الذئاب المنفردة والتي تتحرك من كل مكان لاستهداف المناطق الحيوية وقد كشفت التحقيقات أن منفذي تفجير مطار أتاتورك كانوا أوزباكستاني وداغستاني وقيرغيزستاني وأحدهم يحمل جواز سفرا روسي، كل هذه مكاسب تركية فازت بها من خلال المصالحة مع روسيا في ذلك التوقيت.

(ب) الخسائر التركية من المصالحة مع روسيا: خيبت تركيا آمال المعارضة السورية التي كانت تعول على أنقرة في الضغط على روسيا ونظام الأسد من أجل ترك السلطة وبدء تحقيق الحل السياسي.

 تراجع الرئيس التركي عن موقفه المتصلب بان تركيا لم تكن تعرف هوية الطائرة وأن أنقرة لن تعتذر للقيام بالدفاع عن نفسها وهذا التراجع نتيجة الخلط بين تركيا الدولة وتركيا الرئيس فهنا اختار تركيا الدولة التي تعتذر لدولة أخرى.

عودة العلاقات التركية الروسية مكسب لروسيا أكثر منه لتركيا ولو نظريا، خاصة في ظل تجديد العقوبات الأوروبية على روسيا حتى بداية العام المقبل، وبقاء تركيا حائرة بين موسكو في الاتحاد الأوروبي ليس في صالح الاتحاد الذي لم يستوعب إلى الآن خروج إنجلترا من عباءته باستفتاء مثير لفتح شهية دول كثيرة للسير على خطى بريطانيا، إما بالاستفتاء للخروج أو باستفتاء للانضمام. كما أن روسيا استطاعت انتزاع ما تريد من تركيا لإنهاء الخلافات.

ثالثا: المصالحة مع مصر وسوريا 

(أ) كانت تصريحات على بن يلدرم في البرلمان التركي مدوية عندما قال إنه يمكن إزاحة ملف التعاطف مع نظام الحكم المصري السابق من أجل عودة العلاقات في خطوة جريئة وصادمة لأنصار جماعة الإخوان المسلمين وتعبر عن مدى البراغماتية التي تستخدمها حكومة العدالة التنمية من أجل تحسين العلاقات مع دول الجوار، وفي المقابل رحبت مصر بكلمات رئيس الوزراء التركي وربطت عودة العلاقات بالاعتراف بشرعية الحكم الحالي وإرادة المصريين التي تجسدت في مظاهرات 30 من حزيران/ يونيو والتي أسفرت عن رحيل حكومة الإخوان المسلمين، ويبدو أن المصالحة في حاجة إلى ثقل دبلوماسي متمثل في السعودية أو بمعنى تقريب وجهات النظر بين القاهرة وأنقرة لن يمر إلا عبر الرياض، وجوهر عودة العلاقات بين مصر وتركيا هو رغبة تركيا في عودة العلاقات الاقتصادية أكثر من السياسية كون ذلك يصب في صالح الاقتصاد التركي حيث كان لإقدام القاهرة على إلغاء اتفاقية الرورو في آذار/ مارس 2014 أثر سلبي على شركات النقل البحري التركية.

(ب) المصالحة مع سوريا: على الرغم من الهوة الكبيرة بين أردوغان والأسد إلا أن ملف الأكراد يجمع دمشق وأنقرة أكثر ما يفرقهما خاصة في ظل رغبة الطرفين في منع قيام أي كيان كردي في شمال سوريا على حدود تركيا وقد لعبت الجزائر دور الوسيط السري في نقل الرسائل بين البلدين.

ويبقى الموقف من بقاء الرئيس الأسد من عدمه يقع تحت مظلة تفاهمات أمريكية روسية في ظل السعي الدؤوب لمكافحة الإرهاب ثم البدء في الحل السياسي للأزمة وهذا ما ترفضه عواصم ثلاث داعمة للمعارضة السورية أنقرة والدوحة والرياض فهي ترغب في الرحيل الفوري للأسد والبدء في الحل السياسي من خلال هيئة الحكم الانتقالي وتطبيق مقررات جنيف 1.

رابعا: تركيا وتكتيك المصالحات من أجل تصفير المشكلات

إذا نظرنا نظرة أكثر عمقا في الخطوات الأخيرة التي اتخذتها حكومة بن على يلدرم نجد أنها تسعى للحفاظ على المكتسبات التركية التي جنتها عبر العقد الأخير وتحت حكم حزب العدالة والتنمية وتريد الحفاظ على الرخاء الاقتصادي الذي تحقق لكثير من الشعب التركي، وتهدف المصالحات السياسية إلى تحميل تركيا أعباء سياسية واقتصادية واستراتيجية أكبر منها كدولة وتهدف هذه المصالحات أيضا إلى تصفية الأجواء الخارجية  مع العديد من الدول، ورغم انتقاد الرأي العام التركي للتطبيع مع إسرائيل إلا أن توسيع مظلة المصالحات خفف من وطأة النقد الحاد القادم من المعارضين لحكم أردوغان، كما لم تخسر الرئاسة التركية الصداقة مع حركة المقاومة الإسلامية حماس بسبب عودة التطبيع ويبدو أنها تسعى إلى خسارة التنظيم الدولي للإخوان المسلمين إذا أقدمت أنقرة على المصالحة مع مصر وهذا كله يعد ذكاء سياسيا وحصافة من قيادة لم تعتد سياسة التهدئة.

تصفير المشكلات خارجيا يجعل تركيا تتفرغ للداخل السياسية والعسكرية السياسية المتمثلة في معركة الدستور الجديد، مواجهة الأحزاب والحركات السياسية الداعمة للإرهاب كما تصفها الحكومة، والعسكرية المتمثلة في ارتفاع وتيرة العمليات الإرهابية سواء من حزب العمال الكردستاني المصنف إرهابيا وتنظيم داعش الذي أخذ يضرب الداخل التركي بشكل متلاحق والذي أظهر فيما يبدو أن تركيا تريد تعاونا استخباراتيا أوروبيا وروسيا وأمريكيا لكبح جماح الإرهاب الذي يستهدف تركيا، وقد يستمر نهج المصالحات وأن تعود حكومة بن علي يلدرم صاحب الأصول الكردية للتلويح مرة أخرى بالمصالحة مع الأكراد واتفاق السلام الذي وقع عام 2012.

خلاصة القول: إن لغة المصالح العليا هي التي تحكم العلاقات الدولية وإن توافر النوايا الحقيقية لتنفيذ مصالحات سياسية وعودة العلاقات الدبلوماسية يسهم في إنجاز المصالحات بالإضافة إلى اختيار التوقيت المناسب والتهيئة المسبقة للرأي العام، وأعتقد أن تركيا طبقت كل ذلك في إنجاز المصالحات التي أقدمت عليها، وحتى الآن تبقي النتيجة المرجوة هي تصفير المشكلات.

عن الكاتب

محمد حامد

باحث ماجستير في القانون الدولي والعلاقات الدولية متخصص في الشان التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس