أرطغرل بشير - صحيفة سربستيت

أكتب هذه الرسالة لك لأقدّم لك بشرى ستريحك كثيرا: خرج الشعب التركي لأول مرة ضد انقلاب عسكري، وصمد، وقاوم، ورفض مرور الانقلاب. لكن أحدا من الاشتراكيين، لم يخرج للوقوف إلى جانب هؤلاء الناس من "العامة"، لأنهم اشتراكيون، تقدميون، استشراقيون، لأنّ إفشال الانقلاب سيفيد أردوغان أكثر من الجميع.

هل تتذكر ما قلته أنت للطبيب عندما رأيتك آخر مرة؟ تقريبا قبل عام من وفاتك، قلت للطبيب: رجاءً، افعل أي شيء، أريد أنْ أعيش مدة أطول، كي أرى كنعان إفرين يُحاكم بتهمة الانقلاب، وحتى أريد رؤية موته إنْ أمكن، لا تتركني أموت قبل ذلك.

الحمد لله، أنت شاهدته وهو يُحاكم، ويُحكم بالسجن المؤبد بتهمة الانقلاب، ونزع كل رتبه العسكرية. اعلم أنّ فرحتك لم تكتمل، لأنك لم ترَ موته، لكن الحمد لله، نحن عشنا ورأينا ذلك أيضا.

لكن ليس هذا هو السبب وراء كتابة هذه الرسالة لك، وإنما هناك بُشرى أكبر بكثير، ستريحك من كل الآلام، وهي أنّ المجتمع التركي، والشعب التركي، وقف لأول مرة في تاريخ الشعوب، في وجه انقلاب عسكري، وقف في وجه الرصاص، والصواريخ، والدبابات، والطائرات، والعربات المصفحة، وفي وجه الضباط والجنرالات، وقف وصمد، وقاوم، ورفض مرور الانقلاب، وانتصر لمستقبله.

سقط من كانوا في أوائل الصفوف، لكن الشعب لم يتراجع، سقط من كان في الصفوف التالية، لكن الشعب لم يتراجع، بل بقي في الشوارع والميادين، ولا يزال هناك، ولم يتراجع ولم يترك مكانه. نعم، صدّقني ما قلته لك صحيح، ويُمكنك الآن أن تُنهي آلام قلبك، وتنام في أمان وطمأنينة.

لكن سجّل عندك، عندما سآتي سأطلب منك البشارة.

انتظر، سأعطيك بشارة جديدة، وأنا أعلم بأنك ستفرح كثيرا لها أيضا، قلبك سيرتاح أكثر، أقول لك: إنّ المسلمين المتدينين هم الذين كانوا في الصفوف الأولى للتصدي للانقلاب، هؤلاء الذين تربوا منذ بداية الألفية من أجل هذه اللحظة، وبرغم أنهم عانوا الآلام الكثيرة، لكنهم أقوياء وأشداء، ولم يسمحوا بسحق ثورتنا المجيدة.

كانوا مدعومين بوضوح من أمريكا، وربما من الاتحاد الأوروبي، واجتمعوا واتحدوا واستخدموا جماعة تنسب نفسها للإسلام، من أجل الانقلاب، أو إشعال حرب أهلية على الأقل، وبدؤوا محاولتهم، وتسببوا باستشهاد 246 شهيد، وإصابة 2186 مُصاب، لكننا انتصرنا يا أحمد، انتصرنا!

هل تريد أكثر؟ انتظر قليلا حتى التقط أنفاسي.

عُمرنا هذا الذي ينتهي بين طرفة عين وانتباهتها، رأينا في لحظاته الأخيرة وتعرفنا فيه على إخوتنا.

في تلك الليلة، صدحت كل المساجد بالصلوات: الصلاة والسلام عليك يا رسول الله!

قالت لنا المآذن استيقظوا، وطار الحمام. قالوا لنا استيقظوا فإنّ الوطن في خطر! اخرجوا للشوارع، وتوحدوا كتفا بكتف، لأنّ الحقوق التي حصلنا عليها بأظافرنا، وانتزعناها بأسناننا، لأنّ حقنا في الابتسامة، وفي الحرية، الذي حصلنا عليه في السنوات الأخيرة، كله في خطر، لذا انهضوا واستيقظوا!

لا أعلم ماذا قالوا بالضبط، الله أكبر كبيرا، لكنني رأيت كيف أنهم مشوا بكل كبرياء وبطولة فوق الظالمين، دون أنْ يرفّ لهم جفن، كنت هناك، ورأيت ذلك، وشهدته بنفسي.

خرجوا مباشرة إلى الشوارع بعد اتضاح مشهد الانقلاب، لم يكن خروجا عشوائيا إلى الشوارع، بل خرجوا وكأنهم يسيرون وفق هداية الله وتخطيطه، فأي منطقة، أو حي، أو بلدة، أو مدينة، أو قرية، أو ولاية كانت بحاجة لتواجد الناس، خرج الجميع هناك. وأول منطقة توجهوا إليها هي الجسر، ثم إلى المطارات، ثم إلى الثكنات العسكرية، وإلى القواعد الجوية، ثم إلى الميادين، ثم إلى البرلمان، ومقر رئاسة الجمهورية، ومقر رئاسة الأركان. تواجدوا في جزيرة ابن عمر، في إسطنبول، في ملاطيا، في أنقرة، في كازان، في دنزلي، وخرجوا في كل المناطق التي سعى العسكر لاحتلالها، ونظفوها من العساكر، وسيطروا عليهم، وأوقفوا الدبابات، وأنزلوا الطائرات المروحية والطائرات الحربية، وخرجوا للشوارع، ولم يسمحوا للدبابات بالخروج من الثكنات، وأوقفوا الشاحنات والقاطرات والسيارات أمام مداخل الثكنات العسكرية، وربطوا الطائرات والمروحيات بالقواعد الجوية. وبالتالي جعلوا الرئيس المُنتخب، والحكومة المُنتخبة، والمجلس المُنتخب، يستمر في عمله كالمعتاد، وقالوا "لن نسلّمكم إياهم"، وأوفوا بوعدهم، ولم يسلّموا أردوغان لهم. الحمد لله، استطاعوا العودة بالبلاد من حافة هاوية حرب أهلية، وأبقوا سيطرة الدولة لحماية الوطن.

أحمد، كم شعرنا في الماضي بأنّ الكلمات لا تصف الواقع بالضبط، هل تذكر؟ كلمة "وطن"، اليوم اختلف الوضع يا أحمد، هذه الأرض هي وطننا، كلمة وطن أصبحنا نفتخر بها لأننا امتلكناه، وأصبح وطنًا لنا فعلا، لا أحد يتلاعب به، اليوم نحن نستمد طاقتنا من 72 شعبا روى هذه الأرض، و72 ثقافة بنتها، كلهم اليوم فخورون بنا. ربما تقول لي الآن اترك الأدب والتاريخ واذكر لي ما حصل ويحصل؟ حسنا، لكن امنحني الإذن، لأقول للمتدينين، كما يقولون "بارك الله فيكم، ورضي الله عنكم أجمعين"، وامنحني الإذن لأقول: "لتجفّ يداي، ويسقط لساني، وليَكُن حليب أمي حراما عليّ، إذا نسيت حق هؤلاء في يوم من الأيام".

ستقول لي "أخبرني بسرعة ماذا فعل هؤلاء؟".

خرجوا بإيمانهم، بقلوبهم، بأيديهم، خرجوا بكل شيء لمواجهة الانقلاب، وهم يسيرون، لا يهتمون بمن كان أمامهم، دبابات، طائرات، جنود، عساكر، لأنّ عملهم كله مشترك، وما قاموا به أمرٌ موحد، يهتفون أولا: يا الله، باسم الله، الله أكبر. نعم، هتفوا أيضا: لن يمر الانقلاب، وليعُد الجيش إلى ثكناته. لم أكن أفهم ما يقولون بالضبط، لكن ما كان يُطرب سمعي هو قول "والحمد لله رب العالمين".

لكن عندما أجبتك بأنهم قاموا بذلك "بإيمانهم، وقلوبهم، وأيديهم"، فإنني لم استخدم كلمة "أيديهم" مجرد استخدام عشوائي كما يفعل الاشتراكيون واليساريون.

يا أحمد، قاموا بذلك بأيديهم واللهِ، لم يكن بأيديهم رشاشات، ولا بنادق صيد، ولا مولوتوف، ولا قنابل يدوية، ليس لأنه لم يكن باستطاعتهم الحصول عليها، بل لأنهم لم يريدوا استخدامها، سمعت يا أحمد؟ لأنهم لم يريدوا استخدام السلاح. وعندما كنا في اليوم الثامن أو السابع للثورة، وبعد وصول أخبار حول احتمالية وجود حراك عسكري ثانٍ، بدأ البعض يقول علينا استخدام السلاح، لكن الجماهير فورا أعلنته بأنه محرّض وأخرجته من بين صفوفها، وقالوا له لا قوة فوق قوة الشعب، ولا إرادة فوق إرادة الشعب، ونحن أصحاب هذا الوطن.

ونحن نعلم أنّ السيطرة على الشعوب المسلمة خلال قرن مضى، من خلال الدولة العميقة، لم تستخدم خلالها الشعوب السلاح، وفضلت البقاء خارج دائرة العنف، لكنّ الشعب التركي أيضا يعرف ماذا جرى لمندريس، آهٍ يا مندريس، لذلك قالوا لن نسلمكم أردوغان، وهذا دفع البعض للاعتقاد بأنّ الشعب سيلجأ إلى السلاح، واكتشفنا بمرور الأيام أنّ هذا ما كان ينتظره الانقلابيون ويتوقعونه.

لكنهم لم يفعلوا ذلك بفضل الله، لم يلجؤوا للسلاح ولا للعنف، وإنما بقوا حريصين على أداء واجبهم في مناوبات الديمقراطية في كل ميادين تركيا، ورغم تجمع الملايين في تلك الميادين، إلا أننا لم نشهد أي حالة فوضى، أو سرقة، أو تكسير حافلات، أو أي عمل تخريبي، إطلاقًا.

بل وقفوا ببساطة، وقوة وشموخ، وقالوا: لن تمروا إلا على جثثنا، بكل بساطة.

ولم يسمحوا لأحد أنْ يزرع بذور الفتنة، أي بذور فتنة؟ أراد البعض نشر أحاديث وإشاعات حول "هجوم السنة على أحياء العلويين"، وحينها بكل بساطة تدخل الشرفاء وقالوا: "شرف السنة من شرف العلويين، وشرف العلويين من شرف السنة، وكلاهما أمانة لدى الآخر"، وأنهوا مظاهر أي تفرقة، والحمد لله.

حاولوا تبرير المحاولة الانقلابية، على أسس دينية وأيدولوجية، واقتصادية وسياسية وغيرها، لكن الشعب وقف كله وقال بلسان رجل واحد: "لا يحق لكم توجيه الأسلحة إلينا، والتي نشتريها لكم من خلال الضرائب التي ندفعها، هذا كل ما في الأمر".

وهناك إشارات كانت تدل على توجه الشعب التركي نحو هذا الفهم يا أحمد، لأنهم شاهدوا الأطفال السوريين وهم يغرقون في البحار والمحيطات، أثناء توجههم نحو الغرب، وشاهدوا تعامل الغرب معهم، ولذلك فهموا وأدركوا ما يجب عليهم القيام به.

لكن لم يكن المتعصبون للوطن فقط من المتدينين، وإنما كان من بينهم أيضا من وصفناهم في أعوام 1970-1980 بالقوميين "الفاشيين"، وعلى سبيل المثال، وأعلم أنك لن تندهش من ذلك، لكنني أريد كتابة هذا الأمر للتاريخ، فلم يكن هناك من بين مئات الآلاف التي خرجت ضد الانقلاب، لم يكن من بينهم أي "ثورجي/ اشتراكي"، بينما تواجد "الفاشيون"، وتواجدوا بكثرة، من أنصار ومؤيدي "الحزب الفاشي" حزب الحركة القومية، وقفوا وقفة رجال ضد الانقلاب.

وهذا يعني أنّ هذا الحزب "الفاشي" استفاد من دروس الماضي، وهو كان يؤيد دوما عدم الخروج للشوارع، لكن سياسته في الآونة الأخيرة المُنفتحة على حزب العدالة والتنمية، جعلته يُغيّر موقفه، ويُصبح أكثر نضوجا، وعندما أصبحت القضية في تركيا مسألة حياة أو موت، تعامل الحزب من اللحظة الأولى بمسؤولية، وأثبت موقفه المشرّف.

ومع أنّ هناك جوانب سلبية "للقومية" مثل التعصب الديني والعرقي، إلا أنّ حزب الحركة القومية أبرز جوانب أخرى، مثل تحقيق الأمن المجتمعي، والثقافة، وهذا الأمر يشبه ميلاد طفل جديد، يحمل عرفان الأناضول. لقد فهمت خلال هذه الأيام العشرة، بأنّ مفاهيم الحرية، والأخوة، والمساواة، والعدالة، والإيمان لا يُمكن احتكارها من قبل أحد.

كان المسلمون المتدينون في هذه الدولة، هم الثوريون واليساريون، والذين انتصروا لمستقبلهم، وأدركنا اليوم إنشاء أول ديمقراطية حقيقية على تراب وطننا، وأنّ المسلمين المتدينين هم ضمان هذه الديمقراطية، هذا ما تعلمته خلال العشرة أيام الماضية.

حسنا، هل تسألني ماذا فعل الاشتراكيون؟

كان الاشتراكيون يعملون جاهدين لشيطنة أردوغان، بل وشيطنة المسلمين والإسلام، طيلة الفترة الماضية، واستمروا في ذلك بكل ما أوتوا من قوة!

وعلى ما يبدو أنّ الانقلابات التي جرت، ومحاولة الانقلاب التي حصلت أمام أعينهم وليس في الأفلام، لم تستطع أنْ توقظهم حتى الآن، فكما حدثت الانقلابات السابقة، في 27 أيار/ مايو، 12 آذار/ مارس، 12 أيلول/ سبتمبر، حدثت هذه المحاولة، أمام أعينهم التي لا ترى، لكنهم لم يستيقظوا، بل أعطوا الحق لهم.

أعلم أنك حزنت، وتضايقت، لكنك لم تستغرب ذلك يا أحمد، لذلك سأخبرك بالمزيد:

لم يخرج أيّا منهم، ولا حتى شخص واحد، ضد المحاولة الانقلابية، التي جرت كما يتمنّون، في ظلام الليل الحالك، ولذلك لم يقفوا مع مَن يصفونهم "بعامة الناس"، لم يقفوا بجانب هذا "الشعب" الذي وقف بوجه الانقلاب.

ربما لأنّ مَن وقف في وجه الانقلاب هم متعصبون، متخلفون، مسلمون، يصرخون بصوت الأذان، يخافون من المثقفين، وضد الثقافة، لأنهم رجعيون، وتخلفوا عن العصر، وعقولهم متحجرة، داعشية، لا يفقهون شيئا، هم حثالة الأناضول، ومن المستحيل أنْ يقفوا مع الديمقراطية. لم يستطع أيا منهم، ولا أي شخص، أنْ يكتب "لا للانقلاب"، وأنا شاهد على ذلك.

لأنهم اشتراكيون، متمدنون، مثقفون، ولن يتعلموا الوقوف في وجه الانقلاب من المسلمين الرجعيين، ولا يريدون أنْ يكونوا أداة في يد انقلاب اردوغان المدني، لأنّ أردوغان، والعدالة والتنمية، يريد تأسيس نظام إسلامي فاشي متشدد، وبسبب هذا النظام لا يستطيعون التنفس حتى، ولا يستطيعون التحدّث.

لم يقل أيا منهم، بأنّ نجاح الانقلاب يعني تحويل تركيا إلى جهنم من الحرب الأهلية، لم يستطع أيّا منهم القول بأنّ انقلابا مدعوما من أمريكا يعني ضرب استقلال تركيا ووحدتها، أنا شاهد على ذلك.

ولم يتحدث أي شخص منهم، بأنّ محاولات الوصول إلى الحُكم بطرق غير مشروعة، مثل التوجه للسلاح، والعنف، والحرب الأهلية، واستخدام أساليب غير ديمقراطية، والقتل، قد قامت بها منظمة غولن، وأنّ هذا الأمر مرفوض. أنا شاهد على أنهم لم يتحدثوا ولو بكلمة عن منظمة غولن الإرهابية.

مع أنّ كلمة "فاشية" إنْ أردت إطلاقها على أحد، فهذه المنظمة هي الأحق بها، لكنهم لم يتحدثوا عن ذلك، وتصرفوا وكأنّ المنظمة غير موجودة، لأنّ هؤلاء اشتراكيون، ديمقراطيون، متقدمون، استشراقيون، لأنّ إفشال الانقلاب كان سيستفيد منه أردوغان أكثر من الجميع، لأنه سيقود النظام إلى فاشية فوق فاشية، وشريعة فوق شريعة، لأنّ أردوغان عمل تطهيرًا عرقيًا للأكراد حتى يصبح رئيسًا، وهو رئيس فاشٍ لا يضره استخدام أي منظمة من أجل الوصول إلى ما يريد.

نعم، هكذا الوضع يا أحمد، تعبت أنا وأنت، دعنا ننام قليلا، ونحن نشعر بتحسن آلام قلوبنا، قبل أنْ نغوص في هذه السلبيات أكثر.

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مواضيع أخرى للكاتب

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس