أحمد عبد الرحمن - ترك برس

مضيق البوسفور شريان إسطنبول النابض حيوية، والذي لا تعرف الشيخوخة طريقاً إليه ابداً. لا يمل الأدباء والمفكرون من التغزل به، وحكاياته لا تنتهي.

إنه الممر المائي الوحيد الذي يربط البحر الأسود بالبحر المتوسط، والفاصل الطبيعي بين أوروبا وآسيا، والذي لطالما حَلُم الملوك والعلماء بالتغلب عليه ووصل القارتين ببعضهما، وإن كانت الأهداف متعددة والغايات مختلفة. وإن كنا نظن أن أول جسر ربط بين شطري البوسفور هو جسر البوسفور (جسر شهداء 15 تموز حالياً) فنحن مخطئون فقد بني قبل أكثر من 2500 سنة على البوسفور ثلاث جسور.

1- جسر دارا الأول

في عام 513 قبل الميلاد وصل دارا الأول، وهو أشهر ملوك الإمبراطورية الأخمينية الفارسية إلى أراضي إسطنبول الحالية، وكان هدفه عبور البوسفور و مهاجمة الأسكيت الأتراك الذين كانوا يعيشون شرق أوروبا وشمال البحر الأسود، والوصول إلى عاصمتهم وراء نهر الدانوب. ولهذا الغرض كلف دارا الأول مهندسه المعماري ماندروكال بإنشاء جسر في أضيق منطقة من البوسفور بين المنطقتين التين تقع فيهما قلعتا روملي وأناضولو حاليا. قام الفرس بربط 325 قاربًا بجانب بعضها بين ضفتي البوسفور بواسطة حبال كبيرة، وشدت الحبال بواسطة بكرات ضخمة، ثم وضعت أشجار ثخينة نوعا ما مقطوعة من الغابة حول القوارب وداخلها وتم فرش التراب فوقها. ومن أجل عدم وقوع الجنود في المياه وتجنب خوف الأحصنة من رؤية المياه وضع على جانبي الجسر سياجان عاليان من الخشب.

وفي النهاية جلس دارا الأول على عرشه  في الشطر الأوروبي من البوسفور وشاهد جنوده يعبرون من آسيا إلى أوروبا في مشهد مهيب.

2- الجسر الذي أبكى الملك

في العام 480 قبل الميلاد قاد خاشاراشيا الأول الملك الفارسي الجديد الذي خلف والده دارا الأول حملة كان قوامها حسب هيرودوت (الذي قد يكون بالغ بالرقم) ألف سفينة ومليونًا و700 ألف جندي لاحتلال اليونان.

كان سبب الحملة الثأر للهزيمة التي لحقت بأبيه قبل عشر سنوات في معركة ماراتون. ولهذا الغرض قرر بناء جسر في مضيق جناق قلعة، وكلف الفينيقيين والمصريين بهذه المهمة. قام الفينيقيون والمصريون أصحاب الخبرة البحرية العالية بربط السفن ببعضها جنبا إلى جنب بواسطة حبال، ولكن وأثناء العمل هبت عاصفة قوية قطعت الحبال وأطاحت بالسفن، ورغم أن الوضع كان سيئا فقد أصر خاشاراشيا على إعادة المحاولة باستخدام سفن ذات ثلاث طبقات من المجاديف، إضافة إلى السفن العادية الأخرى لإنشاء جسرين: الأول من جهة بحر مرمرة، والثاني من جهة بحر إيجة.

وُضِعت السفن ذات الأطراف الرفيعة بحيث يكون جسد السفينة موازياً لحركة الأمواج في مضيق جناق قلعة، وبهذه الطريقة لم يكن الحمل على الحبال الواصلة بين السفن من الطرفين  كبيرا، وبعد ربط السفن بالحبال رميت مراسيها في قاع المضيق. وكانت السفن الموضوعة من جهة البحر الأسود بعكس اتجاه هبوب الرياح من الجهتين الجنوبية والجنوبية الشرقية.

ومن أجل عبور السفن الصغيرة إلى البحر الأسود تركت مسافات في ثلاث أماكن على الأقل بين السفن ذات الطابق الواحد المربوطة، وبعد إنهاء كل هذه الأعمال شدت الحبال من الضفة بوساطة جذوع خشبية مثبتة على محور تدور حوله 360 درجة، وبعد ذلك شدت السفن بحبال أخرى. وكانت الحبال المستخدمة في الشد مصنوعة من مادتي الكتان والبردي.

وبعد الانتهاء من إنشاء الجسرين وُضعت جذوع الأشجار المقطوعة بشكل عرضي، وجرى شدها بشكل متلاصق بوساطة الحبال على سطح السفن، ثم جهزت أرضية خشبية وفرش فوقها تبن تلاه تراب، وجرى دوس التراب بشكل جيد حتى اكتسب التبن مع التراب قواما صلبا، ثم وبعد الانتهاء من ذلك ومنعا لنفور الأحصنة والحيوانات من رؤية الماء تم وضع حاجز خشبي مرتفع قليلا على كل جانب من جوانب الجسر.

وأخيرا بدأت الاحتفالات مع العبور، وكان الملك في الطرف اللآخر يشاهد جنوده يعبرون وهو يبكي من الفرح.

لم تنتهِ الحكاية هنا، ففي العصور التالية ستجري محاولات لربط دائم بين شطري البوسفور سنتكلم عنها لاحقًا إن شاء الله... فللقصة بقية...

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!