د. زهير حنيضل - خاص ترك برس

ما التسمية التي يمكن أن نطلقها على ما يجري في الشرق الأوسط في السنوات الأخيرة يا ترى؟

هل هي فوضى خلاقة أم سياسة فذة!

لا يمكن للمراقب لما يجري أن ينكر أننا نشهد حالة تناقض سياسي في الشرق الأوسط، تجلت واضحة في السنوات الأخيرة.

ومن تداعيات هذه الفوضى أنها أفرزت ظهور تحالفات، بعضها قديمة مخفية تم تجديدها مع تغيير في  بعض حيثياتها، وأخرى جديدة لا يمكن للعقل تقبلها، وهي عبارة عن هجين لن يكتب له العيش طويلا، نظرًا لعبثية محاولة ردم الهوة السحيقة بين طرفي التحالفات.

التحالف التركي - الروسي:

بدأت بوادر هذا التحالف بعد موجة التصعيد بين البلدين، والذي بلغ ذروته في حادثة إسقاط الطائرة الروسية داخل الأجواء التركية.

وقد لاحظنا رد الفعل الروسي المتباين جدًا بين حادثة إسقاط الطائرة الروسية ضمن الأجواء التركية وبين حادثة مقتل السفير الروسي في موسكو.

في الحادثة الأولى "إسقاط الطائرة الروسية داخل الأجواء التركية":

عمد الجانب الروسي إلى التصعيد الفوري مع تطبيق عقوبات اقتصادية وحظر توريد منتجات تركية واحتجاز رجال أعمال أتراك في روسيا، ولم يكتف الجانب الروسي بهذا القدر، بل خرج بعض المهرجون من الساسة الروس على شاكلة "جيرينوفسكي" ليهدد بضرب إسطنبول بقنبلة نووية!

والشيء بالشيء يذكر، فإن جيرينوفسكي هو أحد المشاركين في مسرحية تلميع صورة بوتين والإبقاء عليه مرشحًا رئاسيًا لا يهزم.

في الحادثة الثانية "مقتل السفير الروسي في أنقرة":

سارعت موسكو إلى اعتبار الحادث عملية إرهابية تستهدف دولة روسيا الاتحادية والعلاقات الروسية - التركية، مبدية ثقتها بقدرة أنقرة على كشف ملابسات الجريمة، وأزاحت بذلك موسكو عن كاهل أنقرة حملًا ثقيلًا جدًا كان ليرهقها وليدخلها في صراعات لا ناقة لها  فيها ولا جمل لو أرادت موسكو التصعيد، خاصة وأن توقيت جريمة الاغتيال جاء في مرحلة زمنية حساسة جدا، وإن كانت النتائج قد أظهرت - فيما بعد - مسؤولية جماعة غولن "فيتو" الإرهابية عن عملية الاغتيال.

بالعودة للتحالف التركي - الروسي، من المستفيد من التحالف؟

لا يحتاج الأمر إلى تفكير، فالنتائج هي التي تدل على المستفيد الأكبر من هذا التحالف، وهنا أجزم أن روسيا هي المستفيد الأكبر من التحالف مع تركيا وليس العكس، فما حققته روسيا هو أشبه بالحلم، نالت روسيا عقودا استثمارية طويلة الأمل في سورية، احتكرت بموجبها الفوسفات السوري في البادية والغاز والنفط في البحر، كما أنعشت روسيا ميزانيتها الاقتصادية حين سدت عنها الحاجة لإنفاق مليارات الدولارات على المشاريع التدريبية العسكرية، فقد حولت روسيا الساحة السورية إلى حقل تدريب مفتوح، قامت بتجربة كافة الأسلحة في هذا الحقل، كما وفرت لطياريها إجراء مناورات تدريبية مكثفة في أجواء آمنة لا وجود فيها لمضادات تهدد تدريباتهم، ووفرت روسيا لقواتها البرية فرصة مشاريع قتالية حية تحت غطاء جوي ناري، وكل ذلك مدفوع الأجر، أي أن روسيا لم تدفع روبلا واحدا، بل تم احتساب كل تلك النفقات الحربية والمقايضة عليها بعقود الاستثمار طويلة الأمد لمصادر الغاز والفوسفات في سورية بالإضافة للقواعد العسكرية الروسية في سورية والاستيلاء على موانئ سورية لصالح روسيا، التي باتت تسيطر على البحر و50% من الجو والبر في سورية.

كسبت روسيا، حين أمنت للنظام الفاشي الأسدي تهجير السوريين وإعادة مدن بأكملها للسيطرة الأسدية، عبر اتفاقيات الهدن وخفض التصعيد.

وإن كانت تركيا قد حققت مكاسب بسيطة فإنها ستعود لتخسرها، نظرًا لكون تلك المكاسب بدون استراتيجية بعيدة المدى إنما هي آنية ومؤقتة، فالحضور التركي في الشمال السوري مؤقت، وسينتهي هذا الحضور لحظة الوصول إلى حل سياسي في سورية، وهذا ما يفسر رفض الاتحاد الأوربي وأمريكا المساهمة في إنشاء منطقة آمنة للسوريين في الشمال السوري في المناطق المحررة التي تم طرد عصابات الآبوجية منها حديثا "شرق الفرات ضمن عملية نبع السلام"، فأمريكا والاتحاد الأوربي يدفعان نحو حل سياسي في سورية بغض النظر عن شكل هذا الحل، وإن كانت تركيا هي الأخرى تدفع باتجاه هذا الحل السياسي في سورية، فذلك لأسباب عدة ومن أبرزها أن الورقة السورية لطالما كانت عبر السنوات الماضية ورقة الجوكر بالنسبة للسياسة التركية في تعاملها مع الغرب، وقد أمنت ورقة الجوكر هذه - الورقة السورية - لتركيا عديد المكاسب، لكنها اليوم لم تعد بذات الفاعلية، مع وضوح الصورة النهائية، لا غالب ولا مغلوب، بل حل سياسي يفرض على السوريين.

هل استفادت تركيا بحصولها على منظومة الدفاع الجوي إس 400:

دخلت تركيا مرحلة توتر مع الناتو وأمريكا بخصوص إس 400، واليوم ومع اكتمال وصول منظومة الدفاع الجوي إلى تركيا، فالسؤال:

هل تملك تركيا القدرة على اتخاذ القرار بتفعيل وتشغيل بطاريات الدفاع الجوي إس 400 رغم التهديدات الأمريكية لتركيا بالعقوبات في حال قيامها بذلك؟

في حال ذهبت تركيا إلى تشغيل إس 400، هل يحتمل الوضع الداخلي التركي من جهة والوضع السياسي التركي الخارجي من جهة ما يترتب على هذه الخطوة من تبعات!

حسنًا، لماذا ليبيا ولماذا هذه الاتفاقية البحرية بالذات؟

تركيا ليست بصدد الدخول في صراعات ونزاعات إضافية، ومن هنا تبرز الاتفاقية التركية - الليبية الموقعة بين أنقرة وطرابلس، فهي - بعكس ما يظهر - ليست هجومية بقدر ما هي دفاعية في حقيقة الأمر.

الاتفاقية البحرية التركية - الليبية هي ورقة رابحة مزدوجة لتركيا، وهي الخيار الأنسب مع قرب انتهاء صلاحية الورقة السورية دوليا وشبه إجماع عالمي على صيغة الحل في سورية.

تعتبر ليبيا ورقة الجوكر الثانية بالنسبة لتركيا وهي موجهة بشكل مزدوج:

- أولًا، تجاه:

* "مصر وإسرائيل واليونان" فيما يخص موارد الطاقة والتنقيب عنها في البحر المتوسط وتصديرها إلى أوربا.

* "السعودية ومصر والإمارات" فيما يخص العملية السياسية في ليبيا، وكمتابعة للصدام السياسي الحاصل بين تركيا وهذه الدول في "سورية وفلسطين".

- ثانيًا، تجاه:

روسيا وأمريكا معا، نعم تجاه روسيا وأمريكا معا:

تساند تركيا السراج، بينما تساند روسيا حفتر، والتصادم بين تركيا وروسيا هو واقع ملموس في ليبيا، بدليل الاشتباكات الأخيرة التي أوقعت قتلى روس "فاغنر" متعاقدين ضمن صفوف قوات حفتر.

تضغط روسيا على تركيا لمنعها من التحول إلى طريق أساسي لتصدير الغاز إلى أوربا، لذا فإن روسيا تعارض الاتفاقية التركية - الليبية حول ترسيم الحدود البحرية بين الدولتين.

حسنًا، ماذا عن علاقة الورقة الليبية بالنسبة لتركيا وعلاقتها بأمريكا؟

تلوح تركيا بورقة الاتفاقية التركية - الليبية في وجه إسرائيل، فالاتفاقية تعني أن الوحيد الذي يستطيع تصدير الغاز إلى أوربا عبر المتوسط هي تركيا، وهي تملك النقطة صفر بحريا، والتي لا يمكن لأي أنبوب غاز من شرق المتوسط أن يخرج إلا عبرها، وقد أمنت الاتفاقية البحرية بين تركيا وليبيا هذه النقطة بالغة الأهمية الاستراتيجية لأنقرة.

وبالتالي، فإن تفعيل الاتفاقية البحرية التركية - الليبية يعني منع تركيا لإسرائيل من مد أنبوب الغاز "إيست ميد" عبر قبرص الرومية إلى اليونان. وقد رأينا كيف سارعت إسرائيل لعرض التفاوض على تركيا فيما يخص تصدير الغاز إلى أوربا بعد إعلان الاتفاقية  البحرية التركية - الليبية.

هذا  يعني، أن تركيا تمارس - بشكل غير مباشر وعبر إسرائيل - الضغط على أمريكا لإيقاف الضغط على تركيا فيما يخص "إس 400" والقوانين الأخرى المتعلقة بالعقوبات ضد تركيا مثل قانون "الاعتراف بإبادة الأرمن" الذي أقره مجلس النواب الأمريكي، واحتمالية فرض عقوبات أمريكية على مشروع "السيل التركي" على غرار القانون الذي صدر بحق مشروع أنبوب الغاز الروسي "نورد ستريم 2" والذي أوشك يكتمل وبلغت نسبة الإنجاز فيه 80%، ويمر أنبوب "نورد ستريم 2" من روسيا إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق بشكل مباشر، ويتمتع بكونه سيضاعف كمية الغاز التي يتم توريدها من روسيا لأوربا، وقد تذرعت أمريكا بأن هذا المشروع سيزيد من احتكار روسيا لسوق الطاقة في أوربا، وقد وقفت أوكرانيا  إلى جانب الولايات المتحدة في هذا القرار.

في حال فرض عقوبات على مشروع "السيل التركي" فإن تركيا ستبحث عن استثناء أمريكي كما كانت عليه الحال حين استثناء تركيا من العقوبات على تصدير مصادر الطاقة الإيرانية للغرب، بالمقابل فقد رأينا رفع العقوبات الأمريكية عن عمليات توريد السلاح إلى قبرص الرومية، في خطوة تندرج ضمن حزمة من القرارات التي تهدف لمحاصرة تركيا وإبقائها ضمن دائرة التوتر، سبقه تهديد تركي بإغلاق قاعدة إنجرليك العسكرية في تركيا وإخراجها من حسابات الناتو، فجاء الرد الأمريكي بكون إنجرليك عبارة عن قاعدة إمداد يستخدمها الجيش الأمريكي للتزويد العسكري لقواته في أفغانستان وأنه يستطيع الاستغناء عن هذه القاعدة.

ما هو مصير التحالف التركي - الروسي؟

لا يمكن للتحالف التركي - الروسي أن يستمر، فقد وصل إلى مفترق لا التقاء بعده - وإن كان الأمر يحتاج لبعض الوقت لتأمين عملية فض هذا التحالف ولا يمكن أن يتم الأمر بالسرعة التي قد يتخيلها البعض - بعد أن أدرك طرفا التحالف أنه لا يمكن الذهاب أكثر من ذلك في هذا التحالف، وتبقى الصورة التي سينتهي عليها هذا التحالف، فقد تكون على هيئة تصعيد  في سورية "إدلب ومنبج وتل رفعت" وباحتمالية أقل في  ليبيا، وقد تكون بوتيرة أخف مع الاحتفاظ بعلاقات اقتصادية تبقى بعيدًا عن المشهد السياسي.

ضربة المعلم التركي:

يحسب لتركيا أن الاتفاقية البحرية مع ليبيا جعلتها تمتلك ورقة تفاوضية مهمة جدًا قد تحل لها عديد القضايا الشائكة، وتعتبر "ضربة معلم" جاءت في الوقت المناسب بالتزامن من فقدان التحالف التركي - الروسي لمقومات الاستمرارية، وضرورة امتلاك تركيا لورقة رابحة تتيح لها الحركية السياسية والتفاوضية وتمنحها استمرارية الدور الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط.

عن الكاتب

د. زهير حنيضل

طبيب و أديب و معارض سوري مستقل


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس