د. مصطفى حامد أوغلو - ترك برس 
مقال طال انتظار كتابته زمن طويل...
البداية كانت عندما كنت شاباً جامعياً مولع بقراءة المقالات الفكرية والسياسية ليس من مصدر واحد إنما من مصادر مختلفة  متناقضة، حيث كان البقال والمتواجدون بالبقالة يستهجنون ويلتفتون لي باستغراب عندما يسمعون أسماء الصحف المتناقضة التي أطلبها، كنت أقرأ المقالات السياسية المتناقضة المتصارعة ، والرياضية بوقت واحد، حيث كان اساتذتنا بكلية الطب يومها يكتبونها...
اثناء لقاءاتنا الشبابية السياسية والفكرية والسهرات الرياضية ، كنت أطرح وجهات النظر التي أقرأها بقولي "أنا أرى" فأجد صداً واستخفافاً واعراضاً واحتجاجاً على ما اقول ، مع العلم أنه رأي كتاب مرموقين ومفكرين مشهورين واعلاميين و محللون رياضيون ...
كنت أصاب بالدهشة والحيرة ...لكن دهشتي كانت أكبر وأشد عندما كنت أعيد نفس الآراء والأفكار بعد مضي شيء من الوقت بعبارة " الكاتب الفلاني يرى كذا، وقرأت المقال للمفكر الفلاني يرى كذا،  والمحلل الرياضي الفلاني يرى كذا ، كانت دهشتي عندما ارى الاصغاء والقبول والتأكيد والتأييد...
ولكن المدهش بعد ذلك هو أكبر عندما بدأت أقول أفكاري وآرائي الخاصة منسوبة لغيري لأجد ايضاً التقبل والنقاش والتأييد والسماع ...
يومها أدركت شيئاً هاماً في مستقبل حياتي ...
وتعلمت درسا مبكراً نفعني طيلة حياتي...
أن التقييم يجب أن يكون للقول وليس للقائل ..
قبل عشرين عاماً كنت أدير مركزاً طبياً جائني مريض من المعارف المقربين، عاينة طبيب المركز المناوب ، فقمت بمعاينته مرة ثانية بدون مقابل، وكتبت له ثلاثة أنواع من الأدوية ، وكنت معيد طالب أختصاص يومها ، بعد اسبوع عاد لي وهو محمر الوجه خجلا، وقال لم اقتنع تماماً بكلامك فذهبت للبرفسور الفلاني حيث قرأت له مقالاً بالجريدة الفلانية ..
قلت له الأمر بسيط وعادي ولاحرج ، قال نعم لكن كتب لي وصفتك نفسها بنفس الجرعة ونفس الترتيبب وكأنها طبق الأصل... ودفعت خمس أضعاف ما تأخذون...ولايزال البعض يكررون نفس الأمر..
في بداية الثورة السورية والربيع العربي والهجرة الى تركيا كان لنا نحن القدماء هنا ولايزال كثير من النصائح والآراء والأفكار التي ضربت بعرض الحائط من القادمين والمضيفين وهانحن نرى مرارة كثير من نتائج الاعراض عنها وتسويفها في حينها...مع الأسف الشديد 
في لقاء فكري سياسي قبل اثنا عشر عاما في بداية الثورة السورية ، ضم عشرات النخب الفكرية والسياسية السورية، جلس أحد السياسيين الذي أصبح سفيرا للائتلاف في أحدى الدول الغربية فيما بعد يوجز تقريرا عن لقاءاتهم فقال: مهندس السياسة التركية داوود أوغلو يرى أن نعمل كذا، وسفير بلجيكا بأنقرة يقترح كذا ، ونائب الوزير الفرنسي ينصح بكذا ، والوزير السعودي يقول كذا ، والسيدة كلنتون تقول كذا.. وبدأ يعدد مقتراحات وأفكار واملاءات وامنيات ومطالب غيره...
سألته يومها هل سألت بعض نخب السوريين عن آراءهم بهذا المواضيع كلها...
كل هذه الأراء مقبولة لكنني أرى أن يكون أيضا كذا وكذا ...
وهناك الكثير من السوريين الذين لديهم مقترحات وآراء ادق وأصدق..
طبعا كلامنا ضاع ولم يسمع لأنه لم يصدر من وزير ولا سفير ..
مشكلتنا أننا لا نسمع لبعضنا...
ونزهد بأفكار بعضنا ...
وننبهر بأفكار غيرنا...
لأنه غريب وغربي ووزير وسفير..
قريبة لي تعاني من نقص بزيادة الوزن ، وتعرف أنني أعالج البدانة والنحافة ، ذهبت لأختصاصية تغذية مشهورة ، ودفعت أضعاف ما نأخذ نحن ، لكن المفاجئة عندما أطلعت على ملفها لأرى أنها أحالتها لطبيب الداخلية وكتبت على الملف أسمي وهي لاتعرف أنها قريبتي...
أخر هذه المفارقات عشتها مع هذه الظاهرة والسلبية المجتمعية ، مريض لي من دولة عربية وعنده ابنه طبياً مستشارا بدولة غربية ، كنت أصف له الدواء ، ثم يقول لي ابني قال لي كذا ، لكنني لن اسمع كلامه ، أنا أثق بك ،
 هوأبني وأنت طبيبي...
هو الآخر يزهد بأبنه القريب وهو طبيب مشهور بدولة أوربية...
يأتيني كثير من العوائل البعيدين عني الذين يتابعون بعض كتاباتي اليومية على الواتس آب، مع أبناءهم خصيصاً ليسمع أولادهم ما أقول من نصائح ومقترحات وأفكار ، ويقولون هنيئاً لأولادك واقاربك ومعارفك من حولك ...
لكن هل كل من حولي يقرأون ما أكتب ويسمعون ما أقول..!؟؟
تكتب المقال وترسله لمجموعاتك الخاصة مع المقربين، وقد لايقرأه الكثيرون ثم يأتيك مريض غريب أو صحفي بعيد أو يتصل بك شخص لاتعرفه ليناقشك أو يستشيرك أو حتى ينتقدك أو يعترض عليك فيما كتبت...
طبعا لا أظن هذا الكلام ينطبق علي شخصيا فقط.. 
ولم أكتب عن هذه الظاهرة التي أراها عامة وتخص الكثيرين من حولي ، لم أكتب عنها أنتصارا لنفسي ، بل للفت الأنظار لسلبية من سلبيات المجتمع بالزهد بأفكار المقربين ، بل والاستخفاف بها والاعراض عنها والتنقيص منها ، على عكس مايجد خارج بيته وبيئته، ربما نيتجة الألفة التي تقتل البريق والتقارب والعشرة الدائمة التي تزيل الهيبة وكثرة الاحتكاك الذي يولد التجاهل والاستهانة..
لكنها سلبية تضر بالمجتمع وتفقدنا الاستفادة من أقرب الناس لنا...
فهل يصدق علينا قول العرب قديماً
أزهد الناس بالمرء أهله وذووه وجيرانه...
يروى أن والدة أبي حنيفة كانت تثق بتلميذه و تحب حضور دروسه وتستخف بعلم ابنها، بل كانت نطلب من ابو حنيفة أن يأخذه لمجلس تلميذه لتستفتيه في مسألة فيفعل ..فيقول له إذن فتلخبرني بالاجابة ، ليكررها وتسمعها أمه...فترضى بجواب تلميذ أبو حنيفة..
يقول احد علماء دمشق يأتينا الطلاب والمريدين من كل بقاع العالم لسماع الخطبة وتلقي الدروس وتعلم الفقه بينما  بعض جيران المسجد ربما لم يدخلو علينا مرة واحدة...
الزهد بالمقربين سنة كونية قديمة وليست جديدة حتى الأنبياء والرسل ودعواتهم نالت الاعراض من قبل الأقرباء والحصار بل والحرب والقتال بيمنا وجدوا النصرة والدعم والايواء والقبول والحماية من البعيد الذين هاجروا اليهم..
أكتب هذا المقال لأربطه بالسياسة والواقع السوري والعربي وأقول 
انه وبعد نجاح حزب العدالة والتنمية التركي بالوصول للحكم قال أحد الذين اعتادوا الحكم ، معترضاً على هذه الوجوه التي  بدأت تظهر وتقود البلاد ولم تكن معروفة من أبناء الأناضول..
قال وبفم مفتوح مندهش مستغرب متفاجئ :من أين خرج هؤلاء !!؟؟ 
وهاهو أردوغان لا يزال يفاجئ الجميع بأسماء جديدة مع كل تشكيلة حكومة جديدة وعلى مرور عشرين عاما...
دعوة للسياسيين أن يلتفتوا حولهم ويسمعوا أفكار ومقترحات من يعاشرون فهي أهم من نصائح مقترحات كثير من البعيدين..
لنسمع مايقولون بعيدا عن موقفنا الشخصي منهم ..
وليكن ديدننا أكل العنب لا الناطور...
ولنبتعد عن التكبر الفكري والأنا المتضحمة والغرور الاجتماعي وعقدة الأخ الكبير ...
ونصيحة للأصدقاء والأقارب والمقربين أعرفوا قيمة من معكم فهو أصدق الناس الناصحين لكم..
قديما قيل مزمار القوم لا يطرب 
فما أحلى أن نجعل مزمار حينا  هو من يطربنا..

عن الكاتب

هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس