محمود عثمان - خاص ترك برس

يتوجه الناخبون الأتراك يوم الأحد الموافق 31 مارس / آذار إلى صناديق الاقتراع لانتخاب رؤساء بلدياتهم، وتكتسب هذه الانتخابات أهمية استثنائية من حيث كونها سترسم ملامح مستقبل البلاد السياسي للسنوات المقبلة. فبينما يأمل حزب العدالة والتنمية الحاكم في استعادة كبرى البلديات، إسطنبول وأنقرة وربما إزمير، يطمح رئيس بلدية استانبول الحالي ومرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو إلى الفوز مرة أخرى، كخطوة لا غنى عنها، لتمهد له الطريق أمام وصوله إلى زعامة حزبه، ثم المنافسة على منصب رئاسة تركيا.

**المعادلة السياسية قبيل موعد الانتخابات  

تشهد الساحة السياسية التركية استقطابا سياسيا غير مسبوق على مستوى الانتخابات البلدية، نظرا لانعكاسات نتائجها على مستقبل الحياة السياسية في تركيا، وتدخل أحزاب المعارضة، التي كانت ضمن  تحالف سياسي موحد قبل خمس سنوات، سباق الانتخابات هذه المرة متفرقة متشرذمة، بعد هزيمتها في الانتخابات الرئاسية عام 2023، مما يقوي موقف حزب العدالة والتنمية، الذي نجح في المحافظة على تماسك اتفاقه مع حزب الحركة القومي ضمن تحالف الجمهور.

وتجري الانتخابات في أجواء سياسية مختلفة جذريا عن انتخابات عام 2019 ، حيث هناك مخاطر كبيرة على حزب "الشعب الجمهوري" وأحزاب المعارضة عمومًا، حال فشلها في هذه الانتخابات، مما قد يتسبب في مشاكل داخلية كبيرة، قد تعيد رسم الخارطة السياسية لأحزاب المعارضة من جديد.

ويحتدم الصراع وتتمحور المنافسة على مدينة استانبول تحديدا، أكبر مدن تركيا من حيث عدد السكان والثقل السياسي، حيث تشكل استعادتها بالنسبة لأردوغان وحزبه حاجة ملحة، لترميم الأضرار التي لحقت بحزبه جراء خسارتها في انتخابات عام 2019.

أما على صعيد حزب "الشعب الجمهوري"، فإن احتفاظه برئاسة بلدية استانبول يكتسب أهمية كبيرة على مستوى الحزب، والأهم من ذلك على مستوى المستقبل السياسي لأكرم إمام أوغلو الشخصية الأقوى في المعارضة.

أما بالنسبة لحزب "الجيد" الذي يخوض أول استحقاق انتخابي بشكل مستقل عن حزب "الشعب الجمهوري"، فإن هذه الانتخابات ستُشكل اختبارًا فعليا لزعيمته مرال أكشينار التي تواجه معارضة قوية داخل حزبها، ففي حال نجاحها فإنها ستحكم سيطرتها داخليا، وتعزز موقع حزبها في المعادلة السياسية كطرف له حضوره في الانتخابات الرئاسية المقبلة. والعكس صحيح فإن فشل حزب "الجيد" هذه الانتخابات سوف يؤدي إلى مزيد من الاستنزاف الداخلي على مستوى القيادة، ويجعله وجها لوجه أمام أزمة وجودية.

والحالة نفسها تنطبق على حزب "الرفاه من جديد" بزعامة فاتح أربكان، الذي جلب الأنظار بوقوفه المفاجئ ضد حزب العدالة والتنمية حليفه بالأمس في الانتخابات السابقة قبل عام. هذا الموقف سوف يعرضه لانتقادات كبيرة قد تصل إلى تحميلة المسؤولية في حال فشل مرشح العدالة والتنمية، لأن دخول حزب "الرفاه من جديد" ليس بهدف الفوز في هذه الانتخابات، بقدر ما هو عرقلة لمهمة حزب العدالة والتنمية. من هذا جاءت ردود الفعل عنيفة داخل حزبه، وعلى صعيد الشارع الإسلامي المحافظ الذي استنكر هذه الخطوة.

** أهمية مدينة استانبول ؟

في تصريح له مشيرا إلى أهمية مدينة استانبول قال الرئيس أردوغان : "من يحصل على بلدية اسطنبول فقد حصل على كل تركيا"..  

تكمن أهمية استانبول في تركيبتها السكانية، لأنها مزيج من المهاجرين الذين قصدوها من جميع المدن التركية، وهذا غالبا ما ينعكس على تسمية مناطقها وأحيائها، كرادنيز محلسي Karadeniz Mahallesi حارة البحر الأسود مثلا.

ولا تأتي أهمية استانبول من تركيبتها الديمغرافية فقط، بل وزنها الاقتصادي أيضا له أهميته، حيث تستحوذ بمفردها على ما يقارب ثلث اقتصاد تركيا، فضلا عن كونها معلما سياحا وكنزا تاريخيا..

وكذلك العمق السياسي للمدينة، إذ ترسل استانبول 97 نائبا برلمانيا من أصل 600 نائب يشكلون البرلمان التركي، إلى جانب الوزراء وكبار رجال الدولة، ولولا استانبول لما وصل أردوغان إلى سدة الحكم حسب قوله.

** كيف ستحدد انتخابات استانبول مستقبل تركيا السياسي

بينما يسعى حزب العدالة والتنمية الحاكم إلى استعادة استانبول ذات الأهمية القصوى سياسيا واقتصاديا وتاريخيا، تبذل المعارضة التركية قصارى جهودها في سبيل الحفاظ على بلدية استانبول بحوزتها، حيث يطمح أكرم إمام أوغلو بالفوز مرة ثانية برئاسة البلدية لأنها تشكل عتبة أساسية لمشروعه السياسي، الذي يبدأ بها وينتهي بالوصول إلى هدفه الأساسي المتمثل برئاسة الجمهورية، مرورا بزعامة حزب الشعب الجمهوري. فإذا نجح في هذه الانتخابات أصبحت الأبواب أمامه مفتوح على مصراعيها للوصول إلى الهدف النهائي.

أما إذ خسر أكرم إمام أوغلو انتخابات استانبول، فإن مستقبله السياسي سوف يكون محفوفا بالمخاطر. لأن حزب الشعب الجمهوري يعيش حالة من الغليان الداخلي والتجاذبات الحزبية التي تزداد تعقيدا يوما بعد يوم، بدء من رئيسه الحالي أوزجور أوزال الذي يثبت رشده السياسي في قيادة الحزب بعد، حيث يطلق عليه الرئيس المؤقت، نظرا لكثرة أخطائه وسقطاته السياسية، وليس انتهاء بالفضائح المالية والفساد الإداري الذي تسبب في استدعاء المحكمة لشخصيات بارزة في الحزب للتحقيق معها.

** تجاهل عربي وبرود غير مسبوق تجاه الانتخابات التركية 

تجري الانتخابات البلدية في تركيا وسط استقطاب سياسي عالي الوتيرة، وتنافس حاد بين حزب العدالة والتنمية  وأحزاب المعارضة. لكن الشارع العربي، وربما للمرة الأولى، يتابع هذه الانتخابات بقدر من اللامبالاة، بعد أن فقد معظم الجمهور العربي ثقته بأن تركيا بقيادة حزب العدالة والتنمية لم تعد نصيرا وملاذا لقضاياه ونخبه الفكرية المعارضة، وقد تعزز هذا الفتور بعد حرب غزة، حيث الموقف الرسمي التركي جاء مخيبا للأمال بالنظر إلى حجم الكارثة الإنسانية. وكذلك خفوت التفاعل الشعبي مع القضية الفلسطينية يشكل غير معهود، فضلا عن تماهي الحزب الحاكم مع طروحات المعارضة في تحميل اللاجئين عموما والسوريين خصوصا مسؤولية المشاكل الاقتصادية التي تعانيها تركيا، وكأن الوجود العربي سبب أساسي في تراجع حظوظه بالفوز في الانتخابات !..

بدا ذلك جليا من خلال الإجراءات التي اعتمدتها وزارة الداخلية مؤخرا في التعامل مع اللاجئين والمقيمين الأجانب والعرب منهم على وجه الخصوص.

رغم كل شيء، تجدر الإشارة بل التأكيد على أن أن تراجع حزب العدالة والتنمية أمام المعارضة، أو خسارته لهذه الانتخابات، سوف تكون له نتائج كارثية ليس على تركيا فحسب، بل على الوجود العربي فيها أيضا.

عن الكاتب

محمود عثمان

كاتب سياسي مختص بالشأن التركي


هل أعجبك الموضوع؟ شاركه مع أصدقائك!

مقالات الكتاب المنشورة تعبر عن رأي كاتبها، ولا تعبر بالضرورة عن رأي ترك برس